السُّودان بلدٌ فقدَ ظلّه
جمال محمد ابراهيم
20 September, 2024
20 September, 2024
جمال محمد إبراهيم
(1)
من يتابع أحوال الحروب الثلاث، الدائرة في أوكرانيا والسّـودان وغزّة، يجد أنّ الفضائيات العربية درجتْ على استضافة أعـدادٍ من المُحلّلين والمُعلّقين، لتسليط أضواء على تطوّراتها، وتقديم قراءاتٍ لمآلاتها وتداعياتها. عادة ما تستضيف تلك الفضائيات متخصّصين أكاديميين أو مُحلّلين ذوي خبرات، لتعليقاتهم احترام، ولتحليلاتهم تقدير من تلكم القنوات، كما من مشاهديها ومتابعيها.
ولقد لاحظ المتابعون أخيراً أنّ بعض من تستضيفهم تلك الفضائيات للتعليق على أوضاع حرب السودان بوجهٍ خاص، سـواء من الصحافيين أو بعض القياديين، أو أنصاف القياديين من المنخرطين في الشأن السياسي السوداني أو المتحدثين نيابة عن كياناتهم السياسية، يظهرون ضعفاً لا يتناسب وحجم المخاطر التي تحيط بمصائر بلادهم السياسية والاقتصادية والعسكرية. نرى أكثرهم (ولن نعمّم) لا يحسن الظهور على الشاشات، ولا يجيد المخاطبة والتعبير باللغة الواضحة.
(2)
أنتج استمرار الحرب في السودان كلّ هذه الأشهر، وبين طرفين سودانيين يتقاتلان بلا هوادة، حالةً من الإرهاق المزدوج عند الطرفَين، فليس الجنرال عبد الفتاح البرهان، رئيس حكومة الأمر الواقع في بورتسودان، قادراً على أن يُعيّن جهازاً تنفيذياً قوامه وزراء يديرون دواليب الدولة، وهو الممسك بقيادة الجيش الرّسمي الذي يقـاتل المليشيات، ويبحث عن شرعية تجيز له التفاعل مع أطراف المجتمع الدولي من دون جدوى. لا الجيش الرّسمي قادرٌ على السيطرة على أوضاع البلاد، ولا المليشيات ملكتْ قدرات تعينها على إدارة دولة مثل السّـودان، حتّى إن تمكّنتْ من السيطرة على كامل ولاياته.
يقف الوسطاء والمتعاطفون في حيرة من أمرهم، فهم أيضاً عاجزون عن إقناع الطرفَين المتقاتلَين بضرورة مراعاة الأوضاع الإنسانية وإيقاف الحرب التي تستهدف الشعب السوداني، ومنهم من يتهدَّده الموت، براجمات المتقاتلين ومُسيَّراتهم وصواريخهم، أو تقتله المجاعة والعطش، وتفنيه الأمراض الفتّاكة.
(3)
لعلّ حالة الإجهاد التي أصابت المتقاتلين، وحالة العجز التي أطاحت جهود الوسـطاء (أمميين كانوا أم إقليميين) قد أوصلت الجميع، بمن فيهم جموع السودانيين المقيمين في جحيم الحرب، أو أولئك الذين فرّوا بجلودهم من نيرانها، وهم في حالٍ من فـقدان البوصلة في متاهة الحرب، بل وفقدان الأمل في أيّ مخرج منظور.
من يستمع لأصوات السّـودانيين، من عسكريين وسياسيين، يهاترون بعضهم بعضاً، ويشاتمون أنفسهم بأنفسهم، سيجد أكثرهم، بمن فيهم من فرضوا أنفسهم على الفضائيات، يُعلّقون ويُحلّلون ويجادلون بمنطق وبغير منطق. من ينصت بتمعن لمن يطلقون تحليلاتهم ويحدّثون الناس عن أحوال بلادهم السودان، هم في حالة من التخبّط المطبق، فلا يدرون من خبلٍ ما تردّد ألسنتهم، أو ربّما حرارة الحرب أصابتهم بلوثة. إنّ بعض من يطلّون على الناس عبر الفضائيات العربية (عـدا من رحِم ربّي) صارت أمورهم تحيّر، وأغلب من نسمع تحليلاتهم من السودانيين، صارت مداخلاتهم تثير الحزن والشفقة.
