العبودية في السودان (الجزء الثالث)

العبودية في السودان: منظور شامل تاريخي واجتماعي وسياسي واقتصادي ومعاصر لتجارة الرقيق، والعبودية الناتجة عن النزاعات، والعمل القسري، والتحولات العمالية، وحقوق الإنسان (الجزء الثالث)

د. عبد المنعم مختار
أستاذ جامعي في مجال الصحة العامة
المدير العام للشركة الألمانية-السودانية للبحوث والاستشارات وبناء القدرات
المدير التنفيذي لمركز السياسات القائمة على الأدلة والبيانات

الملخص

شكّل الاختطاف والعمل القسري في السودان منظومة متجذّرة من الإكراه امتدت قرونًا، وارتبطت بالهياكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في دارفور وكردفان وجبال النوبة ووسط السودان. كانت الممارسات منظمة بعناية، يخضع فيها السكان المستهدفون – غالبًا من الفئات المهمشة – لشبكات معقدة من الاستعباد تخدم احتياجات الأسر النخبوية والميليشيات والمزارع والمراكز الحضرية.

نُظّمت الغارات بتنسيق بين الزعماء المحليين والتجار والميليشيات، واختيرت أوقاتها بما يتناسب مع مواسم الحصاد أو الاضطراب السياسي، لضمان تدفق الأسرى نحو مدن مثل الخرطوم والأبيض ونيالا. مثّل العمل القسري قاعدة اقتصادية أساسية، إذ وُظِّف الأسرى في الزراعة والحرف والخدمة المنزلية والعسكرية، بينما شكلت النساء والفتيات النسبة الكبرى من الرق الجنسي والاستغلال المنزلي، في حين خُصص الرجال والفتيان للأعمال الزراعية والعسكرية.

ارتبطت أنماط الاختطاف بعوامل جغرافية وزمنية وديموغرافية دقيقة، استهدفت قرى على ضفاف الأنهار وطرق القوافل، مع اعتماد قوافل محمية وطرق نهرية وصحراوية لنقل الأسرى. وبرزت المراكز الحضرية كمحاور توزيع رئيسية تربط بين مناطق القبض والأسواق الإقليمية، ما رسّخ اعتماد الاقتصاد المحلي على العمالة المستعبدة.

أما الرق الجنسي فكان مؤسسة منظمة داخل النظام الاجتماعي، يخضع لإشراف زعماء محليين وتجّار وأسر نخبوية، ويعتمد على استعباد النساء والفتيات ضمن منازل النخبة والمزارع والثكنات. هذا النمط عمّق التراتبية الجندرية، وكرّس السلطة الأبوية والاستغلال الجنسي المنهجي.

وفي سياقات النزاع، تحوّل العمل القسري إلى أداة مباشرة لدعم الحملات العسكرية والإنتاج الزراعي والبنية التحتية، حيث جُند المدنيون – رجالًا ونساءً وأطفالًا – قسرًا من قبل الدولة والميليشيات. أدى ذلك إلى اضطرابات اجتماعية واقتصادية واسعة، شملت انهيار البنى الأسرية، وانخفاض الإنتاج، وتفاقم التفاوتات الطبقية والإثنية.

خلاصة القول، أن منظومة الاختطاف والعمل القسري والرق الجنسي في السودان كانت شديدة التنظيم، متعددة المستويات، ومترابطة اقتصاديًا وسياسيًا وجندريًا. خلّفت هذه الممارسات آثارًا ديموغرافية وثقافية عميقة، وأسهمت في ترسيخ التراتبية الاجتماعية والاعتماد الاقتصادي على الإكراه، وهي أنماط ما تزال انعكاساتها ممتدة في البنية الاجتماعية السودانية الحديثة.

شكل الانتقال من العبودية إلى نظم العمل البديلة في السودان تحولًا هيكليًا عميقًا أثر على الجوانب القانونية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وامتد من فترة الحكم الأنجلو-مصري (1898–1956) إلى مرحلة ما بعد الاستقلال المبكر. شمل هذا الانتقال تنظيم التحرر القانوني، إنشاء أسواق العمل، مقاومة وتكيف المحررين، تفاوت الممارسات الإقليمية، واستمرارية الاعتماد الاقتصادي والهياكل الاجتماعية السابقة.

أُلغيت العبودية رسميًا عبر مراسيم قانونية وإجراءات إدارية بالتنسيق بين السلطات الاستعمارية والشيوخ المحليين والأمراء، مع إنشاء مكاتب لمراقبة التطبيق وتسجيل الأفراد المحررين. تطلب التطبيق الإشراف على الانتقال إلى العمل بأجر، مراقبة العقود، والفصل في النزاعات المتعلقة بالعبودية السابقة. وقد شهدت المدن الكبرى مثل الخرطوم وأمدرمان تطبيقًا أسرع مقارنة بالمناطق النائية مثل دارفور وكردفان وجبال النوبة، بسبب القيود الجغرافية والثقافية.

تم دمج المحررين في أسواق عمل رسمية ومنظمة لتلبية احتياجات الاقتصاد بعد التحرر، شملت الأعمال الزراعية في مشروع الجزيرة، والأنشطة الحرفية والحضرية، والخدمات المنزلية. أُنشئت سجلات للعمال توثق العمر والجنس والمهارات والانتماءات المجتمعية، وأسهمت الإدارة الاستعمارية والشيوخ المحليون في تنظيم العقود والإشراف على التوزيع. تنوعت طرق الدفع بين النقد والمقابل العيني والإسكان المؤقت وفق ظروف كل منطقة.

مارس المحررون استراتيجيات مقاومة وتكيف متعددة الأبعاد للتفاوض على الاستقلالية والبقاء الاقتصادي والاجتماعي، شملت التفاوض على شروط العمل، الانتقال إلى أماكن أكثر أمانًا، تأسيس تجمعات ومستوطنات مستقلة، والانخراط الانتقائي في العمل بأجر للحفاظ على الاستقلالية. استخدمت النساء شبكات العمل المنزلي والتجاري لتعزيز الأمن الاقتصادي، بينما تفاوض الرجال على ترتيبات الزراعة والرعي الموسمية. امتدت المقاومة إلى المجالات الثقافية والاجتماعية عبر الحفاظ على التقاليد، تعزيز التماسك المجتمعي، وإعادة بناء الأسر.

تفاوتت نظم العمل بعد التحرر بحسب البيئة والهياكل الاقتصادية والتدرجات الاجتماعية. ففي منطقة الجزيرة دعمت الزراعة المروية واسعة النطاق، وعُقدت عقود رسمية مع تنظيم دقيق لهياكل العمل وهجرة موسمية للعمال. أما في كردفان ودارفور، فكانت النظم هجينة بين الزراعة والرعي والحرف اليدوية، مع عقود نقدية وعينية واعتماد على الشبكات الاجتماعية. وفي جبال النوبة، ركزت الأنشطة على الزراعة الصغيرة والحرف اليدوية مع حركة محدودة وتعاون أسري ومجتمعي. أما المراكز الحضرية مثل الخرطوم وأمدرمان وكوستي، فشملت فرص العمل الخدمة المنزلية والتجارة والبناء والإدارة، متأثرة بشكل مباشر بلوائح العمل الاستعمارية.

رغم التحرر، استمر الاقتصاد في الاعتماد على اليد العاملة مع الحفاظ على الهياكل الهرمية الاجتماعية والاقتصادية بصيغ جديدة. ساعدت أسواق العمل المنظمة على توفير سبل العيش وإعادة تشكيل الهياكل الاجتماعية تدريجيًا، لكن النخب السابقة احتفظت بامتيازاتها في الوصول إلى الأراضي ورأس المال والنفوذ على توزيع العمالة. وأعاد المحررون بناء الأسر، والحفاظ على الروابط المجتمعية، وتأسيس مؤسسات محلية لحل النزاعات وحماية الحقوق الاجتماعية.

الانتقال من العبودية إلى نظم العمل في السودان كان عملية متعددة المستويات تشمل السلطات الاستعمارية، السكان المحررين، النخب المحلية، وأصحاب العمل، وأسفرت عن نتائج إقليمية متفاوتة مع استمرار التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية وظهور ديناميات تفاوض مستمرة حول الهوية والوضع الاجتماعي، ما يوضح الإرث طويل المدى للعبودية في تكوين الاقتصاد والمجتمع السوداني الحديث.

الموضوع ٥: الاختطاف والعمل القسري

مثل الاختطاف والعمل القسري في السودان نظامًا مترسخًا من الإكراه استمر لعدة قرون وفي مناطق متعددة، مؤثرًا بشكل عميق على الهياكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في دارفور وكردفان وجبال النوبة ووسط السودان [9, 11, 12, 13, 14, 33, 68, 79]. لم تكن هذه الممارسات عشوائية؛ بل كانت منظمة بشكل منهجي لتلبية احتياجات العمل للأسر النخبوية والوحدات العسكرية والمزارع والمراكز الإدارية الحضرية، مما أوجد دورات مستمرة من الاستغلال والتهميش الاجتماعي [9, 11, 12, 13, 14, 33]. كان الاختطاف يستهدف فئات محددة، غالبًا وفقًا للهياكل العرقية والإقليمية والاجتماعية-الاقتصادية، بينما دمج العمل القسري الأسرى في شبكات العمل المنزلية والزراعية والحرفية والعسكرية، مستديمًا الاقتصاد المحلي والإقليمي [9, 11, 12, 13, 14, 33, 68, 79].

كانت عمليات الاختطاف منظمة بدقة، بمشاركة عدة أصحاب مصلحة. قام الزعماء المحليون والأمراء وقادة الميليشيات بتنسيق الغارات في القرى الريفية، مع تحديد توقيت العمليات استراتيجيًا لتتزامن مع مواسم الانقطاع عن الزراعة، أو دورات الأسواق، أو فترات الاضطراب السياسي [9, 12, 13, 14]. وأدارت العائلات التجارية متعددة الأجيال وتجار الرقيق المحترفون اللوجستيات، بما في ذلك النقل الآمن، وتوفير المؤن، وإنشاء مرافق احتجاز مؤقتة، لضمان استمرار تدفق الأسرى إلى المراكز الحضرية مثل الخرطوم وأمدرمان وكوستي والأبيض ونيالا والفاشر [11, 12, 13, 14, 33]. وكانت الأسر النخبوية وأصحاب المزارع والجهات الرسمية المستفيدين الرئيسيين من العمالة المستعبدة، حيث دمجت الأسرى في الخدمة المنزلية، وزراعة المحاصيل النقدية والغذائية، والإنتاج الحرفي، وأدوار الدعم العسكري [9, 11, 12, 13, 14, 33, 68, 79].

