الحردلو (20) الشعر البدوي والذائقة الجمالية..!

 


 

 

يشير "عادل بابكر" في كتابه (الحردلو صائد الجمال) إلى أن من بين أكثر النظريات ذيوعاً حول هجرات القبائل العربية للسودان تلك التي ترجع بها إلى ما قبل ظهور عصر الإسلام..!
وحول هذه النظريات يستعرض د.محمد الواثق في كتابه (الشعر السوداني في القرن العشرين) رؤى مختلفة ومتعارضة حول لغة البطانة؛ لكنه يقول أنها فيما يبدو الأقدم عبر الهجرات الباكرة للموجات التي دخلت السودان من القبائل العربية (ربيعة وجهينة وكنانة).. وبسبب عزلة السودان عن الجزيرة العربية عاشت تلك اللغة في عزلة..واستمرت في حفظ الحصيلة اللغوية من القاموس القديم الذي تلاشي عند الآخرين..وبالتفاعل مع البيئة المحلية في السودان تم تمثيلها واستيعابها في اللغة المحلية للبجا والنوبا.
وهناك رؤى أخرى مثل تلك التي يتبناها بروفيسور عبد الله الطيب والتي تقول إن لغة البطانة هي فرع من اللغة السامية الأم؛ مثلها مثل العبرية والعربية والقييز (Ge'ez). وترتكز رؤية عبدالله الطيب على الفكر التوراتي بأن حام بن نوح نزل في إثيوبيا (الاسم القديم للسودان كما يرى عبد الله الطيب) وزرع لغته السامية هناك..!
**
ومع ميلاد دولة الفونج الإسلامية (1500-1821) التي تُعرف بالسلطنة الزرقاء كانت اللغة السائدة (لغة التخاطب) هي اللغة السودانية الدارجة المتولّدة عن اللغة العربية القديمة قبل الإسلام.. ويقول د.الواثق إن العربية السائدة (المعيارية) بدأت تنتعش وتزدهر بوصول زعماء وشيوخ الطرق الصوفية من مختلف بقاع العالم الإسلامي الذين جذبهم الإعجاب بميلاد دولة إسلامية جديدة في السودان..وظل المشهد الشعري يهيمن عليه الشكل الهجين للغة العربية وهو مزيج بين اللغة العربية الكلاسيكية واللغة الدارجة..!
والمقاطع الشعرية للشيخ (فرح ود تكتوك) على سبيل المثال كانت واسعة الذيوع في ذلك الوقت..ويعود الفضل إلى مقدرة الشعراء المُدهشة في صياغة الرسائل الاجتماعية والدينية في صورة شعرية قوية وحصيفة تحتشد بروح الفكاهة والسخرية التي ما أسرع أن ظفرت بإعجاب السكان المحليين وانتشرت لتستقر عميقا في ثقافة السودانيين حتى اليوم..!
**
ويمثّل زوال عهد الفونج في عام 1821 عهداً جديداً في تاريخ السودان بظهور الإدارة التركية المصرية التي حكمت البلاد لستة عقود حتى عام 1885. وبنهاية دولة المهدية في عام 1898 ارسي الحكم الانجليزي المصري (1898-1956) الأساس لدولة السودان الحديثة عبر حكومة مركزية لها خدمة مدنية ونظام ضرائب وتعليم مدني. ومن ثم انفتحت البلاد أمام تأثيرات الثقافة الأجنبية القادمة من الخارج.
وكان قد جرى إرسال قضاة الشريعة ومعلمي اللغة العربية المصريين إلى السودان، كما تم ابتعاث الطلبة السودانيين للدراسة في القاهرة. وفي هذه الفترة أيضاً قام الأوروبيون بتأسيس مجتمعاتهم الخاصة في السودان، وادخلوا نمطاً جديداً من أساليب الحياة (الأندية والموسيقى والمسارح).
**
د.الواثق يقّرر أنه بالرغم من أن العربية المعيارية أصبحت اللغة الرسمية للدولة الجديدة في هذه الفترة..إلا أن الدوبيت وصل إلى مرتقىً عالٍ بفضل شعراء عباقرة من الجعليين والشكرية والجموعية والبطاحين.
وأصبح إقليم البطانة شرقي السودان مركزاً (Hub) لهذا الضرب من الأدب..ولعب دوراً مركزياً في تشكيل الذائقة الجمالية للسودانيين (Shaping Sudan’s Aesthetic Taste) بالاتساق مع المزاج الديني الذي أوجدته الصوفية الشعبية في عصر الفونج..!
ويعتقد د.الواثق أن الدوبيت يُظهر نغمة الأمة بصورة أكثر دقة من الشعر العربي الكلاسيكي..! كما أنه يمثل سجلاً راصداً للحياة الاجتماعية والتطوّرات السياسية في السودان..حيث يكشف عن الحوادث المهمة مثل غزو جيش محمد علي باشا للبلاد؛ ومقتل ابنه إسماعيل على يد المك نمر زعيم الجعليين، وهروب نمر إلى إثيوبيا.والتصرفات القسرية القاسية للحكم التركي؛ وحكم المهدية وهزيمة الأتراك؛ والغزو البريطاني للبلاد؛ وكثير من مثل هذه الأحداث...!
**
وفي المقابل وعلى النقيض من ذلك فإن كثير من شعراء العربية الكلاسيكية الذين خدموا كصوت دعاية و(لسان حال) mouthpiece خلال حكم المهدية وما بعدها، صمتوا بغرابة عن العديد من الحوادث المهمة مثل هزيمة قوات المهدية عام 1898 على يد جيش كتشنر، وما أعقب ذلك من مقتل الخليفة عبدالله ولاحقاً عبد القادر ود حبوبه..ثم على أحداث كبيرة مثل ثورة 1924 ومحاكمة البطل الوطني علي عبداللطيف..كل هذه الأحداث ذهبت إلى مدارج الصمت في سجل الشعر الكلاسيكي..!!
هكذا يرى د.الواثق الأمر في المقاربة بين الشعر البدوي الشعبي والشعر العربي الكلاسيكي..!
وهذا يعني انك ربما تعرف أكثر عن تاريخ السودان السياسي والاجتماعي من خلال الشعر الشعبي البدوي والدوبيت مقارنة بالشعر العربي الكلاسيكي في السودان..!
**
الشاعرة الكباشية المجهولة (قيل إنها اللينة عبد الخير) نراها وقد تصدت (زجلاً) للمفتش الانجليزي (مور) في احد قراراته بمنع رعي الإبل في بعض مناطق الكبابيش..ووجهت له رسالة أصبحت أغنية في شفاه بنات الحي، ثم ما جاورها من قرى، ثم طار صيتها إلى كل أنحاء البلاد..لقد قالت للمفتش "مور" أن إبل أهلها سوف ترعى رغما عنه و)على رأسه(:
ابلاً فوقا الجدعه
فوق الصي منجدعه
قول لي مور أب صلعه..
فوق مداغتك ترعى..!
ثم ألم يتمرد الهمباته في إشعارهم على الحكّام والباشوات وقرارات تقييد الانتقال وتحديد حركة المواطنين:
الباشا البعنولو
شن عرضو وشن طولو..؟
كان حجّر حلولو..
شرق الله البارد هولو..؟!

 

مرتضى الغالي

murtadamore@yahoo.com

 

آراء