العلاقات المصرية – السودانية في القرون الوسطى

العلاقات المصرية–السودانية في القرون الوسطى (1200–1500): الديناميات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية (الجزء الأول)

د. عبد المنعم مختار
استاذ جامعي في مجال الصحة العامة
المدير العام للشركة الألمانية-السودانية للبحوث والاستشارات وبناء القدرات
المدير التنفيذي لمركز السياسات القائمة على الأدلة والبيانات

الملخص

شهدت العلاقة بين مصر والنوبة تحوّلات سياسية وعسكرية معقدة استمرت لقرون، تمثل أبرزها معاهدة البقط (652م)، التي شكلت إطارًا قانونيًا وإداريًا طويل الأمد لتنظيم التعايش والتبادل بين الطرفين. جاءت المعاهدة بعد سلسلة غزوات إسلامية فاشلة على النوبة، وأكدت على السلام المتبادل، تبادل الجزية والبضائع، حرية الدين، وحماية التجار والمسافرين، مع آليات تنفيذ سنوية من دنقلا إلى أسوان. وقد تطورت مع الزمن لتصبح إطارًا مرنًا للتجارة والسياسة، متأثرة بالتغيرات الإدارية والاقتصادية خلال العصور الإسلامية المبكرة، الفاطمية، الأيوبية، والمملوكية.

امتدت الحدود السياسية بين المقرة ومصر على طول الوادي الأوسط للنيل، وكانت مرنة وتفاعلية، تجمع بين السيطرة العسكرية وإدارة الصراعات والتبادل التجاري والثقافي، مع نقاط مراقبة ومراكز إدارية لضمان مصالح الطرفين. وأدت الحملات المصرية على النوبة إلى إعادة تشكيل السلطة جزئيًا، من خلال تعيين حكام محليين ودمج النخب المحلية ضمن النظام المصري لضمان الاستقرار والسيطرة على الموارد.

خلال الفترة المملوكية (13–15م)، امتدت السيطرة العسكرية والإدارية المصرية على النوبة، مع فرض هيمنة جزئية على حكام المقرة، وإشراف دقيق على جمع الجزية والموارد، ما أدى إلى ظهور نظام تبعية هرمية مزدوجة يجمع بين النفوذ المصري والسلطة المحلية. ومع تحول أجزاء من النوبة إلى الإسلام، تراجعت العلاقات التقليدية بين النوبة المسيحية والمماليك، وتحولت الالتزامات إلى معاهدات جديدة مع حكام مسلمين في مناطق مثل دتاوو، ما أنهى مرحلة النوبة المسيحية ودمج المنطقة ضمن المجال الإسلامي الأوسع.

إجمالًا، تُظهر هذه الدراسة كيف شكّلت معاهدة البقط والحدود السياسية والغزوات والهيمنة المملوكية نموذجًا متطورًا للتفاعل بين القوة الخارجية والسلطة المحلية، وإطارًا قانونيًا وسياسيًا طويل الأمد، حافظ على التوازن بين المصالح الاقتصادية، السيطرة السياسية، والتعايش الديني بين مصر والنوبة.

شهدت مملكة المقرة ولاحقًا مملكة دتاوو (Dotawo) نظامًا سياسيًا ملكيًا مركزيًا يدمج السلطة الدينية والسياسية في شخص الملك، الذي كان رمز الوحدة والسيادة على كامل الأراضي النوبية. تمتع الملك بصلاحيات واسعة تشمل التشريع، قيادة الجيش، إدارة الموارد، ورعاية المؤسسات الدينية، ما يعكس التداخل الوثيق بين السلطة الدينية والسياسية.

اعتمد النظام على إدارة مركزية مدعومة بشبكة من المسؤولين المحليين والحكام الإقليميين للإشراف على المدن والمراكز الإنتاجية، تحصيل الضرائب، وتنفيذ أوامر الملك، مع ضمان ولاء النخب التقليدية. كما لعب المجلس الملكي ومستشارو البلاط دورًا محوريًا في صياغة السياسات، المصادقة على المعاهدات، وإدارة العلاقات الدبلوماسية مع مصر والدول المجاورة.

مع مرور الزمن، تطور النظام السياسي في دتاوو ليشمل هياكل إدارية أكثر تعقيدًا، مع إدارات متخصصة للإشراف على التجارة، الجباية، الشؤون العسكرية والدينية، ما يعكس التحولات المؤسسية والإدارية المتأخرة. هذه التحولات عززت المركزية الملكية، وطوّرت شبكة المسؤولين المحليين لمراقبة الضرائب، تنظيم الموارد، وإدارة الشؤون العسكرية والدينية، كما حسّنت نظم السجلات والإحصاءات لضمان تنفيذ قرارات الملك بفعالية وتقليل النزاعات المحلية على الموارد والحقوق الاقتصادية.

أسهمت هذه التطورات في تعزيز قدرة الممالك النوبية على الصمود أمام الضغوط العسكرية والسياسية الخارجية، وحافظت على استمرار النظام الملكي رغم تقلص الأراضي وتأثيرات التفاعلات الحدودية مع مصر والدول المجاورة، مؤكدًا استقرار البنية السياسية والإدارية للممالك على المدى الطويل.

حافظت الممالك النوبية، وخصوصًا المقرة ودتاوو، على تواصل مستمر مع مصر عبر شبكات التجارة، التحصيل الضريبي، والبعثات الدبلوماسية، مما أسهم في استقرارها السياسي والاقتصادي. شكّلت معاهدة البقط إطارًا قانونيًا ينظم تبادل العبيد، السلع الزراعية والحيوانية، ويضمن حماية البعثات التجارية والدبلوماسية العابرة للنيل. كما كانت الضرائب والرسوم التجارية وسيلة لتمويل الدولة والنخبة الملكية وتنظيم الموارد وحماية الطرق التجارية، بينما ساعدت البعثات المصرية على تعزيز نفوذ القاهرة وضمان الاعتراف بسيادة الملوك النوبيين.

امتدت علاقات الممالك النوبية أيضًا إلى البحر الأحمر وشرق السودان، حيث أمنت شبكات تجارية واستراتيجية لنقل الذهب والعاج والتوابل والحيوانات، كما عززت التحالفات الإقليمية مع القبائل والدويلات المحلية، وحمت طرق التجارة من التهديدات الخارجية. أتاح هذا التواصل مع الموانئ البحرية المشاركة في الأسواق الإقليمية والدولية، مما منح الممالك النوبية أهمية استراتيجية واقتصادية ضمن النظام الإقليمي.