كان للعوامل الزمنية دور حاسم في تشكيل أنماط الاختطاف. خلال فترات النزاع الأهلي، مثل حروب الميليشيات المحلية في دارفور وكردفان في القرن التاسع عشر، ارتفع معدل الاختطاف بشكل حاد، حيث تم أسر مئات الأفراد سنويًا للعمل القسري أو للتجنيد في الجيوش الخاصة [6, 9, 27, 101, 103]. وعلى العكس، شهدت فترات السلام أو الاستقرار السياسي جمع الأسرى بشكل منهجي عبر الضرائب القسرية أو تجنيد العمل المنزلي [9, 11, 13, 14]. كما أثرت التغيرات الموسمية، بما في ذلك مواسم الحصاد والهجرة، على اختيار الأهداف وتوقيت النقل، بينما كانت العوامل البيئية مثل مستويات الأنهار، ومسارات الصحراء، وطبوغرافيا جبال النوبة تحدد اللوجستيات وفرص النجاة للأسرى أثناء التنقل [11, 12, 13, 14].

امتد العمل القسري عبر عدة قطاعات. شمل العمل الزراعي زراعة الذرة والدخن والقمح والقطن بكثافة في منطقة الجزيرة وكردفان وعلى ضفاف النيل الأبيض، غالبًا تحت إشراف صارم وساعات عمل طويلة يوميًا [9, 13, 14, 33]. وفي المراكز الحضرية، تم توظيف الأسرى في الأعمال المنزلية والبناء والموانئ والأسواق والحرف اليدوية مثل صناعة الفخار والنسيج والمعادن [11, 12, 13, 68]. وخدم الأسرى في الميليشيات كمساعدين وحمالين أو مقاتلين، دعمًا مباشرًا للحملات العسكرية وممكنين الحكام المحليين من توسيع السيطرة الإقليمية [6, 16]. وتشير سجلات المعاملات والحسابات المعاصرة إلى أنه في كردفان ودارفور وحدهما، تم تهريب آلاف الأسرى وتوزيعهم سنويًا على الأسر والمزارع والميليشيات خلال القرن التاسع عشر [9, 11, 12, 13, 14].

كانت الأبعاد الجندرية للاختطاف واضحة للغاية. غالبًا ما تعرضت النساء والفتيات للخدمة المنزلية والاستغلال الجنسي، كجاريات أو خادمات أو مربيات أطفال للأسر النخبوية، بينما تم توجيه الفتيان والرجال إلى العمل الزراعي والرعوي والعسكري [11, 24, 71]. وتم إضفاء الشرعية على الرق الجنسي ضمن الأعراف والعادات الاجتماعية، مع عكس تقاطعات الجنس والعرق والوضع الاجتماعي التي عززت بشكل منهجي التسلسل الهرمي والتهميش طويل الأمد [11, 24, 71]. وكان الأطفال عرضة بشكل خاص، حيث جُند الفتيان في أدوار الدعم العسكري أو العمل الزراعي، بينما اندمجت الفتيات في الخدمة المنزلية منذ سن صغيرة جدًا، مما عطل عملية التنشئة الاجتماعية والتعليمية والبنية الأسرية الطبيعية [9, 70, 103].

زاد التفاعل الإقليمي وعبر الحدود من حجم وتعقيد الاختطاف. ربطت شبكات التجارة الأسواق السودانية بمصر وموانئ البحر الأحمر وغرب إفريقيا، ما أتاح تصدير فائض الأسرى وخلق حوافز اقتصادية لاستمرار الاختطاف [3, 4, 18, 19, 33, 68]. وكانت القوافل تعمل بتخطيط لوجستي متقدم، مع مراعاة النقل النهري، وقوافل الجمال، والنباتات الموسمية، ومخاطر الأمن الناتجة عن الميليشيات المنافسة أو قطاع الطرق [11, 12, 13, 14]. كما عززت هذه الشبكات ثروة النخب والسلطة السياسية، وخلقت دورات تجعل الاعتماد الاقتصادي المحلي على العمالة المستعبدة يحفز استمرار الغارات والاختطاف [9, 11, 12, 13, 14, 33].

كانت العواقب الاجتماعية والثقافية شديدة. فقد شهدت المجتمعات المتأثرة بالاختطاف انخفاضًا في عدد السكان، ونقصًا في القوى العاملة، واضطرابًا في الهياكل الأسرية والسياسية، بينما واجه الأسرى وصمة اجتماعية دائمة، وتهميشًا عبر الأجيال، ومحدودية في الحركة [9, 11, 13, 70, 103]. وتم الحفاظ على التسلسل الهرمي للأسر من خلال التحكم في العمالة، وشكلت الاختلافات العرقية أو الإقليمية توزيع العمل ودرجة الإكراه وأنماط العقاب أو المكافأة [20, 31, 39, 70, 103]. وشملت الآثار طويلة المدى ترسخ الطبقية الاجتماعية، واستمرار الفوارق في ملكية الأراضي، وإنشاء شبكات الرعاية والمحسوبية التي استمرت حتى بعد فترة التحرر [5, 45, 92].

باختصار، شكل الاختطاف والعمل القسري في السودان نظامًا متعدد الطبقات، ومنظمًا بشكل كبير، ومتجذرًا اجتماعيًا [9, 11, 12, 13, 14, 24, 33, 68, 70, 71, 79, 101, 103]. دمج عدة أصحاب مصلحة ومناطق جغرافية وقطاعات اقتصادية، مع إحداث آثار ديموغرافية واجتماعية وثقافية عميقة. ويكشف فهم هذه الممارسات عن الآليات التي من خلالها تم تشغيل الرق، وتطبيعه، واستمراره عبر قرون، مع إبراز مركزية الإكراه والسلطة السياسية واستغلال العمل في الهياكل التاريخية السودانية.

الموضوع الفرعي ٥.١: أنماط الاختطاف

مثل الاختطاف في السودان آلية منظمة ومنهجية من خلالها تم إخراج الأفراد قسرًا من مجتمعاتهم لتلبية احتياجات العمل للأسر، والمزارع، وورش الحرف، والمساعدة العسكرية، والمراكز الاقتصادية الحضرية [9, 11, 12, 13, 14, 33, 68, 79]. وكانت هذه الاختطافات مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالهياكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، معبرة عن التسلسلات الهرمية وأنماط الإكراه الطويلة الأمد. ولم تكن عشوائية، بل اتبعت أنماطًا محددة تتأثر بالعوامل الجغرافية والزمنية والديموغرافية والسياسية، مع شبكات محلية وإقليمية تنسق عملية القبض على الأسرى ونقلهم وتوزيعهم [9, 11, 12, 13, 14, 33, 68, 79].

أصحاب المصلحة والمنفذون:
شارك عدة أطراف في عملية الاختطاف. كان الزعماء المحليون والأمراء والسلاطين غالبًا ما يوافقون أو يشرفون مباشرة على الغارات، مع دمج الاختطاف ضمن نظم الضرائب والجزية والسيطرة السياسية [9, 12, 13, 14]. وقامت مجموعات الميليشيات، بما في ذلك الوحدات الموالية للدولة والمستقلة، بتنفيذ عمليات واسعة النطاق تستهدف القرى الريفية في دارفور وكردفان وجبال النوبة ووسط السودان [6, 9, 27, 101]. وأدارت العائلات التجارية متعددة الأجيال وتجار الرقيق المحترفون لوجستيات الاختطاف، بما في ذلك تأمين طرق النقل، ومرافق الاحتجاز المؤقتة، والمرور الآمن عبر المناطق السياسية المجزأة [11, 12, 13, 14, 33]. وكانت الأسر النخبوية وأصحاب المزارع والإداريون الحضريون هم المستفيدون الرئيسيون من الأفراد المختطفين، مما شكل نطاق وتواتر وأهداف الغارات [9, 11, 12, 13, 14].

الأنماط الجغرافية والمواقع:
كانت الاختطافات منظمة جغرافيًا بشكل دقيق. كانت القرى والمستوطنات الريفية المجاورة للأنهار أو طرق القوافل أو الممرات الصحراوية أكثر عرضة للخطر، لأنها سهلت النقل السريع وقللت فرص الهروب [9, 11, 12, 13]. وكانت مناطق مثل دارفور وكردفان مستهدفة بشكل متكرر لكثرة الأسرى المحتملين ولأهميتها الاستراتيجية للوصول إلى المراكز الحضرية مثل الخرطوم وأمدرمان وكوستي [11, 12, 13, 14]. وكانت جبال النوبة منطقة معقدة للاختطاف، حيث كانت المجتمعات عرضة للخطر خلال مواسم الهجرة أو الانقطاع عن الزراعة [9, 33]. وشكلت الممرات النهرية على طول النيل الأبيض والمستوطنات القريبة من السكك الحديدية ومدن الأسواق عقدًا حاسمة في شبكة الاختطاف، رابطًة بين مواقع القبض والأسواق المحلية والإقليمية [12, 14, 68].

الديناميات الزمنية:
تصاعدت الاختطافات خلال فترات عدم الاستقرار السياسي أو الحروب الأهلية أو النزاعات الميليشياوية، مع تسجيل ذروات في صراعات القرن التاسع عشر في دارفور وكردفان، وكذلك خلال الغزو التركي المصري والانتقال الاستعماري المبكر [9, 12, 13, 14, 33]. وكان للتغيرات الموسمية تأثير على توقيت الغارات: غالبًا ما كانت الحملات العسكرية والغارات تُنظم مباشرة بعد مواسم الحصاد لتقليل مقاومة السكان المحليين وزيادة فرص نجاة الأسرى [11, 12, 13]. كما أثرت فترات الجفاف والمجاعة أو الأمراض على أنماط الاختطاف، حيث كانت المجتمعات الضعيفة أسهل في الاستهداف، بينما كان بقاء الأسرى يعتمد على الدعم اللوجستي الفوري وتوفير المؤن من قبل الوسطاء [9, 11, 13, 14].

الأنماط الديموغرافية:
كان اختيار الأهداف محددًا للغاية. غالبًا ما كان يتم اختطاف النساء والأطفال للعمل المنزلي والخدمة المنزلية والاستغلال الجنسي، بينما كان يتم توجيه الذكور البالغين للعمل الزراعي أو الرعي أو الحرف أو التجنيد العسكري [11, 12, 13, 14, 33]. وكانت هناك أنماط عمرية محددة: الفتيات بين 8–14 سنة والفتيان بين 10–16 سنة مفضلين لقدرتهم على التكيف مع العمل المنزلي والعسكري، بينما كان يتم تقييم الذكور البالغين على القوة والقدرة على التحمل والإمكانات القتالية [9, 12, 13]. وتشير الدراسات إلى أنه تم اختطاف مئات إلى آلاف الأفراد سنويًا في مناطق رئيسية مثل دارفور وكردفان ووسط السودان خلال القرن التاسع عشر، ما يعكس الطبيعة المنهجية والواسعة لهذه العمليات [12, 14, 33, 68].

اللوجستيات والنقل:
تم نقل الأسرى على طول طرق تجارية منظمة بعناية. وكانت القوافل، غالبًا بحماية مسلحة، تسلك الطرق النهرية والممرات الصحراوية ومسارات الهجرة الموسمية لضمان وصولهم إلى الأسواق والمراكز الحضرية بأمان [11, 12, 13, 14, 33]. وكانت توفر مرافق الاحتجاز المؤقتة، غالبًا في مجمعات محصنة أو ضمن مساكن الزعماء المحليين، مكان إقامة ومؤنًا، بينما ضمنت شبكات التجار متعددة الأجيال التنسيق عبر أراضي ونطاقات سياسية متعددة [11, 12, 13, 14]. وكان استخدام قوافل الجمال والزوارق النهرية والحمّالين البريين متزامنًا مع الظروف البيئية والموسمية لتقليل الوفيات والحفاظ على القيمة الاقتصادية للأسرى [9, 11, 12, 14, 68, 79].