ثمّة من يقول عن نفسه إنّهُ حاكم إقليم دارفور، يسأله محاور في فضائية إنْ كان يقيم في دارفور، فيقول إنّه مقيم في بورتسودان، ويعلم الناس أنّ الرّجل يملك "فيلا" هي الآن مهجورة في مدينة المهندسين في أم درمان، ولم يلحق بها دمار ولا طاولتها أيدي النهّابين. لكنّه يطلّ على الفضائيات بصورة تثير السخريةَ، ولا يكاد المتابعون يصدّقون ما يسمعون من لغوٍ يأتي من لسانه، إلّا أن يكون الرجل عييّاً أو في غير وعيه.
(4)
أمّا إن سألت عن بعض وزراء وحكّام وولاة، تجدهم بمقدرات متواضعة، كلّفهم الجنرال ببعض ملفّات الحكومة الخطيرة، مثل الصّحة والزراعة والتعليم والدبلوماسية، فحدّث ولا حرج. فيما يموت الناس من الجوع والعطش، يزعم وزير كُلِّف ملفّ الزراعة أنّ الموسم الزراعي ومخزونه يَعد بمحصولٍ يُغني ويزيد عن الحاجة، أمّا عن الأوبئة فيكفي أنّ مدير منظّمة الصحة العالمية قدم بشخصه، ومعه أركان قيادته، ليشهد حال السودانيين الحقيقية، إذ هم مُهدّدون بالموت والفناء من نقص الأدوية والأمصال، ناهيك عن تفشّي أوبئة قاتلة مثل الكوليرا.
أمّا وزارة خارجية الجنرال، فحال وزيرها المُكلَّف يُغني عن أيّ تعليق. لقد نقلتْ الفضائيات تصريحاً لـه، زعم فيها أنّ للسودان أصدقاء في مجلس الأمن يقفون معه، ذكر بلسانه منهم الصين والاتحاد السوفييتي. وبُهِت من بُهِت، إذ بدا للسامعين أنّ الرجل توهّـم شبحاً اسمه الاتحاد السوفييتي، خرج له من مدافن التاريخ ليدعم حكومة بلاده، صديقاً لوزير خارجية السودان المُكلّف، وقد حاصرته تلويحات تهدّد بعقوبات كاسحة قادمة.
ليسَ السودان الذي يراه الناس الآن، هو نفسه الذي ضمّد جراح الأمّة العربية إثر هزيمة حرب يونيو (1967)، ولا دبلوماسيته هي تلك الدبلوماسية.
(1)
من يتابع أحوال الحروب الثلاث، الدائرة في أوكرانيا والسّـودان وغزّة، يجد أنّ الفضائيات العربية درجتْ على استضافة أعـدادٍ من المُحلّلين والمُعلّقين، لتسليط أضواء على تطوّراتها، وتقديم قراءاتٍ لمآلاتها وتداعياتها. عادة ما تستضيف تلك الفضائيات متخصّصين أكاديميين أو مُحلّلين ذوي خبرات، لتعليقاتهم احترام، ولتحليلاتهم تقدير من تلكم القنوات، كما من مشاهديها ومتابعيها.
ولقد لاحظ المتابعون أخيراً أنّ بعض من تستضيفهم تلك الفضائيات للتعليق على أوضاع حرب السودان بوجهٍ خاص، سـواء من الصحافيين أو بعض القياديين، أو أنصاف القياديين من المنخرطين في الشأن السياسي السوداني أو المتحدثين نيابة عن كياناتهم السياسية، يظهرون ضعفاً لا يتناسب وحجم المخاطر التي تحيط بمصائر بلادهم السياسية والاقتصادية والعسكرية. نرى أكثرهم (ولن نعمّم) لا يحسن الظهور على الشاشات، ولا يجيد المخاطبة والتعبير باللغة الواضحة.
(2)
أنتج استمرار الحرب في السودان كلّ هذه الأشهر، وبين طرفين سودانيين يتقاتلان بلا هوادة، حالةً من الإرهاق المزدوج عند الطرفَين، فليس الجنرال عبد الفتاح البرهان، رئيس حكومة الأمر الواقع في بورتسودان، قادراً على أن يُعيّن جهازاً تنفيذياً قوامه وزراء يديرون دواليب الدولة، وهو الممسك بقيادة الجيش الرّسمي الذي يقـاتل المليشيات، ويبحث عن شرعية تجيز له التفاعل مع أطراف المجتمع الدولي من دون جدوى. لا الجيش الرّسمي قادرٌ على السيطرة على أوضاع البلاد، ولا المليشيات ملكتْ قدرات تعينها على إدارة دولة مثل السّـودان، حتّى إن تمكّنتْ من السيطرة على كامل ولاياته.