لعب الوسطاء المحليون والطرق التجارية القديمة دورًا حيويًا في تسهيل التبادل التجاري بين الممالك ومصر والمناطق الشرقية، من خلال تأمين مرور القوافل، حماية البضائع، وتسوية النزاعات التجارية. كما ساهمت الطرق الممتدة على طول النيل والصحاري في ربط المراكز الحضرية بالنواحي الريفية والموانئ الساحلية، وخلقت شبكة اقتصادية وسياسية متماسكة تعمل كقنوات لتبادل المعلومات والدبلوماسية، مما عزز الاستقرار الحدودي وأتاح إدارة الموارد والتهديدات المشتركة بفعالية.

شهدت مملكتا المقرة وعلوة انهيارًا تدريجيًا خلال المراحل الأخيرة من العصر المسيحي في النوبة بفعل العوامل الداخلية مثل النزاعات على السلطة وضعف الإدارة وتدهور الاقتصاد، والعوامل الخارجية المتمثلة في توسع النفوذ الإسلامي والضغوط من القوى الإقليمية والمصرية. لم يكن السقوط حدثًا عسكريًا مفاجئًا، بل عملية انتقال تدريجية أعادت تشكيل البنية السياسية والاجتماعية في المنطقة، حيث بدأت النخب المحلية تتكيف مع النظام الإسلامي الجديد عبر التفاوض والاندماج، بينما شهدت مناطق أخرى تحولات ديموغرافية ودينية نتيجة الهجرة أو اعتناق الإسلام.

عقب هذا التحول، دخلت النوبة مرحلة إعادة تشكّل اجتماعي شامل، تميزت بانتقال المجتمع من الهوية المسيحية إلى الإسلامية أو المتعددة الأديان، وبروز سلطات محلية جديدة أكثر انسجامًا مع النظام الإداري الإسلامي. كما أُعيد تنظيم البنية القبلية، وتحوّل دور الشيوخ والقادة التقليديين بما يتلاءم مع النظام الجديد. رافق ذلك تحول اقتصادي نحو التجارة مع مصر وشرق السودان، مما أعاد توزيع الموارد ورسّخ نفوذ الوسطاء المحليين.
وبذلك، مثّلت هذه المرحلة نقطة تحول محورية أعادت بناء المجتمع النوبي على أسس دينية واقتصادية وسياسية جديدة، تجمع بين عناصر الاستمرارية التاريخية والتكيف مع الواقع الإسلامي الناشئ.

الخلفية والدوافع

يمثل تاريخ الممالك النوبية—وخاصة المقرة (Makuria)، علوة (Alodia)، ولاحقًا دتاوو (Dotawo)—واحدة من أطول الفصول وأكثرها تعقيدًا في التطور السياسي والثقافي لوادي النيل. تقع النوبة بين مصر وأفريقيا جنوب الصحراء، وكانت لقرون عديدة مفترق طرق حيويًا بين الحضارات الأفريقية والمتوسطية والشرق أوسطية، مما شكل أشكالًا فريدة من الحكم والدين والتجارة [3, 8, 19, 20]. ورغم صمود هذه الممالك المسيحية بشكل ملحوظ، فإن تحولها التدريجي تحت ضغوط داخلية وخارجية، والذي أدى في النهاية إلى اندماجها في العالم الإسلامي المتوسع، يظل عملية محورية وغالبًا ما تكون قليلة الدراسة في الدراسات الأفريقية [16, 17, 23, 20].

تستعرض هذه المقالة الهياكل السياسية، والعلاقات الخارجية، والتحولات الاجتماعية والدينية للممالك النوبية بين العصور الوسطى المبكرة والفترة المتأخرة بعد المسيحية [9, 10, 11, 12, 13, 6, 24, 12]. وتهدف هذه الدراسة إلى فهم كيفية دمج الملكية المقدسة والإدارة المركزية والدبلوماسية العابرة للأقاليم في استدامة هذه الدول رغم السياقات الجيوسياسية المتغيرة—من مصر البيزنطية والإسلامية، مرورًا بـ الهيمنة المملوكية والعثمانية، وصولًا إلى الديناميات المحلية على طول النيل [3, 8, 19, 20, 9, 10].

تنبع الدوافع لهذه الدراسة من الحاجة إلى تقديم تفسير منهجي ومتعدد التخصصات لاستمرارية وتحول النوبة السياسي [8, 14, 17]. بينما ركزت الدراسات السابقة أساسًا على الآثار والفن المسيحي، فإن التطورات الحديثة في اللغويات التاريخية والنقوش المقارنة ودراسات الدولة توفر رؤى جديدة حول القدرة المؤسسية والمرونة الاقتصادية للنوبة [18, 6, 3]. من خلال تتبع الانتقال من الملكية المركزية للمقرة إلى إعادة التنظيم الإداري المتأخر لدتاوو، وأخيرًا إلى إعادة التشكّل الاجتماعي تحت الحكم الإسلامي، توضح هذه الدراسة كيفية وساطة النخب المحلية والشبكات الاجتماعية في التفاعلات الخارجية والإصلاحات الداخلية [16, 17, 23, 20, 24, 12].

علاوة على ذلك، يكشف تحليل الشبكات الاقتصادية والدبلوماسية—وخاصة معاهدة البقط مع مصر، وطرق التجارة عبر البحر الأحمر، ودور الوسطاء المحليين—عن الآليات التي من خلالها حافظت النوبة على استقلالها وازدهارها رغم الهيمنة الخارجية المتقلبة [9, 10, 18, 24, 21, 18, 3, 6]. وأخيرًا، من خلال دراسة إعادة التشكّل الاجتماعي بعد المسيحية تحت الحكم الإسلامي، تؤكد الدراسة على استمرار هوية النوبة ضمن أطر سياسية ودينية جديدة، مما يسهم في النقاشات الأوسع حول تحولات الدولة، والتغيير الديني، والتراث السياسي الأفريقي [16, 17, 23, 20].

باختصار، تضع هذه الدراسة النوبة ليس كمتلقي سلبي للتأثير الخارجي، بل كـ فاعل نشط في التكيف السياسي والتركيب الثقافي، مقدمة رؤى قيمة حول الصمود، والحكم، والتفاوض بين الثقافات في الدول الأفريقية قبل الحديثة [9, 10, 16, 17, 24, 12].

الأهداف

الهدف العام لهذه الدراسة هو تقديم إعادة بناء شاملة ومستندة إلى الأدلة للعلاقات المصرية–السودانية بين 1200 و1500، مع دمج الأبعاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية والحدودية. ولتحقيق ذلك، تسعى الدراسة لتحقيق الأهداف التفصيلية التالية:

  1. الديناميات السياسية والحكم

تحديد وتحليل الهياكل السياسية الرسمية وغير الرسمية للكيانات النوبية، بما في ذلك مملكة المقرة والفونج، وتفاعلاتها مع السلطات المصرية.