الاندماج مع الأسواق والنظم الاقتصادية:
لم يكن الاختطاف ممارسة معزولة، بل كان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالأسواق المحلية والإقليمية وعبر الإقليمية [9, 11, 12, 13, 14, 33, 68]. وكان يتم تقييم الأسرى بناءً على العمر والجنس والحالة الجسدية والمهارات، ثم توزيعهم على الأسر أو المزارع أو الأسواق وفقًا لاحتياجات العمل [11, 12, 13, 14]. وكانت المراكز الحضرية مثل الخرطوم وأمدرمان والأبيض تعمل كمحاور توزيع، رابطًة بين مواقع الاختطاف الريفية وشبكات تجارة أوسع تمتد إلى مصر وموانئ البحر الأحمر وأسواق غرب إفريقيا [11, 12, 14, 33]. وأسهم الإمداد المنتظم للأسرى في تعزيز الاعتماد الاقتصادي والتسلسل الاجتماعي والسلطة السياسية في السياقات الريفية والحضرية على حد سواء [9, 11, 12, 13, 14, 68].

الآثار الاجتماعية والثقافية:
شكلت أنماط الاختطاف الهياكل الاجتماعية وتركيب الأسر ومرونة المجتمع. فقد عانت المجتمعات المتكررة التعرض للغارات من انخفاض عدد السكان واضطراب الشبكات الأسرية والتهميش الاجتماعي الطويل الأمد [9, 11, 12, 13, 14, 33]. وعانى الأسرى أنفسهم من تشريد شديد وعمل قسري واستبعاد اجتماعي، ما عزز عدم المساواة بين الأجيال [12, 14, 33, 68]. كما رسخت أنماط الاختطاف التمييز العرقي والجندري والإقليمي في توزيع العمل، مع آثار طويلة الأمد على التسلسلات الاجتماعية وفرص الاقتصاد بعد التحرر [20, 26, 31, 33, 79].

الأدلة الكمية والتوثيقية:
توفر السجلات التاريخية والوثائق الأرشيفية تقديرات ملموسة لمعدلات الاختطاف والملامح الديموغرافية. ففي كردفان ودارفور، تراوحت معدلات الاختطاف السنوية بين عدة مئات إلى أكثر من ألف شخص سنويًا خلال فترات النزاع والنشاط السوقي المرتفع [12, 13, 14, 33]. وتبرز الوثائق التنسيق المنظم المطلوب للحفاظ على هذه المعدلات، بما في ذلك توفير المؤن والنقل والاندماج في شبكات العمل، مما يبرز الطبيعة المنهجية وغير العشوائية للاختطاف [9, 11, 12, 13, 14, 68, 79].

الخلاصة:
تعكس أنماط الاختطاف في السودان نظامًا عالي التنظيم ومنهجيًا ومتجذرًا اجتماعيًا من الإكراه [9, 11, 12, 13, 14, 33, 68, 79]. وشكلها أصحاب المصلحة من الزعماء المحليين إلى التجار متعددين الأجيال، واستهدفت مناطق وسكانًا محددين، وعملت ضمن قيود زمنية وبيئية واضحة، وارتبطت بالأنظمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ويوفر فهم هذه الأنماط رؤية حاسمة للآليات التي من خلالها تم تفعيل الرق وتطبيعه، وللعواقب الديموغرافية والاقتصادية والثقافية طويلة الأمد على المجتمع السوداني.

الموضوع الفرعي ٥.٢: الرق الجنسي والاستغلال

شكل الرق الجنسي في السودان جانبًا منهجيًا وشاملًا من مؤسسات الرق الأوسع، مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالهياكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية [11, 24, 71]. وعلى عكس أشكال العمل القسري الأخرى، استهدف الاستغلال الجنسي فئات ديموغرافية محددة، خصوصًا النساء والفتيات المراهقات، اللواتي جُلبن قسرًا من مجتمعاتهن ووضعن في سياقات منزلية أو عسكرية حيث كان الإكراه الجنسي ممارسة روتينية [11, 24, 71]. ولم يكن هذا الاستغلال عشوائيًا، بل اتبع أنماطًا منظمة جدًا تتأثر بالتراتبية المحلية، والطلب الإقليمي، والأهداف الاستراتيجية لأصحاب المصلحة السياسيين والاقتصاديين.

أصحاب المصلحة والمنفذون:
شارك عدة أطراف في الرق الجنسي. فقد أقر الزعماء المحليون والأمراء والسلاطين وقادة الميليشيات الغارات والاختطافات، وغالبًا ما كانوا يحصلون على حصص من الأسرى كجزية أو دفعة مالية [11, 24]. وقامت وحدات الميليشيات والجيوش الخاصة باختطاف النساء والفتيات مباشرة خلال الغارات على القرى في دارفور وكردفان وجبال النوبة وأجزاء من وسط السودان [11, 24]. ونظم التجار المحترفون، بما في ذلك العائلات المشاركة في شبكات الرقيق عبر أجيال، حركة النساء والفتيات وبيعهن وتوزيعهن على المنازل الحضرية والمزارع أو المجمعات العسكرية [11, 71]. وكانت الأسر النخبوية في المراكز الحضرية والإقليمية مثل الخرطوم وأمدرمان والأبيض ونيالا المستفيدين الرئيسيين، مستخدمين النساء المختطفات في الخدمة المنزلية والعمل الزراعي والحرفي والاستغلال الجنسي [11, 24]. وكان بعض القادة الدينيين والقضاة المحليين يمنحون أحيانًا شرعية ضمنية أو صريحة لهذه الممارسات وفقًا للشريعة والعرف، ما رسخ الرق الجنسي ضمن الإطار الاجتماعي والسياسي [11, 24].

الأنماط الجغرافية والمواقع:
تمركز الرق الجنسي في المناطق التي كانت فيها المجتمعات الريفية معرضة بشدة للغارات. ففي دارفور وكردفان، اختُطفت النساء من القرى القريبة من الأنهار وطرق التجارة والممرات الصحراوية لضمان النقل السريع وتقليل فرص الهروب [11, 24, 71]. وكانت جبال النوبة مصدرًا رئيسيًا آخر، مع استهداف القرى خصوصًا خلال دورات الزراعة الموسمية أو أثناء الاضطرابات السياسية [11, 24]. وكانت المراكز الحضرية مثل الخرطوم وأمدرمان والأبيض ونيالا تعمل كمحاور مركزية لتوزيع النساء والفتيات على المنازل، والأسواق، وأنظمة العمل المرتبطة بالشبكات الإقليمية وعبر الإقليمية [11, 24].

الديناميات الزمنية:
كانت أنماط الرق الجنسي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالنزاع، وعدم الاستقرار السياسي، والعوامل الموسمية. تصاعدت الغارات والاختطافات خلال الحروب الأهلية، ونزاعات الميليشيات، وفترات ضعف الحكم المحلي [11, 24, 71]. وكان يتم اختيار الفترات الموسمية، خصوصًا ما بعد الحصاد، استراتيجيًا لزيادة فرص القبض على النساء والفتيات وتقليل المقاومة من المجتمعات الريفية [11, 24]. وسجلت ذروات الرق الجنسي خلال توسع الاستعمار التركي المصري في القرن التاسع عشر، وصراعات الدولة المهدية، والتحولات الاستعمارية المبكرة بعيد الغزو الانجليزي المصري، ما يعكس التفاعل بين الاضطراب السياسي والاستغلال المنهجي للنساء [11, 24, 71].

الأنماط الديموغرافية:
كان ضحايا الرق الجنسي في الغالب من الإناث، تتراوح أعمارهن بين الفتيات قبل سن المراهقة (8–14 سنة) والنساء في أوائل الثلاثينيات، ويتم اختيارهن وفقًا لقدرة التكيف مع العمل المنزلي والإنجابي والجنسي [11, 24, 71]. ونادرًا ما كان يُستهدف الذكور البالغون للاستغلال الجنسي، بل كانوا مخصصين للعمل الزراعي أو الرعوي أو العسكري، ما يظهر التقسيم الجندري داخل مؤسسة الرق [11, 24]. كما أثرت السمات العرقية والاجتماعية في اختيار الضحايا، حيث كانت الفئات المهمشة أو المجتمعات خارج حماية النخبة السياسية أكثر عرضة للاستهداف [11, 24].

اللوجستيات والنقل والتوزيع:
نُقلت النساء والفتيات المختطفات عبر طرق تجارية منظمة تربط القرى الريفية بالأسواق الحضرية والمزارع الإقليمية والمجمعات العسكرية [11, 24, 71]. وقد استخدم النقل النهري على طول النيل الأبيض، وقوافل الجمال عبر المناطق شبه الجافة، والمشي البري حسب المسافة والظروف الموسمية ومخاطر الأمن [11, 24]. وكانت مناطق الاحتجاز المؤقتة، غالبًا ضمن مساكن الزعماء المحليين أو المدن السوقية المحصنة، توفر مأوى ومؤنًا وتقييم الأسرى قبل وضعهم النهائي [11, 24]. وأدارت الأسر المشاركة في تجارة الرقيق اللوجستيات متعددة المراحل لتقليل الوفيات والحفاظ على القيمة الاقتصادية والعملية للنساء المختطفات [11, 24, 71].

الاندماج مع النظم الاقتصادية:
ارتبط الرق الجنسي ارتباطًا وثيقًا بالهياكل الاقتصادية الأوسع. فقد كانت النساء والفتيات يُقدَّرن للعمل المنزلي والجنسي، ما يسهم مباشرة في إنتاجية الأسر، والإنتاج الزراعي، والحرف اليدوية [11, 24]. واعتمدت الأسر الحضرية والريفية على هذا العمل القسري للحفاظ على تراكم الثروة، والمكانة الاجتماعية، والنفوذ السياسي، ما خلق شبكات مترابطة تعزز الطلب على الرق الجنسي [11, 24, 71]. وكانت الأسواق في المدن مثل الخرطوم وأمدرمان والأبيض تعمل كمحاور رئيسية لتقييم وبيع وتوزيع الأسرى الإناث، موصلة بين الاختطافات المحلية وأنظمة العمل الإقليمية [11, 24].

الآثار الاجتماعية والثقافية والنفسية:
كان للرق الجنسي المنتظم آثار اجتماعية وثقافية عميقة. فقد عانت المجتمعات المتكررة التعرض للاختطاف من اختلالات ديموغرافية، واضطراب الشبكات الأسرية، والتهميش الاجتماعي الطويل الأمد [11, 24]. وعانت النساء والفتيات من صدمات نفسية، وعمل إنجابي قسري، وتشرد اجتماعي، مما عزز عدم المساواة بين الأجيال وقيد الحركة الاجتماعية [11, 24, 71]. وساهم الرق الجنسي في ترسيخ الهياكل الأبوية، وتكريس سلطة النخبة، واستمرار التسلسلات الجندرية في البيئات الحضرية والريفية [11, 24, 71].

