أشهر ثلاث شجرات في السودان ..!!

 


 

 

صديق السيد البشير

siddigelbashir3@gmail.com

(1)
٭... ويلتقي الشاعر اسحاق الحلنقي مع الموسيقار بشير عباس والزهرات الثلاث «البلابل» في لوحة غنائية عذبة كانت خطوطها واصباغها وزخارفها هي «لون المنقة»... يا الشايل المنقة... ما عارف ... كيف نحنا بنشقى.. تمر الأيام ويخرج الفنان الشامل هاشم صديق للأذن السودانية عملاً درامياً بث على أثير إذاعة أم درمان في سنوات ماضية حمل اسم «الحراز والمطر» .. هو ذاته «الحراز» الذي وظَّفه الفنان العالمي إبراهيم الصلحي في حوالي (27) قطعة تشكيلية في معرض أقيم باكسفورد.. ببريطانيا.. ثم تأتي تجربة أخرى للفنان كمال ترباس في «جنا الباباي» .. وهناك «تبلدية» جعفر محمد عثمان و«دومة ود نوباوي» و«موز» كسلا و«منقة» أبي جبيهة .. والشاهد الرابط في ذلك كله .. هي الاشجار المثمرة التي كانت أرضية.. لباقة منتقاة من الاعمال الابداعية ، غير أن هناك اشجاراً أصبحت ملء السمع والبصر .. بل وضربت شهرتها الآفاق، وهي ليست «أشجار الحناء» للأديب الاذاعي سيف الدين الدسوقي.. ولا شجرة الرئيس المصري جمال عبد الناصر التي غرسها في ستينيات القرن الماضي بداخل حديقة القرشي بالخرطوم.. ولا نخيل الباوقة الذي ذكره الشاعر مبارك المغربي في اغنيته (حب الأديم) التي رددها الفنان المتصوف صلاح بن البادية ولا «شجرة أبو سن» ولا«الشجرة» التي اتخذها المؤتمر الوطني شعاراً له ولا حتى «شجرة» أبو روف بأم درمان التي صارت سوقاً فيما بعد .. بيد أنها اشهر ثلاث شجرات في السودان.
(2)
والشجرة الاولى ضمن الشجرات الثلاث.. كان اسمها يعود لشجرة حراز ضخمة كانت تقع شرق مرسى «أبو حلوق» وأتخذت استراحة للصيادين قديماً.. وتوصيفها الجغرافي.. هي كائنة في الجزء الشمالي الغربي للري المصري - إلى الغرب من سرايا نمر.. وهي التي عرفت بـ «شجرة محوبك» و«محوبك» هذا من الاداريين الذين خدموا في السودان في فترة الحكم التركي المصري.. وكان قد اتخذها - أي الشجرة - استراحة .. تفيأ تحت ظلها.. وقد اشتهرت به وصارت يطلق عليها «شجرة محوبك» وانسحب الاسم على قرية «أم عش» غير أن نعوم شقير ، يصف محو بك في كتابه الأول الموسم «تاريخ وجغرافية السودان»، بأنه - أي محوبك - كان رجلاً شفوقاً، عاقلاً، حسن التدبير، فقد منع جنوده من التعدي على الأهالي، وقد بنى «محوبك» بناية خاصة لأفلام الحكومة في الخرطوم ، وحفر بئراً قرب بربر عرفت باسمه. وكانت توجد في جنوبي الخرطوم شجرة كبيرة عرفت باسمه ايضاً ومثلما أخذ «محوبك» يتكئ تحت ظل الشجرة التي عرفت باسمه، ايضاً تأتي الصدفة العجيبة في أن يتخذ غردون باشا من الشجرة المذكورة آنفاً معسكراً له.. هو ذاته غردون صاحب كلية غردون التذكارية «جامعة الخرطوم حالياً» المولود في لوتش بانكلترا عام 1833م، والذي تم اغتياله في معركة تحرير الخرطوم في السادس والعشرين من يناير عام 1885م وحررها الإمام المهدي الذي هو الأخير اتخذ من «شجرة الحضرة» معسكراً له وسيأتي تفصيلنا لشجرة الحضرة.
غير أن موثقين يرون انهم لا يستطيعون الجزم أو التأكيد أن غردون باشا قد اتخذ من ظل «شجرة محوبك» استراحة له وأن حقيقة «شجرة غردون / محوبك» غير ذلك.. بل يرى غيرهم أن الشجرة ارتبطت بمحوبك وفرض موقعها غردون.
ولكن ذات الشجرة التي أخذ اسم محوبك / غردون في الانسحاب عنها. والانفصال تماماً.. ورويداً رويداً بدأ المواطنون يطلقون عليها لفظة «الشجرة» فقط.. وبقايا الشجرة الاسم «شجرة الحراز» .. كانت كائنة حتى وقت قريب في الموقع المعروف وهو مخازن الري المصري بالشجرة بالخرطوم .