دراسة دور المعاهدات، وخاصة معاهدة البقط، كأدوات للتفاوض السياسي طويل الأمد، وعدم الاعتداء، وتبادل الجزية.

فحص الحملات العسكرية، والدبلوماسية الحدودية، ووضع المستوطنات الاستراتيجية كآليات لفرض السيطرة، والدفاع عن السيادة، وتنظيم التفاعلات عبر الحدود.

استكشاف القبلية، واللامركزية، واستراتيجيات الحكم التكيفية التي استخدمتها المجتمعات النوبية استجابةً لضغوط الحدود، والتنقل السكاني، والقيود البيئية.

  1. الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية والتجارة

إعادة بناء شبكات التجارة الداخلية والخارجية، وتتبع الطرق التي تربط المستوطنات النوبية بالأسواق المصرية ومراكز التجارة في البحر الأحمر.

تحديد نطاق السلع المتداولة، بما في ذلك الذهب، والعاج، والمواشي، والمنتجات الزراعية، والحرف اليدوية، وتقييم دورها في التكامل الاقتصادي والتفاوض السياسي.

تحليل عمل الأسواق، وأنظمة الضرائب والجزية، ومساهمتها في التسلسل الاجتماعي، والشرعية السياسية، والاستقرار الاقتصادي.

فحص الزراعة، والري، وإدارة المياه، وممارسات تربية الماشية كأسس للاقتصادات المحلية وكميسرات للاندماج في الشبكات الاقتصادية المصرية الأوسع.

تقييم التدرج الاجتماعي، بما في ذلك الهرميات النخبوية، وتخصص العمالة، وتنظيم السكان، كنتاج ومحدد للأنظمة الاقتصادية والسياسية.

  1. الديناميات الدينية والثقافية

تحليل دور المسيحية في المجتمع النوبي، بما في ذلك تأثيرها على الحكم والقانون والتنظيم الاجتماعي.

دراسة الانتشار التدريجي وتعايش الإسلام جنباً إلى جنب مع المسيحية، وآثاره على التحالفات السياسية، وشبكات التجارة، والاستمرارية الثقافية.

توثيق الثقافة المادية، بما في ذلك الخرز، والقلادات، والأشكال المعمارية، والتخطيط العمراني، والتقاليد الفنية، كمؤشرات على الهوية الثقافية، والاستمرارية، والتبادل العابر للثقافات.

  1. ديناميات الحدود والتنقل

استكشاف حركات السكان، وانتقال المستوطنات، والاستراتيجيات التكيفية استجابةً للقيود البيئية، والنزاع، والفرص الاقتصادية.

تقييم دور وادي النيل الأعلى كمنطقة استراتيجية، تساهم في التوسط بين التفاعلات التعاونية والصراعية بين مصر والنوبة.

فحص ديناميات مجتمع المحاربين في مناطق اللجوء كنموذج نظري لفهم التكيف مع الحدود، والصراع بين المجموعات، وإدارة الموارد.

  1. الأدلة الأثرية والنصية والعلمية

تجميع الأدلة الأثرية، بما في ذلك بقايا المستوطنات، والهياكل الدينية، والثقافة المادية، لإعادة بناء الأنظمة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

تحليل المصادر النصية، مثل الوثائق العربية من قصر إبرم والبرديات المتعلقة بمعاهدة البقط، للحصول على رؤى حول الدبلوماسية، والقانون، والتجارة، والحكم.

تطبيق الأساليب العلمية التحليلية، بما في ذلك التأريخ بالكربون المشع، والمسوح الجيوفيزيائية، والتحليل النظيري، والتحليل الأثري النباتي، للتحقق من البيانات النصية والأثرية ووضع أطر زمنية دقيقة.

  1. التسلسل الزمني والفترات التاريخية

وضع إطار زمني للعلاقات المصرية–النوبية، يغطي فترات ما بعد الميرويتية، والماكورية، والفونجية، مع إبراز مراحل الاستمرارية والتحول.

رسم تسلسلات زمنية للتطورات السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية، ودمج خطوط أدلة متعددة لإنتاج سرد تاريخي دقيق.

  1. التركيب النظري والمنهجي

تقييم الأطر النظرية مثل نموذج مجتمع المحاربين في مناطق اللجوء والتحليل الاجتماعي السياسي للتدرج الاجتماعي في تفسير التكيف مع الحدود، والحكم، ومرونة المجتمع.

إظهار دمج البيانات الأثرية والنصية والمبنية على القطع الأثرية لإعادة بناء الشبكات المعقدة للتجارة، والدبلوماسية، والتبادل الثقافي، وإدارة الحدود.

  1. السياسة والأهمية المعاصرة للسودان

استخلاص الدروس من التفاعلات التاريخية بين مصر والنوبة فيما يتعلق بالحكم، والتجارة، وإدارة الحدود، والتماسك الاجتماعي، والاندماج الثقافي.

توجيه السياسات السودانية المعاصرة في مجالات التكامل الإقليمي، والحفاظ على التراث، وتخفيف النزاعات، والتنمية الاجتماعية والاقتصادية، بالاستفادة من الرؤى المستخلصة من الأنظمة السياسية والاقتصادية والثقافية في العصور الوسطى.

المصادر والمنهجية

اعتمدت هذه الدراسة على منهج المراجعة السردية، المدمج بشكل منهجي مع رسم الخرائط الموضوعية الهرمية والتوليف الموضوعي، لإعادة بناء العلاقات المصرية–السودانية بين 1200 و1500. تم اختيار طريقة المراجعة السردية لدمج الأدلة من تخصصات متعددة، بما في ذلك علم الآثار، والدراسات النصية، والتحليلات العلمية، مما أتاح فهماً مفصلاً للأبعاد السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية والحدودية للتفاعل. وعلى عكس المراجعات المنهجية الكمية أو التحليلات التلويية، تسمح المراجعة السردية بالتفسير السياقي وتوليف المصادر المتنوعة، بما يتناسب مع الطبيعة المختلفة للأدلة التاريخية والأثرية والعلمية.