الأدلة الكمية والأنماط:
تشير التقديرات المستمدة من السجلات التاريخية والأرشيفية إلى أنه في مناطق رئيسية مثل دارفور وكردفان ووسط السودان، تم اختطاف واستغلال مئات النساء والفتيات سنويًا خلال فترات النزاع وعدم الاستقرار السياسي [11, 24, 71]. وكانت التقلبات الموسمية، والحملات العسكرية، والدورات الاقتصادية تؤثر على معدلات الاختطاف، مع تسجيل أعلى حالات الرق الجنسي في فترات ما بعد الحصاد وفترات الاضطراب السياسي [11, 24].

الخلاصة:
شكل الرق الجنسي في السودان ممارسة منظمة جدًا، محددة بالجنس، ومتجذرة اجتماعيًا، شملت عدة أطراف، وعملت ضمن أطر جغرافية وزمنية دقيقة، وكان لها آثار اقتصادية واجتماعية وثقافية طويلة الأمد [11, 24, 71]. ويعد فهم هذه الأنماط أساسيًا لفهم تقاطع الجندر، والإكراه، والنظم الاقتصادية ضمن مؤسسة الرق الأوسع في السودان.

الموضوع الفرعي ٥.٣: العمل القسري في سياقات النزاع

مثل العمل القسري في سياقات النزاع في السودان آلية منهجية تُجبر المجتمعات على دعم الأجندات العسكرية والسياسية والاقتصادية، لا سيما خلال فترات الحرب الأهلية، ونشاط الميليشيات، وحملات الدولة أو الفصائل المتمردة [9, 13, 14, 101]. وعلى عكس ترتيبات العمل في أوقات السلم، كان العمل القسري أثناء النزاع منظمًا وإلزاميًا، ويتم فرضه عبر مزيج من السلطة السياسية، وسيطرة الميليشيات، والإكراه الاجتماعي، ما تسبب في اضطرابات كبيرة في الاقتصاديات المحلية والهياكل الاجتماعية.

أصحاب المصلحة والمنفذون:
كان الفاعلون الرئيسيون الذين نظموا العمل القسري يشملون السلطات الحكومية، والزعماء المحليين، وقادة الميليشيات، والجماعات العسكرية الخاصة [9, 13, 14, 101]. خلال النزاعات الأهلية، قامت الجماعات المسلحة بتجنيد المدنيين – بما في ذلك الرجال والنساء والمراهقين – للعمل في الإنتاج الزراعي، وصيانة البنية التحتية، ونقل الإمدادات، والدعم اللوجستي للعمليات العسكرية [9, 14]. وغالبًا ما كانت السلطات السياسية تصادق على هذه الممارسات تحت ستار الاستقطاع في زمن الحرب، أو الضرائب العينية، أو الجزية، ما يوفر شرعية مؤسسية ويعزز السيطرة الهرمية [9, 13]. كما شارك بعض التجار المحترفين وشبكات الوسطاء في توجيه العمل القسري نحو المراكز الحضرية، أو الثكنات العسكرية، أو المزارع خلال فترات النزاع [13, 14].

التوزيع الجغرافي والمواقع:
حدث العمل القسري في مناطق النزاع الريفية والحضرية على حد سواء. ففي دارفور وكردفان، تعرضت القرى للغارات بشكل متكرر وتجنيد السكان لتوفير العمالة لحملات الدولة أو الميليشيات [9, 13, 101]. واستخدم وسط السودان، بما في ذلك المناطق المحيطة بالخرطوم وأمدرمان، العمالة القسرية في بناء التحصينات العسكرية، ونقل الإمدادات، وأداء الخدمات الحضرية الأساسية تحت إشراف مسلح [9, 13, 14]. وكانت طرق النهر على طول النيل والممرات شبه الصحراوية تُستخدم بشكل متكرر لنقل العمال القسريين لأغراض الدعم العسكري أو الاستغلال الاقتصادي [9, 13].

الديناميات الزمنية:
كانت أنماط العمل القسري مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بفترات النزاع المسلح، وعدم الاستقرار السياسي، والحملات العسكرية. خلال أواخر القرن التاسع عشر، أدت حروب المهدية (1881–1898) إلى تكثيف متطلبات العمل القسري لكل من المشاريع العسكرية والمدنية [9, 13]. وفي أوائل القرن العشرين، تحت الإدارة الاستعمارية، استمر الإكراه من خلال سياسات رسمية للعمل في المناطق المتأثرة بالاضطرابات، رغم استمرار بعض الشبكات السرية خارج الرقابة الرسمية [9, 14, 101]. كما تزامنت التغيرات الموسمية، مثل ما بعد الحصاد، غالبًا مع زيادة التجنيد بسبب توفر القوى العاملة الريفية [9, 13].

الأنماط الديموغرافية:
تأثر الرجال في سن العمل، والأولاد المراهقون، والنساء القادرات على أداء المهام الزراعية أو المنزلية أو الحرفية بشكل غير متناسب [9, 13, 14, 101]. وأحيانًا تم تجنيد الأطفال لأدوار مساندة مثل حمل الإمدادات، ورعي الماشية، والمساعدة في البناء [9, 101]. وكانت الأقليات العرقية أو المجتمعات خارج حماية النخب السياسية أكثر عرضة للاستغلال، ما يعكس تقاطع التراتبية الاجتماعية والتهميش واستغلال العمالة [13, 14].

التنظيم واللوجستيات:
كان تنظيم العمل القسري شديد الهيكلة، وغالبًا ما يشبه نظامًا عسكريًا أو بيروقراطيًا [9, 13, 101]. قام الزعماء المحليون بتنسيق حصص التجنيد، والإشراف على توزيع العمال، وضمان الامتثال من خلال التدابير العقابية [9, 13]. واعتمد نقل العمال إلى المراكز العسكرية أو الحضرية على طرق راسخة، تشمل النقل النهري على طول النيل الأبيض، وقوافل الجمال، والمسير على الأقدام عبر المناطق شبه الصحراوية [9, 14]. واستخدمت مناطق الاحتجاز أو المخيمات المؤقتة لإدارة العمال قبل توزيعهم، مع توفير الطعام، والمأوى، والإشراف تحت الحراسة المسلحة [13, 101]. وغالبًا ما امتدت الشبكات اللوجستية عبر مناطق متعددة، مع الحفاظ على استمرارية إمداد العمال من خلال الأسر المتعددة الأجيال والوسطاء المحترفين حتى خلال فترات النزاع المكثف [9, 13, 14].

الاندماج مع الأنظمة الاقتصادية والعسكرية:
ساهم العمل القسري في النزاعات مباشرة في دعم الحملات العسكرية، والإنتاج الزراعي لتزويد الجيوش، والبنية التحتية الحضرية [9, 13, 14, 101]. ففي دارفور وكردفان، دعم العمال القسريون زراعة المحاصيل وإدارة الماشية لإطعام الميليشيات والمجتمعات التابعة [9, 13]. واعتمدت المراكز الحضرية على العمل القسري في مشاريع البناء، وتشغيل الأسواق، والخدمات المنزلية، مما ربط الإكراه الناتج عن النزاع بالأنظمة الاقتصادية الإقليمية [9, 14]. وضمن الاستخراج المنهجي للعمالة، تم ضمان تحقيق أهداف الدولة والميليشيات، مع تعزيز التبعية والسيطرة على السكان المدنيين [9, 13, 101].

الآثار الاجتماعية والثقافية:
أدى العمل القسري في سياقات النزاع إلى اضطرابات كبيرة في بنية الأسر، والاقتصاديات المحلية، والتماسك الاجتماعي [9, 13, 14, 101]. وعانت الأسر من نقص العمالة، وفقدان الإنتاج الزراعي، وضعف طويل الأمد أمام الفقر وانعدام الأمن الغذائي [9, 13]. كما تم تعزيز التسلسلات الاجتماعية، حيث استفاد النخب الموالية من الوصول إلى العمالة، بينما واجهت المجتمعات المهمشة استغلالًا مستمرًا [13, 14]. وتسببت الصدمات النفسية، واضطراب المعرفة العمالية بين الأجيال، والنزوح القسري في خلق تفاوتات اجتماعية دائمة [9, 101].

الأنماط الكمية والتقديرات:
تشير السجلات التاريخية إلى أنه تم تجنيد مئات إلى آلاف الأفراد سنويًا خلال فترات النزاع القصوى في دارفور وكردفان ووسط السودان [9, 13, 14, 101]. وكانت تقلبات العمل القسري مرتبطة بالحملات العسكرية، والدورات الزراعية الموسمية، وشدة عمليات الميليشيات أو الدولة [9, 13]. وتوضح الدراسات الأرشيفية أن توزيع العمالة لم يكن عشوائيًا، بل كان منظمًا بشكل كبير، وغالبًا ما يتم تنسيقه عبر عدة قرى ومناطق لتعظيم الكفاءة واستخراج الموارد [13, 14, 101].

الخلاصة:
مثل العمل القسري في سياقات النزاع في السودان آلية منظمة ومنهجية ومتجذرة اجتماعيًا للاستغلال. فقد جمع بين الأهداف العسكرية والسياسية والاقتصادية، واعتمد على شبكات لوجستية معقدة، وكان له آثار مستمرة على المجتمعات المحلية، وبنية الأسر، والتسلسلات الاجتماعية الإقليمية [9, 13, 14, 101]. ويعد فهم هذه الديناميات ضروريًا لاستيعاب تقاطع الحرب والإكراه واستغلال العمالة في التاريخ السوداني.

الموضوع الفرعي ٥.٤: الفئات الضعيفة (الأطفال والنساء)

تأثر الأطفال والنساء في السودان بشكل غير متناسب بالاختطاف والاسترقاق والعمل القسري، لا سيما في المناطق المعرضة للنزاعات، ما يعكس تقاطع العوامل العمرية والجندرية والهشاشة الاجتماعية ضمن شبكات العمل القسري والاتجار بالبشر [9, 70, 103]. وقد كان استغلالهم منهجيًا ومنظمًا، امتد عبر السياقات المحلية والإقليمية وعبر الحدود، مع آثار بالغة على بنية الأسرة، والتماسك الاجتماعي، والقدرة المجتمعية على الصمود على المدى الطويل.

أصحاب المصلحة والمنفذون:
شملت الأطراف الرئيسية المستهدفة للفئات الضعيفة جماعات الميليشيات، والقوات المسلحة الخاصة، ومسؤولي الدولة، والوسطاء المشاركين في شبكات الاتجار [9, 70]. وكانت الجماعات المسلحة تنفذ غارات على القرى لاختطاف الأطفال والنساء، بينما صادقت السلطات أحيانًا على تجنيد هذه الفئات ضمن توجيهات العمل القسري أو التزامات الجزية أثناء الحرب [9, 103]. وغالبًا ما كانت الأسر وزعماء المجتمع غير قادرين على المقاومة، حيث تم تقويض الآليات التقليدية للحماية بفعل انتشار الفاعلين المسلحين [70, 103].