يقف الوسطاء والمتعاطفون في حيرة من أمرهم، فهم أيضاً عاجزون عن إقناع الطرفَين المتقاتلَين بضرورة مراعاة الأوضاع الإنسانية وإيقاف الحرب التي تستهدف الشعب السوداني، ومنهم من يتهدَّده الموت، براجمات المتقاتلين ومُسيَّراتهم وصواريخهم، أو تقتله المجاعة والعطش، وتفنيه الأمراض الفتّاكة.
(3)
لعلّ حالة الإجهاد التي أصابت المتقاتلين، وحالة العجز التي أطاحت جهود الوسـطاء (أمميين كانوا أم إقليميين) قد أوصلت الجميع، بمن فيهم جموع السودانيين المقيمين في جحيم الحرب، أو أولئك الذين فرّوا بجلودهم من نيرانها، وهم في حالٍ من فـقدان البوصلة في متاهة الحرب، بل وفقدان الأمل في أيّ مخرج منظور.
من يستمع لأصوات السّـودانيين، من عسكريين وسياسيين، يهاترون بعضهم بعضاً، ويشاتمون أنفسهم بأنفسهم، سيجد أكثرهم، بمن فيهم من فرضوا أنفسهم على الفضائيات، يُعلّقون ويُحلّلون ويجادلون بمنطق وبغير منطق. من ينصت بتمعن لمن يطلقون تحليلاتهم ويحدّثون الناس عن أحوال بلادهم السودان، هم في حالة من التخبّط المطبق، فلا يدرون من خبلٍ ما تردّد ألسنتهم، أو ربّما حرارة الحرب أصابتهم بلوثة. إنّ بعض من يطلّون على الناس عبر الفضائيات العربية (عـدا من رحِم ربّي) صارت أمورهم تحيّر، وأغلب من نسمع تحليلاتهم من السودانيين، صارت مداخلاتهم تثير الحزن والشفقة.
ثمّة من يقول عن نفسه إنّهُ حاكم إقليم دارفور، يسأله محاور في فضائية إنْ كان يقيم في دارفور، فيقول إنّه مقيم في بورتسودان، ويعلم الناس أنّ الرّجل يملك "فيلا" هي الآن مهجورة في مدينة المهندسين في أم درمان، ولم يلحق بها دمار ولا طاولتها أيدي النهّابين. لكنّه يطلّ على الفضائيات بصورة تثير السخريةَ، ولا يكاد المتابعون يصدّقون ما يسمعون من لغوٍ يأتي من لسانه، إلّا أن يكون الرجل عييّاً أو في غير وعيه.
(4)
أمّا إن سألت عن بعض وزراء وحكّام وولاة، تجدهم بمقدرات متواضعة، كلّفهم الجنرال ببعض ملفّات الحكومة الخطيرة، مثل الصّحة والزراعة والتعليم والدبلوماسية، فحدّث ولا حرج. فيما يموت الناس من الجوع والعطش، يزعم وزير كُلِّف ملفّ الزراعة أنّ الموسم الزراعي ومخزونه يَعد بمحصولٍ يُغني ويزيد عن الحاجة، أمّا عن الأوبئة فيكفي أنّ مدير منظّمة الصحة العالمية قدم بشخصه، ومعه أركان قيادته، ليشهد حال السودانيين الحقيقية، إذ هم مُهدّدون بالموت والفناء من نقص الأدوية والأمصال، ناهيك عن تفشّي أوبئة قاتلة مثل الكوليرا.
أمّا وزارة خارجية الجنرال، فحال وزيرها المُكلَّف يُغني عن أيّ تعليق. لقد نقلتْ الفضائيات تصريحاً لـه، زعم فيها أنّ للسودان أصدقاء في مجلس الأمن يقفون معه، ذكر بلسانه منهم الصين والاتحاد السوفييتي. وبُهِت من بُهِت، إذ بدا للسامعين أنّ الرجل توهّـم شبحاً اسمه الاتحاد السوفييتي، خرج له من مدافن التاريخ ليدعم حكومة بلاده، صديقاً لوزير خارجية السودان المُكلّف، وقد حاصرته تلويحات تهدّد بعقوبات كاسحة قادمة.
ليسَ السودان الذي يراه الناس الآن، هو نفسه الذي ضمّد جراح الأمّة العربية إثر هزيمة حرب يونيو (1967)، ولا دبلوماسيته هي تلك الدبلوماسية.