لتأمين تغطية شاملة، أجريت عملية بحث دقيقة في خمس قواعد بيانات أكاديمية رئيسية: Scopus، وWeb of Science، وJSTOR، وProQuest للأطروحات والصحف التاريخية، وGoogle Scholar. صممت عمليات البحث لالتقاط جميع أبعاد التفاعلات المصرية–السودانية خلال الفترة الوسطى. تضمنت الكلمات المفتاحية تراكيب مثل “مصر و السودان و النوبة و 1200–1500″، “معاهدة البقط و مصر و النوبة”، “تجارة وادي النيل في العصور الوسطى و النوبة”، “المقرة أو الفونج و علاقات مصر”، “المسيحية النوبية و الإسلام و التبادل الثقافي”، “قصر إبرم و البرديات و الدبلوماسية المصرية–السودانية”، و”المواقع الأثرية و وادي النيل الأعلى و الفترة الوسطى”. أجريت عمليات البحث دون قيود لغوية، مع التركيز على المنشورات الأكاديمية التي تتناول صراحة العلاقات المصرية–السودانية ضمن الفترة 1200–1500 لضمان الصرامة المنهجية. وتمت مراجعة المنشورات لإزالة التكرارات، والمصادر غير الأكاديمية، والدراسات خارج الفترة المستهدفة، أو الدراسات التي تفتقر إلى ملخصات، مما أسفر عن مجموعة مختارة مكونة من 25 مرجعاً.

ركز استخراج البيانات على ملخصات هذه المراجع الـ25 حصرياً، لضمان أن جميع المعلومات المولفة مستمدة مباشرة من المواد المصدرية، مع تجنب أي افتراضات أو تكهنات خارجية. ومن هذه الملخصات، تم تحديد الموضوعات الرئيسية والفرعية ورسمها هرمياً لالتقاط الترابط المعقد بين الأبعاد السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية والحدودية. شمل رسم الخرائط الموضوعية ثلاث خطوات: أولاً، تحديد الموضوعات الرئيسية، بما في ذلك الجغرافيا والديناميات الحدودية، والعلاقات السياسية والحكم، والأنظمة الاجتماعية والاقتصادية والتجارة، والديناميات الدينية والثقافية، والتفاعل المصري–النوبي والتنقل، والأدلة الأثرية والنصية، والتسلسل الزمني والفترات التاريخية، والرؤى النظرية والمنهجية.

ثانياً، تم استخراج الموضوعات الفرعية تحت كل موضوع رئيسي لالتقاط التفاصيل الدقيقة. بالنسبة للعلاقات السياسية، شملت الموضوعات الفرعية المعاهدات، والحملات العسكرية، والحكم المستقل، والقبلية، واللامركزية. أما الموضوعات الفرعية الاجتماعية والاقتصادية فشملت أنواع السلع، والضرائب، وأنظمة الجزية، والزراعة، والري، وإدارة الماشية، والتدرج الاجتماعي. شملت الموضوعات الفرعية الدينية والثقافية وجود المسيحية، وانتشار الإسلام وتعايشه، واستمرارية الثقافة، والتبادل العابر للثقافات، والثقافة المادية مثل الخرز، والقلادات، والأشكال المعمارية، والتخطيط العمراني، والتقاليد الفنية. وركزت الموضوعات الفرعية للديناميات الحدودية على تنقل السكان، وانتقال المستوطنات، وتطبيق استراتيجيات مجتمع المحاربين في مناطق اللجوء. أما الأدلة الأثرية والنصية فشملت المصادر النصية، وبقايا المستوطنات، والهياكل الدينية، والأساليب العلمية مثل التأريخ بالكربون المشع، والتحليل النظيري، والتحليل الأثري النباتي. تناولت الموضوعات الفرعية للتسلسل الزمني التقسيمات الزمنية، ورسم الخرائط الزمنية للتطورات السياسية والاقتصادية، ودمج المراحل ما بعد الميرويتية، والماكورية، والفونجية. وأبرزت الموضوعات الفرعية النظرية والمنهجية الأطر مثل نموذج مجتمع المحاربين في مناطق اللجوء والتحليل الاجتماعي السياسي للتدرج الاجتماعي.

أخيراً، تم إجراء التوليف الموضوعي من خلال تجميع المعلومات عبر جميع المراجع، ودمج أنماط الاستمرارية والتحول، وتسليط الضوء على الترابطات بين الموضوعات المختلفة. على سبيل المثال، ارتبطت الاتفاقيات السياسية مثل معاهدة البقط بشبكات التجارة واستراتيجيات التنقل والتبادل الثقافي، مما أبرز الترابط بين الحكم والاقتصاد والثقافة. وبالمثل، ارتبطت التحولات الدينية بالهرمية الاجتماعية، وتخطيط المستوطنات، وإدارة الاقتصاد. ومن خلال الحفاظ على التتبع الدقيق للمراجع الأصلية، يحافظ هذا التوليف على كل التفاصيل من الملخصات مع إنتاج سرد متماسك وشامل لتفاعلات مصر–السودان في الفترة الوسطى.

من خلال هذه المنهجية المتكاملة، توفر الدراسة إعادة بناء شاملة للعلاقات المصرية–السودانية، تجمع بين عمق المراجعة السردية ووضوح التحليل الموضوعي والتوليف. وتتيح فهماً للديناميات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية والحدودية المعقدة التي شكلت التفاعلات في وادي النيل في العصور الوسطى، مع تقديم إطار لتفسير العمليات التاريخية ذات الصلة بالحكم السوداني المعاصر والتكامل الإقليمي.

النتائج

أولًا: التحوّلات السياسية والعلاقات المصرية–النوبية

  1. العلاقات الدبلوماسية والعسكرية بين النوبة ومصر

1.1 معاهدة البقط وإدارتها القانونية والعملية

معاهدة البقط، التي تم إبرامها حوالي 652 م بعد الفتح العربي الإسلامي لمصر تحت الخلافة الراشدة، تُعد واحدة من أطول الاتفاقيات العابرة للحضارات في التاريخ، إذ استمرت، بصيغ معدلة، لأكثر من ستة قرون [9, 10]. جرت مفاوضتها بعد سلسلة من الغزوات الإسلامية الفاشلة على النوبة، لا سيما الحملات التي قادها عبد الله بن أبي السرح، والي مصر في عهد الخليفة عثمان بن عفان [9].

توقع المسلمون، بعد الفتح الإسلامي لمصر، أن تقع النوبة بسهولة، إلا أن رماة المقرة، المشهورون بدقتهم في الرماية، ألحقوا خسائر كبيرة بالغزاة قرب دنقلا، عاصمة المقرة [9, 10]. انتهت المعركة إلى حالة جمود عسكري — غير حاسمة من الناحية العسكرية لكنها حاسمة استراتيجيًا. أدرك الطرفان عبثية استمرار الحرب: مصر لا يمكنها إخضاع النوبة دون خسائر فادحة، والنوبة لا تستطيع غزو الحدود الشمالية المحصنة لمصر. ومن هنا نشأ خيار السلام العقلاني، المدفوع بالاعتراف المتبادل وليس بالخضوع [9, 10].