والميزة الجغرافية لشجرة محوبك أو شجرة غردون هي باعتبارها تُمثِّلُ مدخلاً لمدينة الخرطوم.. وهي أفضل مكان من بعد أمني عسكري واستراتيجي وتشير المعلومات التي بحوزتي أن شجرة محوبك تعتبر ضخمة جداً وتصلح كاستراحة للشخصيات المهمة التي تسافر على متن الباخرة.
وكان قد أنسحب ذات الاسم على «أم عش» وذلك لأنها أيضاً وكر للطيور المهاجرة، وقد سبق اسم «أم عش» شجرة «محوبك» أو «ماحي بك» أو «ماحي بيه».
غير أن ذات الشجرة.. شهدت نزول الإمام عبد الرحمن المهدي بها.. مستريحاً بها.. قليلاً ريثما يتم فتح الكبري ، الخزان في رحلته الدائمة بين الخرطوم والجزيرة أبا «معقل الانصار».. ورحلة تأتي على ظهر باخرته المسماة «الطاهرة».
(3)
أما الشجرة الثانية.. ضمن الشجرات الشهيرات في السودان .. فهي عبارة عن شجرة «هجليج» معمرة.. وتنمو بكثافة في عدد من مناطق السودان.. والمنتجة «لسمار اللالوب» .. وعرفت باسم «شجرة الحضرة» .. حيث تعود دلالة الاسم وعلى حسب الروايات التاريخية الموثقة وإفادات شهود العيان إلى أن الإمام محمد أحمد المهدي كان قد نزل بها وتمتع بظلها .. بل وأخذ مكانها معسكراً.. وهي تقع بمنطقة أبو سعد.. جوار المقابر التي تفصل بين أبو سعد والفتيحاب والشقلة «الحضرة» .. وهي ذات الشجرة التي عسكر بها المهدي عام 1884م بعد عودته من منطقة بارا بغرب السودان .. وشهدت «شجرة الحضرة» المبايعة من أهل الفتيحاب من الجموعية وهم الغالبية العظمى من سكان المنطقة والذين انضموا إلى المهدي في غزواته ومعاركه مع الاستعمار البريطاني.. وهي ذات الشجرة التي دفن بها أو إلى جوارها أحد ابناء المهدي.
وعندما أراد الإمام أن يفتح الخرطوم أو يحررها من جيوش المستعمر.. أتخذ من الشجرة استراحة أو معسكراً له لمدة سبعة أيام بلياليها وذلك نسبة لوجود الماء والغذاء وكرام الناس وشجعانها وقد كان للمهدي ما أراد من مقصد وطني وديني نبيل .. وحرر المدينة وقتل انصاره غردون باشا. وذلك بعد ترتيب دقيق تحت ظل «شجرة الحضرة».
والشجرة هي ذاتها عبارة عن شجرة باسقة وضاربة بجذورها في عمق الارض والتاريخ والاصالة والمعاصرة ودخلت التاريخ من أوسع أبوابه وافسح وثائقه، غير أنها تعرضت لحريق من بعض الصغار والصبية العابثين.
و«شجرة الحضرة» تتخذ من منطقة أبو سعد - الفتيحاب «غرب النيل الابيض» .. وعلى مقربة من جسر الانقاذ أو كبري الفتيحاب .. وهي منطقة الجموعية الذين يقطنون على الشريط النيلي تحديداً غرب النيل الابيض بين جبل أولياء وأقاصي شمال السودان وهم الاصالة والتاريخ والمعاصرة والكرم والشهامة والفروسية والفراسة والنحاس والجروف والساقية والقباب والخضرة والماء والوجه الحسن.
و«شجرة الحضرة» التي انسحب اسمها وأصبح يطلق على المنطقة كلها والتي توصف بأنها تنمو فيها العديد من الاشجار .. «الحضرة» أو «الشقلة» .. وصارت الشجرة مقابر بلا أسوار منذ العام 1930م.
(4)
والشجرة الثالثة.. وهي التي اثمرت / مؤسسة ثقافية تمشي بين الناس ومنبر وعي.. يؤمه الجميع.. أو هي بمثابة شجرة تنبت «عنباً» فنياً و«زيتوناً» إبداعياً .. وما إلى ذلك.
أكثر أخواتها شجرة واقدمها انباتاً وحضوراً إلى السودان.. وتنمو بكثافة في العديد من بقاع بلادي في المدن والقرى.. في البنادر والارياف والحواكير والفرقان تدلت من عناقيد المعرفة الانسانية في بعديها المحلي والكوني.. وكانت ولا تزال مكاناً تنطلق منه حملات التوعية والارشاد وخدمات المواطنين ببحري وما حولها.