التوزيع الجغرافي والمواقع:
تم استهداف الفئات الضعيفة في عدة مناطق، مع تحديد دارفور وكردفان ووسط السودان كمناطق رئيسية [9, 70]. وقد سهلت الممرات النهرية على طول النيل ومسارات التجارة شبه الصحراوية حركة الأفراد المختطفين إلى المراكز الحضرية والثكنات العسكرية والأسواق الإقليمية [9, 103]. واستخدمت مواقع الاحتجاز المؤقتة، بما في ذلك معسكرات الميليشيات ونقاط التجميع الحضرية، لإدارة الأطفال والنساء المختطفين قبل توزيعهم على العمل، والخدمة المنزلية، أو البيع [70, 103].

الديناميات الزمنية:
تصاعدت عمليات الاختطاف واستغلال الأطفال والنساء خلال فترات النزاع المسلح، وعدم الاستقرار السياسي، وتوسع الميليشيات [9, 70]. وكانت أوقات الذروة مرتبطة بالحملات العسكرية، والغزوات الإقليمية، والفترات الموسمية الضعيفة، مثل ما بعد الحصاد، عندما يكون السكان الريفيون أكثر عرضة للخطر [9, 103]. وتشير الحسابات التاريخية إلى استمرار الاستهداف المنهجي خلال أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وفي النزاعات المحلية خلال الفترة الاستعمارية المتأخرة، مما يظهر استمرارية الممارسات رغم التدخلات الإدارية أو القانونية [70, 103].

الأنماط الديموغرافية:
كان الأطفال، وخاصة الأولاد الذين تتراوح أعمارهم بين ٨–١٥ عامًا والبنات بين ٦–١٤ عامًا، من أكثر الفئات تعرضًا للاختطاف والاستغلال [9, 70, 103]. وغالبًا ما كان يُوظف الأولاد في أدوار الدعم العسكري، ورعي الماشية، أو الأعمال الزراعية الشاقة، بينما كانت البنات تُوجَّه بشكل غير متناسب نحو الخدمة المنزلية، ورعاية الأطفال، والاستغلال الجنسي [9, 70]. وكانت النساء في سن الإنجاب غالبًا مجبرات على الخدمة المنزلية أو الدمج ضمن أسر الميليشيات، ما عزز الاعتماد والسيطرة [70, 103]. وكانت الأقليات العرقية والمجتمعات المهمشة اجتماعيًا أكثر عرضة، ما يعكس التفاوتات النظامية وتقاطع الضعف الاجتماعي والسياسي والاقتصادي [9, 103].

التنظيم واللوجستيات:
كان اختطاف ونقل الفئات الضعيفة منظمًا بدرجة عالية واستُخدمت شبكات لوجستية واسعة [9, 70]. وقد نسقت الجماعات المسلحة الغارات بدقة، غالبًا باستخدام المعلومات الاستخباراتية المستمدة من المخبرين المحليين أو المتعاونين بالقوة [9]. واعتمدت وسائل النقل على السفن النهرية، وقوافل الجمال، والمسير على الأقدام عبر الأراضي شبه الصحراوية، مع استخدام المخيمات المؤقتة كمحطات لتوزيع المختطفين على المهام العسكرية أو المنزلية أو السوقية [70, 103]. وغالبًا ما أُجبرت الأسر على الامتثال بالتهديد أو الغرامات أو العنف، مما عزز السيطرة الاجتماعية والاقتصادية للفاعلين المسلحين [9, 103].

الاندماج الاقتصادي والاجتماعي والعسكري:
كان الأطفال والنساء المختطفون خلال النزاع جزءًا لا يتجزأ من دعم عمليات الميليشيات، وأنظمة العمل المنزلية، والاقتصادات المحلية المتأثرة بالحرب [9, 70, 103]. وفي المناطق الزراعية، قدموا العمل الضروري للزراعة والحصاد وإدارة الماشية، لضمان إنتاج الغذاء للجماعات المسلحة والأسر التابعة [9]. وفي السياقات الحضرية، دمج المختطفون النساء والأطفال في الخدمة المنزلية، والإنتاج الحرفي، والعمليات اللوجستية، مما خلق رابطًا مباشرًا بين الاستغلال والاعتماد الاقتصادي الإقليمي [70, 103].

الآثار الاجتماعية والثقافية:
كان لاستهداف الأطفال والنساء تأثيرات عميقة وطويلة الأمد على البنى الاجتماعية، وسلامة الأسر، وقدرة المجتمع على الصمود [9, 70, 103]. وعانت الأسر من فقدان مقدمي الرعاية والمساهمين في العمل، ما أدى إلى انخفاض الإنتاج الزراعي، وعدم الاستقرار الاقتصادي، وزيادة التعرض للاستغلال اللاحق [9]. وعززت الاختطافات التسلسلات الاجتماعية، حيث ركزت النخب أو الفاعلون المسلحون السلطة والموارد على حساب الفئات المهمشة [70, 103]. وأسهمت الصدمات النفسية، واضطراب الروابط الأسرية، وانتقال الضعف بين الأجيال في استمرار التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية [9, 103].

التقديرات الكمية والأنماط:
على الرغم من صعوبة الحصول على أرقام دقيقة، تشير الدراسات إلى أن آلاف الأطفال والنساء خُطفوا بشكل منهجي خلال أبرز حلقات النزاع في دارفور وكردفان ووسط السودان [9, 70, 103]. وكانت معدلات الاختطاف الأعلى خلال ذروة حملات الميليشيات، وفترات ما بعد الحصاد، وفترات ضعف الإدارة، مما يعكس التفاعل بين الفرصة العسكرية والهشاشة الاجتماعية [9]. وتوضح المصادر الأرشيفية والأنثروبولوجية أن هذه الاختطافات لم تكن متفرقة، بل غالبًا ما نُظمت عبر عدة قرى ومناطق لتعظيم الكفاءة وتوفير العمالة، والخدمة المنزلية، أو الاستغلال الجنسي [70, 103].

الخلاصة:
تُظهر تجارب الأطفال والنساء في الاختطاف والعمل القسري المرتبط بالنزاع هشاشة هذه الفئات ضمن سياقات النزاع السودانية. فقد تقاطع استغلالهم مع الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الأوسع، مستديمًا العمليات المسلحة، ومعززًا السيطرة الهرمية، وترك أثرًا دائمًا على البنى الاجتماعية، وصلابة الأسر، واستقرار المجتمع [9, 70, 103].

الموضوع 6: الانتقال من العبودية إلى نظم العمل

مثل الانتقال من العبودية إلى نظم العمل البديلة في السودان تحولًا هيكليًا عميقًا أثر على جميع جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وقد تجلى هذا التحول أساسًا في ظل الإدارة الأنجلو-مصرية (1898–1956) واستمر في مرحلة ما بعد الاستقلال المبكر، متضمنًا أبعادًا قانونية واقتصادية واجتماعية [5, 45, 92]. استلزم إلغاء العبودية تطبيقًا قانونيًا منظمًا، وإنشاء أسواق عمل فعّالة، وإعادة دمج الأفراد المُحررين ضمن المجتمعات القائمة، وتكييف المزارع والاقتصادات الحضرية التي كانت تعتمد على العمالة المستعبدة، وإدارة التفاوتات المستمرة الموروثة عن قرون من العبودية [5, 45, 46, 92].

الإعفاء القانوني والتطبيق الاستعماري:
تم تشريع التحرر القانوني تحت الحكم الاستعماري من خلال مراسيم وتنظيمات وتعليمات إدارية، تم تطبيقها في المراكز الحضرية المكتظة مثل الخرطوم وأمدرمان وكوستي وود مدني، وفي المناطق الريفية مثل دارفور وكردفان وجبال النوبة [5, 45, 92]. أسست السلطات الاستعمارية مكاتب لمراقبة الامتثال، وفرضت عقوبات على المخالفين، وتنسيق مع الشيوخ المحليين والأمراء والسلاطين لتسهيل التطبيق [5, 45]. تضمنت آليات التطبيق دوريات على الطرق التجارية التي كانت تُستخدم لنقل العبيد سابقًا، ومراقبة عقود العمل، وتسجيل الأفراد المحررين، والتنسيق مع المحاكم الاستعمارية للفصل في النزاعات المتعلقة بالعبودية السابقة [5, 45, 46]. تفاوت تطبيق هذه الآليات إقليميًا؛ فقد شهدت المناطق الحضرية ومنطقة الجزيرة الزراعية مراقبة أكثر تنظيمًا، بينما تأخر الامتثال في المناطق النائية مثل جبل مرة وشمال دارفور بسبب القيود الجغرافية والسياسية والثقافية [5, 29, 32].

إنشاء وتنظيم أسواق العمل:
تم دمج الأفراد المحررين في أسواق العمل الجديدة التي صُممت لتعويض الوظائف الاقتصادية للعبودية [5, 45, 46, 92]. استوعبت الأسواق الحضرية في الخرطوم وأمدرمان وكوستي وشندي المحررين في أعمال الخدمة المنزلية والبناء والتجارة الصغيرة والمهام الإدارية الاستعمارية، بينما ركزت الأسواق الريفية في الجزيرة وكردفان ودارفور على الزراعة، والري، والرعي، والإنتاج الحرفي [5, 45, 46]. تم تنظيم عقود العمل رسميًا في المدن تحت إشراف استعماري، بينما استمرت الترتيبات غير الرسمية في الريف غالبًا بوساطة تجار العبيد السابقين الذين تحولوا إلى مشرفي عمل أو وسطاء محليين [5, 45, 46]. تشير السجلات التاريخية إلى أن المزارع وأصحاب العمل الحضريين وظفوا آلاف الأفراد المحررين سنويًا، بما في ذلك الرجال للزراعة والعمل العسكري، والنساء للخدمة المنزلية، والأطفال للتدريب الحرفي والأنشطة التجارية [5, 45, 46]. شملت طرق الدفع الأجور النقدية، والمقابل العيني (حبوب، ماشية، أو أقمشة)، والإسكان المؤقت، مما يعكس نظمًا هجينة جمعت بين القوانين الاستعمارية والممارسات الاقتصادية التقليدية [5, 46, 92].

المقاومة والتكيف من قبل المحررين:
مارس الأفراد المحررون دورًا فاعلًا في تشكيل علاقات العمل، من خلال التفاوض على التوظيف، ومقاومة الترتيبات الاستغلالية، وإنشاء مستوطنات مستقلة [5, 45]. شملت استراتيجياتهم الانتقال إلى أراضٍ طرفية، والانضمام إلى شبكات عائلية أو مجتمعية للتكافل والحماية، والانخراط الانتقائي في العمل بأجر للحفاظ على الاستقلالية [5, 45]. نسقت النساء شبكات العمل المنزلي، وجمعت بين الخدمة المنزلية والأنشطة التجارية ورعاية الأطفال لتعظيم البقاء والأمن الاقتصادي [5, 45]. تفاوض الرجال على ترتيبات العمل الموسمية التي سمحت بالمشاركة في الزراعة، والرعي، أو التجارة مع الوفاء بالالتزامات تجاه أصحاب العمل [5, 45]. شملت أنماط المقاومة أيضًا الحركة السرية للمحررين عبر المقاطعات، واللجوء إلى السلطات الاستعمارية للمطالبة بالحقوق، والتفاوض على الأجور وظروف العمل، مما يبرز وعيًا متقدمًا بالإطار القانوني والديناميات المحلية للسلطة [5, 45].