تم التفاوض على المعاهدة في دنقلا، على الأرجح في أواخر 652 م، بين عبد الله بن أبي السرح نيابة عن مصر والملك قلدوروت عن المقرة. وتم التصديق عليها لاحقًا في الفسطاط، عاصمة مصر آنذاك، لضمان سلطة القاهرة القانونية والموافقة الملكية للنوبة [9, 10].

الأسباب وراء معاهدة البقط متعددة المستويات. بالنسبة لـ المسلمين المصريين، فقد ضمنت الأمن في الجبهة الجنوبية، ووصلت إلى العبيد والسلع النوبية، وخلقت قناة قانونية للتفاعل الاقتصادي دون انتهاك الأحكام الإسلامية المتعلقة بالتجارة غير المنظمة مع غير المسلمين. بالنسبة لـ النوبة المسيحية، حافظت المعاهدة على السيادة، وضمنّت الاستقلال الديني، ووفرت وصولاً منظمًا إلى أسواق مصر المزدهرة. أما بالنسبة للطرفين، فقد أرست توازنًا حدوديًا — تعايشًا مستقرًا بين نظامين أيديولوجيين ودينيين، مستدامًا من خلال تبادلات منتظمة ومتوقعة للعبادة والتجارة والبعثات الدبلوماسية [9, 10].

النطاق الجغرافي والإداري (أين)

جغرافيًا، حكمت المعاهدة الحدود بين أسوان (في مصر العليا) ودنقلا (في قلب النوبة)، بما في ذلك ممر النيل الذي يربط بين الطرفين. إداريًا، تمركزت سلطتها في أسوان، التي شكلت واجهة السلطة المصرية والنوبية، حيث أشرف الولاة المصريون على جمع العبيد والضرائب وإصدار التصاريح (أمانات) [9, 10].

امتدت تأثيرات المعاهدة إلى ما هو أبعد من الحدود السياسية لتشمل المناطق التجارية والاجتماعية: تنقل التجار والرهبان والحجاج على طول ممر النيل، وأسس الطرفان سفارات وبيوت ضيافة (منازل الضعفاء) لاستقبال البعثات والتجار. مع مرور الوقت، أنتج هذا التنظيم مؤسسيًا فضاءً ثقافيًا عابرًا للحدود، خصوصًا في النوبة السفلى، حيث أصبحت ثنائية اللغة (العربية واللغة النوبية القديمة) والعادات الإدارية المختلطة شائعة، مما دمج بين المعايير البيروقراطية المصرية والتقاليد السياسية النوبية [11, 12].

هيكل ومحتويات المعاهدة الأصلية (ماذا)

رغم عدم وجود نص عربي كامل للمعاهدة الأصلية لعام 652 م، فإن مصادر إسلامية مبكرة مثل البلاذري والطبري والتعليقات القانونية اللاحقة حفظت بنودها الرئيسية. تشمل البنود المعاد تركيبها:

  1. السلام وعدم العدوان — تعهد الطرفان بعدم شن الحرب أو الغارات على أراضي بعضهما البعض [9, 10].
  2. الجزية (البقط) — تسليم النوبة سنويًا لمصر 360 أو 365 عبدًا “سليم الجسم والعضو”، مع الحبوب والعاج والمواشي وجلود الحيوانات [9, 10].
  3. الالتزامات المتبادلة — تزويد مصر للنوبة بالغذاء والمنسوجات والخيول، وإن لم يكن بالمقدار المتساوي [9, 10].
  4. حرية الدين — احتفظ النوبيين بحرية العبادة المسيحية؛ وحُظر على المسلمين المصريين فرض الإسلام أو بناء المساجد في النوبة [9, 10].
  5. حماية التجار والمسافرين — ضمان مرور آمن للتجار والرسل [9, 10].
  6. تسليم المجرمين والفارين — إعادة العبيد الهاربين أو المجرمين العابرين للحدود [9, 10].
  7. المدة — المعاهدة بلا انتهاء، ما يجعلها دائمة ووراثية بين الحكام المتعاقبين [9, 10].

شكلت هذه البنود أداة قانونية دولية أولية، موازنة بين المصالح الاقتصادية والاعتراف السياسي [9, 10].

آلية التنفيذ وكيفية العمل (كيف)

عمليًا، كانت المعاهدة تعمل من خلال بعثات سنوية من دنقلا إلى أسوان، يصطحبها السفراء النوبيين مع القساوسة والكتبة. عند الوصول، يسجل المسؤولون المصريون التسليم في سجلات الجزية ويصدرون إيصالات مكتوبة محفوظة في بعض المخطوطات [9, 10]. كان والي أسوان يستضيف البعثة، ويوفر الهدايا، ويرسل التقارير إلى الفسطاط أو لاحقًا القاهرة. نادرًا ما أدت أي تأخيرات أو نقص في الجزية إلى الحرب، إذ اعتبرتها السلطات المصرية ظواهر إدارية وليس استفزازًا، مما يعكس نضج المؤسسة القانونية للمعاهدة [9, 10].

التطور والتعديلات (ماذا تغير ولماذا وما هي العواقب)

شهدت البقط إعادة تفسير متكررة وتفاوضًا جديدًا مع تغير المشهد السياسي والاقتصادي والديموغرافي في وادي النيل.

  1. الفترة الإسلامية المبكرة حتى العباسية (القرون 7–10): تحولت الإدارة المصرية من الراشدية والأموية إلى العباسية، وأصبح جمع الجزية غير منتظم، مع استبدال النوبة للعبيد أحيانًا بالسلع بسبب المجاعة أو انخفاض السكان، مما حول البقط إلى إطار تجاري أكثر مرونة [9, 10].
  2. الفترة الفاطمية (القرون 10–12): سعت مصر الفاطمية، الشيعية والمتمركزة في القاهرة، للسيطرة على التجارة البحرية في البحر الأحمر والطرق الصحراوية الشرقية، فزادت المشاركة التجارية مع الموانئ النوبية مثل عيذاب وسواكن، وأصبح السفراء النوبيين شركاء تجاريين بدلاً من أن يكونوا مجرد دافعي جزية [9, 10].
  3. الفترة الأيوبية والمملوكية المبكرة (القرون 12–13): بعد سقوط الفاطميين وقيام الحكم الأيوبي السني، أعادت مصر السيطرة على النوبة السفلى، وشُددت شروط الجزية لتأمين الجبهة الجنوبية أثناء الحروب الصليبية، دون فرض احتلال فعلي، مما أبقى على الطابع القانوني غير القسري للبقط [9, 10].
  4. الفترة المملوكية العليا (القرون 13–15): أقامت القاهرة كعاصمة للسلالة المملوكية، مؤسسات جمع الجزية من خلال عُمّال البقط، واعترف ملوك النوبة بسيادة القاهرة، وتحولت المعاهدة إلى نظام تبعية هرمي مع الحفاظ على ثنائية قانونية بين الطرفين. بحلول أواخر القرن 14، أدت التحول الإسلامي للنوبة، خصوصًا في دوتاوو، إلى وقف الدبلوماسية بين النوبة المسيحية والمماليك، وتراجع التزامات الجزية، وتعامل المماليك مع الحكام النوبيين المسلمين من خلال معاهدات جديدة، مما مثّل نهاية النوبة المسيحية ودمج حدودها في العالم الإسلامي [9, 10].