٭ وهي تدعى «شجرة النيمة» أو «النيمة» بمدينة شمبات .. شمبات هناك بي فوق.. اشجارها عاملة الروق كما صرح بذلك ابنها الفنان خضر بشير.. أو في شمبات .. وفي شمبات حليل مجلسنا.. الحياء والعفاف حارسنا..
٭ وهي درة احتضنها النيل الدفاق في حميمية بالغة العذوبة وحفتها خضرة الناس والأرض.. ونضرة الزهور والورود الشتلوها جوار شمبات.. الفيها جنائن الشاطئ.. هي ذاتها شمبات .. التي زرعت فيها أول شجرة نيم دخلت عن طريق الانجليز من الهند الى السودان وذلك في العام 1914م.. وتختلف «نيمة» شمبات عن غيرها من سابقتيها .. واللتين اتخذتا إما استراحة أو متكأً أو استجماما من رحلة، استعداداً لرحلة أخرى وإما عسكرية أو استراتيجية.. واختلافات أخرى للنيمة عن أخواتها.. «ما حي بيك / غردون» أو «الحضرة».
و«النيمة» .. أصبحت ليست مجرد شجرة ظليلة جداً ويغشاها نسيم الصيف.. وغير من فصول السنة الأخرى.. بل صارت النيمة قلعة للعلم والارشاد ومنتدى تفاكرياً وشعلة وعي وخدمات.. وتحولت من مجرد «شجرة» رمز إلى مؤسسة عظيمة الافادة، تساقط رطباً ثقافياً . وتعليمياً وتوعوياً.. وهي الآن مؤسسة شمبات الثقافية الاجتماعية «النيمة» التي تم تسجيلها في مارس 1997م.. والتي أقامت مجموعة من المحاضرات العامة في مختلف القضايا الانسانية.،
وتحولت «النيمة»... الى صحيفة حائطية في العام 1991م ثم تطورت كما تقول الوثائق الى مطبق ثم الى شكل «تابلويد» باسم «النيمة» (neema) الحالي المعتمد من المجلس القومي للصحافة في العام 1993م، وبعد أن كتب الله النجاح للاصدارات المذكورة سابقاً تحولت إلى مؤسسة ثقافية اجتماعية (النيمة) في مارس 1997م كما أسلفت وأقامت دورات تدريبية منها تخريج (250) دارساً ودارسة ضمن مشروع النيمة التكافلي لمحو الأمية الالكترونية 1999-2002م. لذا ليس غريباً على المشروع الفوز بجائزة التحكيم الخاصة في منافسات البنك الدولي بأديس أبابا في العام 2003م.. إلى أن تم إعلان المؤسسة رسمياً إحدى الروافد الاساسية للخرطوم عاصمة للثقافة العربية 2005م.
و«النيمة» التي هي مثار حديثنا الآن.. هي التي استجلبت كأول شجرة نيم من الهند إلى شمبات في أول تجربة زراعتها بمركز البحوث الزراعية بشمبات.. وبعد ان نجحت التجربة.. انتشرت في كل مناطق السودان، رغم انها لم يكتب لها الزيوع في الغناء السوداني مثل العنبة والتبلدية والمنقة والحراز .. وشمبات ماهي إلاّ مدينة سودانية كاملة الدسم هي خلطة بين المدينة والريف.. وظهرت ذلك على ملامح سكانها .. هي داخل مدينة الخرطوم بحري وتقطنها قبائل الجعليين والمغاربة والعبدلاب والدويحية والمحس والجباراب والركابية والحضراب والكافياب والخيراب والكروراب والخراشاب..
وورد في كتاب «الطبقات» لمحمد النور بن ضيف الله .. أن شمبات كان يطلق عليها «الحليلة شوحطت» .. أمّا اسم شمبات اطلق عليها بعد عام 1740م.
والمعلومات الواردة عن استصدار الصحيفة التي سميت «النيمة» تقول أن الذي فكر فيها وأسسها الاستاذ أحمد البشير أحمد المدني ، وترأس تحريرها في فترتها الاولى بروفيسور معتصم عبد الله عثمان وأعقبه الاستاذ عبد المطلب الفحل «الدكتور الآن» الاذاعي والصحافي ثم احمد البشير وخالد سند عبد الفراج وساعد في اصدارها خالد سند وخالد عثمان وطارق أحمد ومجدي وعاطف أولاد الصاروخ وعز الدين أحمد الحاج وأمين سراج عبيد وحسن الامين عبد القادر وعبد العزيز بليه وعبد القادر البدوي وفاطمة موسى ودكتور النعمان محمد أحمد وسلوى تاج الدين وهشام الرشيد وأبو عاقلة إدريس وعوض عبد الرحيم العوض.
هذه هي عزيزي المتلقي الحصيف حكاية اشهر ثلاث شجرات في السودان.

 

 

آراء