التباين الإقليمي في ممارسات العمل:
تباينت الانتقالات العملية بين المناطق بشكل ملحوظ. فقد دمجت خطة ري الجزيرة ووادي النيل العمالة المحررة في نظم إنتاج زراعي منظمة بوضوح، مع هياكل قائمة على المهارة والعمر والجنس والعرق [5, 29, 32]. بينما اعتمدت المناطق شبه القاحلة والنائية في دارفور وكردفان وجبال النوبة على ترتيبات هجينة جمعت بين العمل الموسمي، والزراعة بالمشاركة، والمشاركة الرعوية، والأجور غير الرسمية، بما يعكس الظروف البيئية المحلية، والمعايير الاجتماعية، وشبكات الرعاية المتبقية [5, 29, 32]. استوعبت المراكز الحضرية المحررين في قطاعات الخدمة المنزلية، والتجارة، والإدارة، مع الحفاظ على هياكل هرمية متأثرة بالعرق، والوضع الاجتماعي السابق، والبيروقراطية الاستعمارية [5, 29, 32]. ربطت شبكات التجارة مناطق الإنتاج الريفية بالمراكز الحضرية لضمان استمرارية توافر العمالة، ما ساهم في استمرار اعتماد النشاط الاقتصادي الإقليمي على تنقل اليد العاملة [5, 29, 32].

الاعتماد الاقتصادي والاستمرارية الهيكلية:
شكل إرث العبودية علاقات العمل بعد التحرر. ظلت المزارع الصغيرة، والمزارع الكبيرة، والمؤسسات الحضرية تعتمد على قوة العمل المنظمة؛ حيث واجه الأفراد المحررون قيودًا على الوصول إلى الأراضي، وحركة محدودة، وعدم مساواة اجتماعية، غالبًا ما أعادت إنتاج الهياكل الهرمية للعبودية بصيغ جديدة [5, 45, 46, 92]. حاولت السلطات الاستعمارية وضع حقوق العمل، وتحديد الحد الأدنى للأجور في بعض القطاعات، ومراقبة الانتهاكات، لكن التنفيذ كان متفاوتًا، خصوصًا في المناطق الريفية النائية حيث احتفظت النخب المحليون بنفوذ كبير على توزيع العمل [5, 45, 46]. تشير التقديرات الإحصائية إلى أن المزارع الكبرى في الجزيرة وظفت آلاف المحررين سنويًا، في حين استوعبت المزارع الصغيرة والأسر الحضرية المئات، مما يوضح مدى اعتماد الاقتصاد على اليد العاملة واستمراريته [5, 45, 46, 92].

التأثيرات الاجتماعية والثقافية:
كان للانتقال إلى نظم العمل آثار اجتماعية وثقافية عميقة. سعى الأفراد المحررون إلى إعادة بناء الأسر التي دمرتها العبودية، والحفاظ على الروابط بين الأجيال، وإنشاء مؤسسات مجتمعية لحل النزاعات، والحماية الاجتماعية، والتفاوض على العمل [5, 45, 92]. استمرت الهياكل الاجتماعية في التأثير على الوصول إلى أسواق العمل، والإسكان، والتعليم، فيما شكلت الهوية العرقية والإقليمية أنماط التوظيف والاندماج الاجتماعي [5, 29, 32]. تضمنت التأثيرات الثقافية طويلة المدى إعادة تشكيل الهياكل الأسرية، واستمرار شبكات الرعاية، وإنشاء آليات حكم محلية جديدة تنظم الحياة الاقتصادية والاجتماعية [5, 45, 92].

الديناميات الزمنية والسياق التاريخي:
تطور الانتقال على مدى عقود، بدءًا من التحرر الرسمي في أوائل القرن العشرين واستمرارًا في نظم العمل بعد الاستقلال. تغيرت أنماط دمج العمالة مع التطورات السياسية، بما في ذلك ترسيخ الإدارة الاستعمارية، والتمردات الإقليمية، وتقلبات الإنتاج الزراعي، والظروف الاقتصادية العالمية التي أثرت على أسعار السلع والطلب على اليد العاملة السودانية [5, 29, 32, 45, 46, 92]. شكلت الدورات الموسمية، والظروف البيئية مثل الجفاف والفيضانات، والصراعات المحلية توفّر العمالة وعملية تشغيل الأسواق، مما يوضح التفاعل المعقد بين العوامل البيئية والاجتماعية والاقتصادية في تشكيل نظم العمل بعد العبودية [5, 29, 32, 45, 46, 92].

الاستنتاجات الشاملة:
لم يكن الانتقال من العبودية إلى نظم العمل في السودان موحدًا أو فوريًا. فقد شمل تنسيقًا متعدد المستويات بين السلطات الاستعمارية، والسكان المحررين، والنخب المحلية، والوسطاء في سوق العمل، مما أنتج نتائج إقليمية متفاوتة على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. يعد فهم هذا الانتقال أمرًا أساسيًا لاستيعاب الإرث طويل المدى للعبودية في السودان، بما في ذلك استمرار التفاوتات، والاعتماد الهيكلي على التسلسل الهرمي للعمل، والفوارق الاقتصادية الإقليمية، والتفاوض المستمر على الهوية والوضع الاجتماعي من قبل السكان المحررين [5, 29, 32, 45, 46, 92].

الموضوع الفرعي 6.1: التحرر تحت الحكم الاستعماري

مثل التحرر تحت الحكم الاستعماري في السودان عملية محورية ومعقدة أعادت تشكيل نظم العمل والهياكل الاجتماعية والاعتماد الاقتصادي الموروث عن قرون من العبودية. وقد تجلت هذه العملية أساسًا خلال فترة الحكم الثنائي الأنجلو-مصري (1898–1956)، عندما نفذت السلطات الاستعمارية مزيجًا من المراسيم القانونية، والتطبيق الإداري، والتعاون المحلي لإلغاء العبودية ودمج السكان المحررين في أطر عمل بديلة [5, 45, 92].

تم توثيق التحرر القانوني من خلال مراسيم رسمية صادرة عن الإدارة الاستعمارية في الخرطوم، وجرى تعميمها على المكاتب الإقليمية والمناطقية في دارفور وكردفان وجبال النوبة ووسط السودان [5, 45]. حظرت هذه المراسيم ملكية العبيد وتجارة واستغلال الأفراد بالقوة، وفي الوقت نفسه أنشأت آليات لمراقبة الالتزام. عمل المفتشون الاستعماريون عن كثب مع الشيوخ المحليين والأمراء وكبار القرى لضمان تطبيق التحرر، وغالبًا ما تطلب ذلك تسجيل الأفراد المحررين، والإشراف على انتقالهم إلى العمل بأجر أو الزراعة الذاتية، والفصل في النزاعات الناشئة عن العبودية السابقة [5, 45].

واجه التطبيق العملي للتحرر تفاوتات إقليمية كبيرة بسبب العوامل الجغرافية والسياسية والثقافية. شهدت المراكز الحضرية مثل الخرطوم وأمدرمان وكوستي ووَد مدني تطبيقًا أسرع، حيث تم دمج المحررين في الأعمال المنزلية، والتجارة، والبناء، والأدوار الإدارية. أما المناطق الريفية، بما في ذلك المناطق النائية في دارفور وكردفان وجبال النوبة، فواجهت امتثالًا أبطأ بسبب محدودية الوجود الاستعماري، وهياكل السلطة المحلية المتجذرة، ومقاومة بعض النخب الذين استمروا في الاعتماد على العمل السابق للعبيد في الأنشطة الزراعية والرعوية والحرفية [5, 45, 92].

استخدمت السلطات الاستعمارية استراتيجيات متعددة لتعزيز التحرر. فقد أنشأت دوريات على طرق تجارة العبيد السابقة والمسارات التجارية الرئيسية لمنع الأسر أو التجارة غير القانونية للمحررين. كلفت المحاكم بالفصل في الشكاوى المتعلقة بالعبودية المتبقية، أو نزاعات العمل، أو الإكراه، لضمان المساءلة القانونية للمخالفين. نسقت المكاتب الإدارية مع الوسطاء المحليين لتسهيل إعادة توزيع السكان المحررين في ترتيبات عمل قانونية، وجمعت بيانات عن حجم السكان، والعمر، والجنس، والمهارات السابقة للعمل لتخطيط دمج فعال [5, 45, 92].

شمل أصحاب المصلحة في عملية التحرر المسؤولين الاستعماريين، ومشرفي المقاطعات، والشيوخ المحليين، والأمراء، وكبار القرى، والسكان المحررين، وأصحاب العبيد السابقين، والوسطاء في سوق العمل [5, 45]. شارك الأفراد المحررون بنشاط في تشكيل حياتهم بعد العبودية، من خلال التفاوض على شروط العمل، والبحث عن حماية من الممارسات الاستغلالية، والاستفادة من الشبكات العائلية أو المجتمعية لضمان الاستقلالية والحصول على الأراضي أو السكن. غالبًا ما قاوم أصحاب العبيد السابقون والنخب المحلية الأبعاد الكاملة للتحرر، محاولين الاحتفاظ بالسيطرة على العمالة من خلال ترتيبات شبه تعاقدية، أو الإكراه، أو التلاعب بهياكل السلطة المحلية [5, 45, 92].

تشير التقديرات الكمية إلى أن آلاف الأفراد المستعبدين تحرروا رسميًا في السودان خلال أوائل القرن العشرين، مع ذروة النشاط الإداري بين عامي 1900 و1930. اعتمدت المزارع الكبرى في مشروع الجزيرة ووادي النيل على برامج عمل منظمة كبديل للحفاظ على الإنتاج بعد التحرر، بينما استوعبت المزارع الصغيرة، وورش الحرفيين، والأسر الحضرية في أمدرمان والخرطوم مئات المحررين سنويًا [5, 45, 92].

كان للعملية أيضًا آثار اجتماعية وثقافية عميقة. سعى السكان المحررون إلى إعادة بناء الأسر التي تعرضت للتفكك، وإعادة تأسيس الروابط المجتمعية، والتفاوض على المكانة الاجتماعية ضمن مجتمعات هرمية ما زالت متأثرة بالأنماط التاريخية للعبودية [5, 45]. لعبت الديناميات القائمة على النوع الاجتماعي دورًا مهمًا: إذ غالبًا ما أدارت النساء العمل المنزلي والتجاري، بينما شارك الرجال في الأسواق الزراعية والرعوية والمهارات الحرفية، بما يعكس تقسيم العمل الموروث من عصر العبودية [5, 45, 92].