التفسير والأهمية التاريخية

يؤكد قساب (2021) أن تطور البقط يمثل استمرارية قضائية: بدأت المعاهدة كتفاهم بين متساوين وانتهت كإطار إداري للخضوع، لكن استمرارها يثبت فعالية النظام التفاوضي في منطقة حدودية متقلبة [9, 10]. ويبرز حلمي (2023) من خلال تحليل المخطوطات الباقية أن البقط في قرونها الأخيرة حافظت على الصرامة الإجرائية — من سجلات وإيصالات مكتوبة وطلبات دبلوماسية — مما يعكس ثقافة مستمرة للشرعية [9, 10].

في النهاية، تمثل البقط نموذجًا مبكرًا للقانون الدولي في إفريقيا والعالم الإسلامي، يجمع بين الريال بوليتيك (السياسة الواقعية)، والتسامح الديني، والدقة البيروقراطية. فقد حدّدت الحدود ليس كخط للفصل بل كـ منطقة للتعايش المنظم، حيث كانت الاعتمادية المتبادلة والمصالح المشتركة تفوق الانقسامات الأيديولوجية والدينية، وكان التعاون المؤسسي والدبلوماسية المنتظمة السمة الغالبة على العلاقات بين مصر والنوبة طوال قرون [9, 10].

1.2 الحدود السياسية والتفاعل الحدودي بين الممالك

امتدت الحدود السياسية بين المقرة ومصر على طول الوادي الأوسط للنيل، وتشمل مناطق أسوان ودنقلا، حيث شكلت هذه الحدود خط تماس مباشر بين النظامين السياسيين والثقافيين المختلفين [11, 12]. وقد تطورت هذه الحدود تاريخيًا وفقًا للظروف العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية، وكانت محكومة بميكانيزمات معقدة لضمان التفاعل الحدودي وإدارة الصراعات والمصالح المتبادلة [11, 12].

أدى الطابع الجغرافي للنيل والصحراء المحيطة إلى أن تصبح الحدود أكثر مرونة من مجرد خط فاصل، إذ شكلت ممرات للتجارة والتبادل الثقافي، وسمحت بمرور القوافل التجارية، والرعاة، والبعثات الدبلوماسية، مع إنشاء نقاط مراقبة ومراكز إدارة للنزاعات [11, 12].

في القرن السابع الميلادي، ومع توقيع معاهدة البقط، تم توطيد بعض آليات التعاون الحدودي، حيث نصت المعاهدة على حماية القوافل وتأمين مرور التجار، فضلاً عن تسوية النزاعات الحدودية بطرق دبلوماسية وإدارية [9, 10, 11]. ومع مرور الوقت، أصبح التفاعل الحدودي يشمل تبادل البضائع، والعبيد، والحيوانات، والموارد الزراعية، مع مراعاة مصالح كل طرف دون اللجوء إلى الصدام العسكري المباشر [11, 12].

كما لعبت الحدود دورًا استراتيجيًا في التحكم في تحركات القبائل المحلية، وتحديد مناطق النفوذ لكل من السلطة المصرية والمقرة، وضمان التوازن بين التهديدات العسكرية والفرص الاقتصادية، بما يعكس مستوى متقدم من المرونة المؤسسية والإدارية في إدارة الحدود بين المملكتين [11, 12].

1.3 الغزو المصري والاحتلال وإعادة تشكيل السلطة

شهدت العلاقة بين مصر والمقرة فترات متقطعة من الغزو العسكري والاحتلال المباشر، والتي كان الهدف الأساسي منها السيطرة على الممرات الاستراتيجية للنيل وتأمين الموارد والعبور التجاري [13, 6]. بدأ الغزو المصري المكثف خلال فترة الخلافة الإسلامية المبكرة، حيث حاولت القوات المصرية توسيع نفوذها جنوبًا بعد فتح مصر، مستهدفة تأمين حدودها الجنوبية وتأمين طرق التجارة مع أفريقيا الداخلية [13, 6].

تخلل هذه الحملات مواجهات عنيفة مع جيوش المقرة، التي كانت مدربة جيدًا على استخدام القوس والسهم والمراقبة المحلية للطبوغرافيا، ما أدى إلى تحقيق نتائج متباينة، إذ لم تسفر الغزوات عن سيطرة كاملة على الأراضي النوبية، لكنها فرضت هيمنة مصرية مؤقتة على بعض المناطق الحدودية [13, 6].

نتيجة لهذه الحملات، تم تطبيق سياسات الاحتلال الجزئي وإعادة تشكيل السلطة، حيث عين المصريون حكامًا محليين أو ممثلي الدولة للإشراف على جمع الضرائب وتنظيم التجارة، مع الحفاظ على بعض الهيكل السياسي المحلي للمقرة لضمان التعاون وتقليل المقاومة [13, 6]. كما جرى دمج بعض النخب المحلية في النظام الإداري المصري لضمان الاستقرار، مع السماح لهم بالاحتفاظ بامتيازاتهم التقليدية، ما ساعد على تمتين السيطرة المصرية دون تدمير النظام السياسي للنوبة بالكامل [13, 6].

على المدى الطويل، أدى هذا المزيج من الاحتلال الجزئي وإعادة تشكيل السلطة إلى نشوء آليات مزدوجة للحكم: السلطة المصرية تمارس السيطرة على الضرائب والموارد الاستراتيجية، بينما تواصل النخبة المحلية إدارة الشؤون اليومية وتطبيق القوانين التقليدية، وهو ما شكل نموذجًا مبكرًا للتفاعل بين القوة الخارجية والسلطة المحلية في تاريخ المنطقة [13, 6].