رغم الإلغاء القانوني، لم يكن التحرر فوريًا أو موحدًا بالكامل. ففي بعض المناطق استمر الاعتماد غير الرسمي على العمل، حيث واصل الأفراد المحررون العمل في ظروف تذكر بالعبودية، غالبًا بوساطة شبكات الرعاية، أو الديون، أو سلطة أصحاب العمل السابقين [5, 45]. حاولت السلطات الاستعمارية مراقبة هذه الممارسات وتصحيحها من خلال عمليات التفتيش الدورية، وعقود العمل، والتدخلات القضائية، على الرغم من أن التطبيق كان متفاوتًا في المناطق النائية [5, 45, 92].

باختصار، شكل التحرر تحت الحكم الاستعماري في السودان تحولًا متعدد الأبعاد يشمل الجوانب القانونية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وشمل تنسيقًا دقيقًا بين المسؤولين الاستعماريين، والسلطات المحلية، والسكان المحررين، والوسطاء في سوق العمل، وأنتج نتائج متفاوتة إقليميًا، ومهّد الطريق لإنشاء أسواق عمل لاحقة، واستراتيجيات تكيف، وإعادة هيكلة اجتماعية [5, 45, 92]. ويعد فهم العمليات، وأصحاب المصلحة، والديناميات الإقليمية للتحرر أمرًا أساسيًا لاستيعاب مسار نظم العمل في السودان والإرث طويل المدى للعبودية.

الموضوع الفرعي 6.2: إنشاء أسواق العمل للسُود المحررين من العبودية

استلزم الانتقال من العبودية إلى نظم العمل المعترف بها قانونيًا في السودان إنشاء أسواق عمل منظمة لاستيعاب السكان المحررين حديثًا. بعد التحرر القانوني في ظل الحكم الاستعماري (1898–1956)، احتاج الأفراد المحررون إلى آليات منظمة للحصول على وظائف، والحفاظ على سبل العيش، والاندماج في الاقتصاد الأوسع، بينما كان أصحاب العمل والنخب المحلية بحاجة إلى مصادر عمالة موثوقة لتحل محل القوى العاملة المستعبدة [5, 45, 46, 92].

أقامت الإدارة الاستعمارية، بالتنسيق مع الشيوخ المحليين والأمراء وكبار القرى، سجلات للعمال لتوثيق الأفراد المحررين، شاملة تفاصيل العمر والجنس والمهنة السابقة والمهارات والانتماءات العائلية ومنطقة الأصل. وقد ساعدت هذه السجلات في التوزيع على الأراضي الزراعية، وورش الحرف الحضرية، والأسر المنزلية، والمراكز التجارية الإقليمية [5, 45, 46]. وكانت المراكز الحضرية الرئيسية لدمج العمالة تشمل الخرطوم، أمدرمان، كوستي، ووَد مدني، بينما استوعبت المزارع الريفية في مشروع الجزيرة وكردفان ودارفور أعدادًا كبيرة من العمال الزراعيين والرعويين المحررين [5, 45, 92].

كان إنشاء أسواق العمل منظمًا بشكل كبير وشارك فيه عدة أطراف. عمل المسؤولون الاستعماريون كمنظمين، حيث وضعوا قوانين العمل، وحددوا أدنى شروط للوظائف، وأشرفوا على حل النزاعات. أما ملاك المزارع والتجار والحرفيون فكانوا أصحاب العمل، يتفاوضون بشأن الأجور والعقود وتوزيع المهام مع الأفراد المحررين. وقد قام الوسطاء المحليون، بما في ذلك شيوخ القرى وأصحاب العبيد السابقين، أحيانًا بتسهيل المفاوضات أو التأثير على توزيع العمالة، مما يعكس استمرار الهياكل الاجتماعية وأنظمة الرعاية [5, 45, 46]. شارك الأفراد المحررون بنشاط في التفاوض على شروط العمل، ساعين للحصول على أجور عادلة، وساعات عمل معقولة، وحماية من الممارسات القسرية [5, 45, 92].

تميزت أسواق العمل بالتنوع حسب القطاع ومستوى المهارة. فقد هيمنت العمالة الزراعية، لا سيما في المناطق المروية مثل مشروع الجزيرة، حيث عمل المحررون في الزراعة، وإدارة الري، والحصاد، ورعاية الماشية. أما الحرفيون المهرة، بما في ذلك الحدادون، والنساجون، والفخارون، والنجارون، فتم توظيفهم في ورش حضرية لتلبية احتياجات الأسواق المحلية وشبكات التجارة الإقليمية [5, 45, 46]. واستمرت العمالة المنزلية في استيعاب نسبة كبيرة من النساء والأطفال، الذين أدوا مهام إدارة المنازل، وإعداد الطعام، ورعاية الأطفال، والخدمات المنزلية الأخرى [5, 45, 92].

تأثر توزيع العمالة بالأنماط الموسمية والدورية. فكانت ذروة الطلب على العمل تتزامن مع مواسم الزراعة والحصاد في المزارع، وفترات البناء في المراكز الحضرية، ودورات الأسواق في مدن مثل نيالا، والأبيض، والفاشر [5, 45]. وتشير التقديرات الكمية إلى أن مئات إلى آلاف الأفراد المحررين تم توظيفهم سنويًا في المزارع الكبرى والمراكز الحضرية خلال العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، مع تقلب توزيع العمالة استجابةً للظروف المناخية، والصراعات المحلية، والطلب في الأسواق [5, 46, 92].

تم تنظيم عقود العمل بدرجات متفاوتة. ففي بعض الحالات، كانت الاتفاقيات مكتوبة تحدد الأجور، والمدة، والواجبات، بينما كانت الترتيبات العرفية في مناطق أخرى تحكم شروط العمل، تحت إشراف الشيوخ المحليين. وتدخلت الإدارة الاستعمارية لضمان الالتزام باللوائح الناشئة، غالبًا من خلال تفتيش المزارع والورش الحضرية لمنع الممارسات الاستغلالية المشابهة للعبودية [5, 45, 46].

وتضمن إنشاء أسواق العمل أيضًا التدريب وتكييف المهارات. فقد تلقى السكان المحررون، الذين كانوا متخصصين مسبقًا في مهام محددة ضمن تسلسل العمل في العبودية، توجيهًا رسميًا وغير رسمي لتلبية متطلبات السوق، بما في ذلك تقنيات الري، وأساليب الإنتاج الحرفي، وإدارة المنازل، والمهارات التجارية. وقد ساعد ذلك على اندماجهم في اقتصاد العمالة المأجور، مع دعم التعافي والنمو الاقتصادي الإقليمي [5, 45, 92].

وشكلت الديناميات الثقافية والاجتماعية مشاركة الأفراد في العمل. فقد أثرت شبكات الرعاية، والانتماءات العرقية، والروابط العائلية في التوزيع، مع احتفاظ بعض المجتمعات بالهيمنة في قطاعات معينة، مثل الحرف في المدن أو العمل الرعوي في كردفان ودارفور [5, 45, 46]. وغالبًا ما تمركزت النساء والأطفال في الأدوار المنزلية والتجارية، بينما تولى الرجال الأعمال الزراعية أو الصناعية الشاقة، ما يعكس تقسيم العمل على أساس النوع الاجتماعي الموروث من العبودية [5, 45, 92].

وكانت لهذه الأسواق آثار طويلة المدى. فقد ساعدت على استقرار الاقتصاد السوداني خلال الفترة الاستعمارية المبكرة، ووفرت للسكان المحررين سبل عيش، وأعادت تدريجيًا تشكيل الهياكل الاجتماعية. ومع ذلك، استمرت عدم المساواة المتبقية، حيث احتفظت النخب السابقة بالمزايا في الوصول إلى الأراضي ورأس المال والنفوذ على توزيع العمالة، بينما كان للمحررين قدر محدود من التنقل الاجتماعي [5, 45, 46, 92].

وباختصار، كان إنشاء أسواق العمل للسود المحررين من العبودية عملية منظمة ومتعددة الأبعاد، تشمل التنسيق بين السلطات الاستعمارية، والنخب المحلية، وأصحاب العمل، والأفراد المحررين. وقد شكلت هذه الأسواق حلقة وصل بين إلغاء العبودية وإقامة اقتصاد عمل منظم، ميسرة دمج السكان المحررين في أدوار إنتاجية، وداعمة للاحتياجات الاقتصادية الإقليمية، ومؤثرة على الأنماط الاجتماعية والثقافية لعقود [5, 45, 46, 92].

الموضوع الفرعي 6.3: المقاومة والتكيف لدى المحررين من العبودية

بعد التحرر في ظل الحكم الاستعماري (1898–1956)، انخرط المحررون من العبودية في السودان في أشكال متنوعة من المقاومة واستراتيجيات التكيف للتفاوض على الاستقلالية، والبقاء الاقتصادي، والاعتراف الاجتماعي في الاقتصاد العملي الجديد [5, 45]. ولم تكن هذه الاستراتيجيات موحدة أو عفوية؛ بل تشكلت وفق السياقات الاجتماعية والسياسية المحلية، والانتماءات العرقية، والمهارات السابقة، وشبكات الرعاية القائمة. سعى المحررون إلى إعادة تعريف أدوارهم في المجتمع أثناء التنقل ضمن الهياكل المتبقية من عدم المساواة والتدرجات الاجتماعية الموروثة من العبودية.

على المستوى المحلي، تجلت المقاومة غالبًا من خلال المشاركة الانتقائية في العمل. تفاوض الأفراد المحررون حول الأجور، وساعات العمل، وشروط الوظيفة مع ملاك المزارع، وأصحاب العمل الحضريين، والسلطات المحلية، مستفيدين من مهاراتهم الضرورية في الزراعة، وإدارة الرعي، والحرف اليدوية، والعمل المنزلي [5, 45]. وفي بعض الحالات، شمل ذلك الانتقال من المزارع أو الأسر ذات الممارسات الاستغلالية إلى أصحاب عمل بديلين أو مراكز حضرية توفر شروطًا أفضل، مما أظهر قدرات استراتيجية واستغلال أسواق العمل الناشئة لتحسين النتائج الاقتصادية.

اتخذ التكيف الجماعي شكل تنظيم المجتمع وشبكات الدعم. غالبًا ما استقر المحررون في تجمعات داخل مدن مثل الخرطوم، وأمدرمان، وكوستي، ومراكز الأسواق الإقليمية في الجزيرة، وكردفان، ودارفور. وقد سهلت هذه التجمعات المساعدة المتبادلة في التوظيف، ومشاركة الموارد، والحماية من ممارسات العمل القسري [5, 45]. وكانت الروابط العائلية والعرقية حاسمة في هذه الاستراتيجيات التكيفية، حيث وسّطت الأسر والشبكات الممتدة الوصول إلى الوظائف، والتدريب على المهارات، وفرص الأسواق، معززة التماسك الاجتماعي والمرونة.

في المناطق الريفية، تطلب التكيف غالبًا اندماج المحررين في أنظمة الزراعة والرعي كعمال مستقلين أو شركاء في الحيازة. تفاوضوا حول الإيجار والأجور مع ملاك الأراضي المحليين أو السلطات القبلية مع السعي للحفاظ على عناصر الاستقلالية التي حُرِموا منها سابقًا [5, 45]. وشمل ذلك إدارة الأراضي الشخصية للزراعة الكافية للاكتفاء، والمشاركة في ترتيبات العمل التعاونية المحلية، واكتساب المهارات ورأس المال تدريجيًا للانتقال إلى أدوار اقتصادية شبه مستقلة.

قاوم المحررون أيضًا التهميش الاجتماعي من خلال تأكيد حضورهم في المجالات الاقتصادية والثقافية. سمحت مشاركتهم في الأسواق الحضرية، والنقابات الحرفية، والتعاونيات الزراعية بإقامة سمعة للموثوقية والمهارة، مما أدى تدريجيًا إلى تحدي الوصم المرتبط بوضعهم السابق كعبيد [5, 45]. وفي حالات موثقة، انخرط المحررون في أنشطة ريادية غير رسمية—تجارة السلع، تقديم الخدمات المتخصصة، وتأجير اليد العاملة—لتنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على المزارع أو العمل الخاضع للسيطرة الاستعمارية.

تأثرت استراتيجيات المقاومة والتكيف بالزمن. خلال العقدين الأولين من الحكم الاستعماري، ركز السكان المحررون على تأمين سبل العيش الأساسية والاستقرار. بحلول عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، أصبحت أنماط الهجرة إلى المراكز الحضرية، والمشاركة في الزراعة التجارية، والانخراط في الحرف والصناعات الحضرية أكثر انتشارًا، مما يعكس تكيفًا استراتيجيًا ومستمرًا مع الظروف الاقتصادية والسياسية المتغيرة [5, 45].

تشير الأدلة الكمية إلى حجم ونطاق هذه السلوكيات التكيفية. في مناطق مثل الجزيرة وكردفان، كان آلاف المحررين ينتقلون سنويًا بين المزارع والمراكز الحضرية ومراكز الأسواق لتحسين ظروف العمل والفرص الاقتصادية [5, 45]. وقد تأثرت تدفقات الهجرة بالطلب الموسمي على العمل، ودورات الحصاد، والصراعات المحلية، مما يعكس المرونة واتخاذ القرارات الاستراتيجية.

امتدت المقاومة أيضًا إلى المجالات الاجتماعية والثقافية. حافظ السكان المحررون بنشاط على التقاليد والذاكرة الجماعية والممارسات الثقافية كوسائل للحفاظ على الهوية والمرونة. وعززت الطقوس الدينية والموسيقية والجماعية التماسك داخل التجمعات، كما عملت كآليات للتفاوض على الاحترام والسلطة ضمن المجتمع الأوسع [5, 45]. وقد أكملت هذه التكيفات الثقافية الاستراتيجيات الاقتصادية، مما أتاح للمحررين تأسيس أسر ومؤسسات مجتمعية مستقرة رغم استمرار عدم المساواة البنيوية.

وباختصار، مثلت المقاومة والتكيف لدى المحررين في السودان استجابة متعددة الأبعاد لإرث العبودية والقيود الهيكلية لنظم العمل الاستعمارية المبكرة. من خلال التفاوض، والتنقل، والتنظيم الجماعي، وتنويع الأنشطة الاقتصادية، والتأكيد الثقافي، أعاد السكان المحررون تشكيل واقعهم الاجتماعي والاقتصادي، مسهمين في تطور اقتصاد العمل بعد العبودية ووضع أساس لمشاركة الأجيال اللاحقة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية [5, 45].

الموضوع الفرعي 6.4: الاختلافات الإقليمية في ممارسات العمل

أظهرت ممارسات العمل في السودان بعد التحرر من العبودية تفاوتًا إقليميًا كبيرًا، يعكس الاختلافات في الظروف البيئية، والهياكل الاقتصادية، والأنماط الديموغرافية، والإرث التاريخي للعبودية [5, 29, 32]. وتأثرت هذه الاختلافات بطبيعة نظم الإنتاج المحلية، ووجود المراكز الإدارية الاستعمارية، والوصول إلى الأسواق الحضرية، والتدرجات الاجتماعية القائمة التي شكلت علاقات أصحاب العمل والعمال وأنماط حركة اليد العاملة.

في منطقة الجزيرة، دعمت السهول الخصبة على طول النيل الأزرق الزراعة المروية واسعة النطاق التي أصبحت محور السياسة الاقتصادية الاستعمارية. غالبًا ما تم توظيف المحررين في هذه المنطقة في زراعة السكر والقطن والحبوب ضمن عقود أجور رسمية وترتيبات مشاركة المحصول [5, 29]. وكانت ممارسات العمل منظمة بشكل دقيق، مع تحديد أدوار واضحة للزراعة، وإدارة الري، والحصاد، ورعاية الماشية. وكانت الهجرات الموسمية للعمال شائعة، حيث انتقل المحررون بين المزارع استجابة لمواسم الزراعة والحصاد. وقد حافظ المسؤولون الاستعماريون ومديرو المزارع على سجلات مفصلة لتكوين القوى العاملة والإنتاج، مما يعكس أهمية اليد العاملة المحررة واستمرار الرقابة الهرمية [5, 29].

في كردفان ودارفور، عكست الاختلافات الإقليمية البيئة شبه الجافة وسيادة الرعي إلى جانب الزراعة المطرية [5, 29, 32]. تكيفت المجتمعات المحررة مع فرص العمل التي جمعت بين الزراعة، ورعي الماشية، والحرف اليدوية. غالبًا ما تضمنت عقود العمل الأجور النقدية والمدفوعات العينية مثل الحبوب، والماشية، أو المأوى. وتماشت الأنماط الموسمية للعمل مع دورات الأمطار، وتناوب المراعي، ومسارات الترحال، مما تطلب المرونة والمعرفة البيئية المحلية [5, 29]. وقد وسّطت الشبكات الاجتماعية، بما في ذلك الروابط العائلية وعلاقات الرعاية، الوصول إلى فرص العمل، مما مكّن المحررين من التنقل بين الهياكل المحلية للسلطة ولوائح العمل الاستعمارية [32].

في جبال النوبة، شكلت التضاريس الوعرة والتجمعات المتفرقة ممارسات عمل مميزة [5, 32]. غالبًا ما تم توظيف المحررين في الزراعة الصغيرة، وجمع منتجات الغابات، والحرف اليدوية مثل صناعة النسيج، والفخار، والأعمال المعدنية. وكانت الحركة أكثر محدودية مقارنة بمناطق السهول الفيضية، مما أدى إلى نظم عمل محلية تركز على التعاون الأسري والمجتمعي. وتعكس هذه الأنماط القيود الجغرافية واستمرار التدرجات الاجتماعية قبل الاستعمار، مع استمرار دور الشيوخ والسلطات القبلية في تخصيص العمل وحل النزاعات [5, 32].

أما السودان المركزي، بما في ذلك المراكز الحضرية مثل الخرطوم، وأمدرمان، وكوستي، فقد أظهر ديناميات عمل مختلفة [5, 29]. هاجر المحررون إلى هذه المدن بحثًا عن وظائف في الخدمة المنزلية، والتجارة، والبناء، والإدارة العامة. وتأثرت ممارسات العمل الحضرية بلوائح العمل الاستعمارية، والطلب في السوق، وتوافر العمالة الماهرة بين السكان المحررين. وتشير السجلات الإحصائية من عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين إلى أن آلاف الأفراد المحررين تم توظيفهم سنويًا في القطاعات الحضرية، مما يعكس حجم التحرر واندماج السكان المحررين في أسواق العمل الإقليمية [5, 29, 32].

تنوعت الجهات الفاعلة عبر المناطق. في المناطق الزراعية، نظم ملاك المزارع، والشيوخ المحليون، والمسؤولون الاستعماريون تدفقات العمال وفرضوا العقود [5, 29]. في المناطق الرعوية، وسّطت السلطات القبلية وشيوخ المجتمع الترتيبات العمالية، وضمنت الامتثال للأعراف التقليدية مع دمج المحررين في نظم الإنتاج المجتمعية [32]. أما المراكز الحضرية، فكان التجار، والمسؤولون الاستعماريون، ورؤساء الأسر، والنقابات الحرفية الماهرة هم الفاعلون الرئيسيون الذين يؤثرون في تخصيص العمل والفرص الاقتصادية للسكان المحررين [5, 29].

كما أثرت العوامل الزمنية على التباين الإقليمي في العمل. في العقدين الأولين من الحكم الاستعماري (1898–1920)، كانت تخصيصات العمل مدفوعة أساسًا باستقرار اقتصاديات ما بعد العبودية وإرساء الرقابة الإدارية الاستعمارية. وبحلول ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، أصبحت أسواق العمل الإقليمية أكثر مؤسسية، مع أنظمة أجور رسمية، ولوائح عمل، واتفاقيات موظف-صاحب عمل موثقة ومطبقة بشكل متزايد [5, 29, 32]. وقد خلقت الصدمات الاقتصادية مثل الجفاف، وغزو الجراد، وتقلبات أسعار السلع العالمية تفاوتًا إقليميًا في الطلب على العمل والأجور، مما أبرز قدرة المحررين على التكيف مع الظروف المتنوعة [5, 32].

تشير الأدلة الكمية إلى هذه الاختلافات الإقليمية. على سبيل المثال، في منطقة الجزيرة، وظفت المزارع مئات إلى آلاف العمال المحررين موسميًا، بينما سجلت كردفان ودارفور مجموعات عمالية أصغر لكنها متحركة للغاية، تعمل في الزراعة والرعي متعدد الأغراض [5, 29]. واستضافت المراكز الحضرية نسبة كبيرة من المحررين، حيث أشارت التعدادات وسجلات العمل إلى تركيزهم في الخدمة المنزلية، والتجارة، والحرف الماهرة [5, 32]. وتعكس هذه الاختلافات كيف شكلت العوامل الجغرافية والبيئية والاجتماعية والسياسية نظم العمل في مختلف مناطق السودان بعد التحرر من العبودية.

وباختصار، توضح الاختلافات الإقليمية في ممارسات العمل التفاعل المعقد بين الظروف البيئية، والإرث التاريخي، والتدرجات الاجتماعية، والسياسات الاقتصادية الاستعمارية. استخدم السكان المحررون استراتيجيات متنوعة للتكيف، والتنقل، واستثمار المهارات لضمان البقاء الاقتصادي، والاعتراف الاجتماعي، والاستقلالية عبر مشهد السودان المتنوع. وتوفر هذه النظم الإقليمية للعمل فهمًا دقيقًا لمرحلة الانتقال بعد العبودية، وتبرز التأثير المستمر للهياكل الاجتماعية والاقتصادية السابقة على تنظيم العمل [5, 29, 32].

عن د. عبد المنعم مختار

د. عبد المنعم مختار

شاهد أيضاً

القوات المسلحة السودانية: التطور التاريخي، الأدوار، الصراعات، ومسارات الإصلاح بعد الحرب الأهلية

د. عبد المنعم مختاراستاذ جامعي في مجال الصحة العامةالمدير العام للشركة الألمانية-السودانية للبحوث والاستشارات وبناء …