1.4 التأثير المملوكي على النوبة في القرون 13–15

خلال القرون 13–15 الميلادية، شهدت النوبة، وخاصة مناطق المقرة، تأثيرات كبيرة من السيطرة المملوكية المصرية التي اتسمت بالهيمنة العسكرية والسياسية على الحدود الجنوبية لمصر [24, 12]. مع صعود الدولة المملوكية في القاهرة، تم تطوير إطار إداري صارم لجمع الضرائب والعبيد (ʿummāl al-Baqt)، حيث أشرف المسؤولون المصريون على التنفيذ الدقيق للالتزامات المقرية بموجب معاهدة البقط، مع تعزيز الإشراف على الموارد الاقتصادية والنقل النهري [24, 12].

امتدت السلطة المملوكية لتشمل المراقبة العسكرية على المعابر والطرق الاستراتيجية، وفرضت هيمنة سياسية جزئية على حكام المقرة المحليين، الذين اضطروا إلى الاعتراف بسيادة القاهرة والحفاظ على علاقات دبلوماسية مباشرة مع الدولة المملوكية [24, 12]. أدى هذا إلى تقييد الاستقلالية النوبية تدريجيًا، مع بقاء بعض السلطات التقليدية في الشؤون الداخلية، ما ساهم في ظهور نظام تبعية هرمية مزدوجة يجمع بين السيطرة الخارجية والسلطة المحلية [24, 12].

كما ساهم التحول الديني والإسلامي في أجزاء من النوبة، خاصة في دتاوو (Dotawo)، في تقويض العلاقات التقليدية بين النوبة المسيحية والمماليك، ما أدى إلى تراجع الالتزامات المتعلقة بالمعاهدة التقليدية وتحويل التفاعل إلى معاهدات جديدة مع حكام مسلمين [24, 12]. هذه التغيرات أسفرت عن اندماج الحدود النوبية تدريجيًا في المجال الإسلامي الأوسع، وانتهت مرحلة النوبة المسيحية التقليدية مع تلاشي دورها السياسي المستقل تحت الهيمنة المملوكية [24, 12].

  1. البنية السياسية والملكية داخل الممالك النوبية

2.1 نظام الحكم في مملكة المقرة ودتاوو

شهدت مملكة المقرة، ولاحقًا مملكة دتاوو (Dotawo)، نظامًا سياسيًا ملكيًا مركزيًا يدمج بين السلطة الدينية والسياسية في يد الملك، الذي كان يعتبر رمز الوحدة والسيادة على كامل الأراضي النوبية [3, 8, 19, 20]. كان الملك يتمتع بصلاحيات واسعة تشمل التشريع، قيادة الجيش، إدارة الموارد، ورعاية المعابد والمؤسسات الدينية، ما يعكس التداخل الوثيق بين السلطة الدينية والسياسية [3, 8].

اعتمد نظام الحكم على إدارة مركزية مدعومة بشبكة من المسؤولين المحليين والحكام الإقليميين الذين تولوا الإشراف على المدن والمراكز الإنتاجية، تحصيل الضرائب، وتنفيذ أوامر الملك، مع ضمان الولاء من قبل النخب النوبية التقليدية [19, 20]. كما لعب المجلس الملكي ومستشارو البلاط دورًا أساسيًا في صياغة السياسات، والمصادقة على المعاهدات، وإدارة العلاقات الدبلوماسية مع مصر والدول المجاورة [3, 8].

مع مرور الزمن، تطور النظام السياسي ليشمل هياكل إدارية أكثر تعقيدًا في دتاوو، مع ظهور إدارات متخصصة للإشراف على التجارة، الجباية، الشؤون العسكرية، والشؤون الدينية، ما يعكس التحولات المؤسسية والإدارية المتأخرة التي ساعدت المملكة على الحفاظ على استقرارها رغم الضغوط الداخلية والخارجية [3, 8, 19, 20].

2.2 التحولات المؤسسية والإدارية المتأخرة

شهدت الممالك النوبية، خصوصًا مملكة المقرة ودتاوو، خلال القرون المتأخرة سلسلة من التحولات المؤسسية والإدارية نتيجة للتغيرات السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية، وكذلك الضغوط الخارجية من مصر والدول المجاورة [8, 14, 17]. تمثل هذه التحولات في تعميق المركزية الملكية عبر تعزيز دور الإدارة المركزية في العاصمة، مع توسع شبكة المسؤولين المحليين لتشمل مراقبة الضرائب، تنظيم الموارد، وإدارة الشؤون العسكرية والدينية [8, 14].

كما شملت التحولات تطوير أنظمة السجلات والإحصاءات لتوثيق الموارد، التحصيل الضريبي، والحركة التجارية، بما يعكس نمو الثقافة البيروقراطية وحرص الممالك على الاستقرار المالي والإداري [8, 17]. وأدى ذلك إلى ظهور أطر قانونية وإدارية أكثر تنظيمًا لضمان تنفيذ قرارات الملك بفعالية، وتقليل النزاعات المحلية على الموارد والحقوق الاقتصادية [14, 17].

هذه التحولات المؤسسية والإدارية عززت قدرة الممالك على الصمود أمام الضغوط العسكرية والسياسية الخارجية، وحافظت على استمرار النظام الملكي، رغم تقلص الأراضي وتأثيرات التفاعلات الحدودية مع مصر والدول المجاورة [8, 14, 17].

3.1 التواصل مع مصر عبر التجارة والضرائب والبعثات

كانت الممالك النوبية، خصوصًا المقرة ودتاوو، على اتصال دائم مع مصر من خلال شبكات التجارة، التحصيل الضريبي، والبعثات الدبلوماسية، حيث شكلت هذه الروابط قناة أساسية للحفاظ على الاستقرار السياسي والاقتصادي [9, 10, 18, 24]. وقد تم توثيق هذه العلاقات عبر معاهدة البقط التي نظمت تبادل العبيد، السلع الزراعية، والحيوانات، بالإضافة إلى توفير الحماية للبعثات التجارية والدبلوماسية العابرة للنيل [9, 10].

كما كانت الضرائب والرسوم المفروضة على التجارة وسيلة لتمويل الدولة والنخبة الملكية، فضلاً عن تنظيم الموارد وحماية الطرق التجارية من الاعتداءات [18, 24]. وساهمت البعثات الدبلوماسية المصرية في تعزيز نفوذ القاهرة وتأمين مصالحها على الحدود، بينما استغل الملوك النوبيين هذه البعثات لضمان الاعتراف بسيادتهم واستقرار تجارتهم [9, 10, 18, 24].

بالإضافة إلى ذلك، شكلت التجارة مع مصر دعامة اقتصادية للممالك النوبية، حيث كان التجار يمرون عبر الموانئ والطرق النيلية، مما ساعد على انتقال السلع والأفكار، والتفاعل الثقافي بين الطرفين، وعزز من مكانة الممالك النوبية ضمن النظام الإقليمي [9, 10, 18, 24].

3.2 العلاقات عبر البحر الأحمر وشرق السودان

امتدت علاقات الممالك النوبية، وخصوصًا المقرة ودتاوو، إلى ما وراء النيل نحو السواحل الشرقية للبحر الأحمر وشرق السودان، حيث شكلت هذه المناطق شبكات تجارية واستراتيجية حيوية [21, 18]. استخدمت الممالك هذه الروابط للتبادل التجاري مع الموانئ البحرية مثل عيذاب وسواكن، لنقل الذهب، العاج، التوابل، والحيوانات، بما يعزز ثروتها وقدرتها على التمويل الذاتي [21, 18].

كما لعبت هذه العلاقات دورًا في تعزيز التحالفات الإقليمية مع قبائل ودويلات شرق السودان، مما ساهم في تأمين الحدود الشرقية للممالك النوبية وحماية طرق التجارة من أي تهديدات خارجية [21, 18]. علاوة على ذلك، أتاح التواصل عبر البحر الأحمر للممالك النوبية فرصة المشاركة في الأسواق الإقليمية والدولية، وربطها بشبكات التجارة البحرية التي تمتد إلى البحر الأحمر، الجزيرة العربية، والهند، مما أكسبها أهمية استراتيجية واقتصادية ضمن النظام الإقليمي [21, 18].

3.3 دور الوسطاء المحليين والطرق التجارية القديمة

لعب الوسطاء المحليون دورًا محوريًا في تسهيل التبادل التجاري بين الممالك النوبية، مثل المقرة ودتاوو، ومصر، بالإضافة إلى التفاعل مع مناطق شرق السودان والبحر الأحمر [18, 6, 3]. كانوا هؤلاء الوسطاء مسؤولين عن تأمين مرور القوافل، حماية البضائع، وحل النزاعات التجارية بين الأطراف المختلفة، مما حافظ على استمرارية التجارة عبر المناطق الحدودية [18, 6, 3].

استخدمت الممالك النوبية الطرق التجارية القديمة الممتدة على طول النيل والصحاري المحيطة لتسهيل نقل السلع مثل الذهب، العاج، والماشية، كما ساهمت هذه الطرق في ربط المراكز الحضرية بالنواحي الريفية وإتاحة الوصول إلى الموانئ الساحلية [18, 6, 3]. علاوة على ذلك، شكلت هذه الطرق شبكة اقتصادية وسياسية متماسكة، حيث كانت تعمل كقنوات لتبادل المعلومات والدبلوماسية بين الممالك، مما عزز الاستقرار الحدودي وساهم في إدارة الموارد والتهديدات المشتركة [18, 6, 3].

4.1 نهاية مملكتي المقرة وعلوة (تحليل السقوط والانتقال)

شهدت مملكتي المقرة وعلوة مرحلة انهيار تدريجي خلال القرون الأخيرة من العصر المسيحي في النوبة نتيجة الضغوط الداخلية والخارجية المتزايدة [19, 14, 16]. فكانت النزاعات الداخلية على السلطة، وضعف المؤسسات الإدارية، وتراجع الاقتصاد المحلي، عوامل أضعفت قدرة الممالك على مقاومة الغزوات الخارجية، وخاصة من مصر ومن القوى الإقليمية الناشئة [19, 14, 16].

تزامن هذا الانهيار مع توسع الحكم الإسلامي في المنطقة، مما أدى إلى إعادة تشكيل السلطة السياسية والاجتماعية في النوبة [19, 14, 16]. فقد بدأت النخب المحلية تتكيف مع النظام الجديد من خلال الاعتراف بالسلطات الإسلامية الناشئة والتفاوض حول شروط الحكم، في حين شهدت بعض المناطق هجرة السكان المسيحيين أو تحولهم تدريجيًا إلى الإسلام، مما أدى إلى تحولات ديموغرافية وثقافية [19, 14, 16].

كانت نهاية مملكتي المقرة وعلوة ليست مجرد سقوط عسكري، بل عملية انتقال تدريجي وشاملة أعادت رسم البنية السياسية والاجتماعية للنوبة، وأرست الأساس لتحولات الحكم الإسلامي في المنطقة [19, 14, 16].

4.2 إعادة التشكّل الاجتماعي بعد الإسلام

بعد سقوط مملكتي المقرة وعلوة وتمدّد الحكم الإسلامي في النوبة، شهدت المنطقة تحوّلات اجتماعية شاملة انعكست على كافة المستويات، بما في ذلك الهوية الدينية، الهيكل القبلي، والمؤسسات المحلية [16, 17, 23, 20]. فقد بدأ التحوّل من مجتمع مسيحي إلى مجتمع متعدد الأديان أو إسلامي تدريجيًا، حيث اعتمدت بعض النخب المحلية الإسلام كوسيلة للحفاظ على مواقعها السياسية أو تعزيز علاقاتها بالسلطات الإسلامية الجديدة [16, 17, 23, 20].

على المستوى القبلي والاجتماعي، أدّى هذا التحوّل إلى إعادة تنظيم الشبكات الاجتماعية والسلطوية؛ إذ ظهرت سلطات محلية جديدة أكثر توافقًا مع الهياكل الإدارية الإسلامية، وتم تعديل أدوار الشيوخ والقادة التقليديين لتتلاءم مع نظام الحكم الجديد [16, 17, 23, 20]. كما أدى التحوّل إلى تغييرات في النمط الاقتصادي والتجاري، حيث أصبح للتجارة مع مصر والسودان الشرقي دور أكبر في إعادة توزيع الموارد، وأصبحت العلاقات عبر الطرق القديمة والوسطاء المحليين محورًا للنفوذ الاقتصادي والاجتماعي [16, 17, 23, 20].

بشكل عام، أعادت هذه المرحلة بناء البنية الاجتماعية للنوبة بطريقة انعكس فيها التكيف مع الحكم الإسلامي، استمرار بعض العناصر التقليدية، وظهور مظاهر اجتماعية جديدة تمهد الطريق لتحولات لاحقة في المنطقة [16, 17, 23, 20].

عن د. عبد المنعم مختار

د. عبد المنعم مختار

شاهد أيضاً

العلاقات المصرية السودانية: دراسة تحليلية شاملة في التاريخ والسياسة والاقتصاد والثقافة والدين وآفاق التعاون الاستراتيجي

العلاقات المصرية السودانية: دراسة تحليلية شاملة في التاريخ والسياسة والاقتصاد والثقافة والدين وآفاق التعاون الاستراتيجي …