المحاولات الفاشلة والناجحة لحل الحزب الشيوعي السوداني ذو النفوذ النقابي القوي ودوافعها الرئيسية: ماذا يريد الحزب الشيوعي في السودان؟ (2 من 3)
د. عبد المنعم مختار
2 October, 2024
2 October, 2024
د. عبد المنعم مختار
أستاذ جامعي متخصص في السياسات الصحية القائمة على الأدلة العلمية
خلال فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، واجه الحزب الشيوعي السوداني العديد من المحاولات لحظره أو حله، سواء أكانت ناجحة أم فاشلة. وقد تميزت تلك المحاولات بصراع عنيف بين القوى السياسية الداخلية، خاصة بين الأحزاب التقليدية والإدارات الأهلية من جهة، والحزب الشيوعي والأجسام النقابية التي كان يسيطر عليها من جهة أخرى. كما تأثرت هذه المحاولات بالتأثيرات الخارجية، لا سيما من قبل السلطات البريطانية التي كانت لا تزال تمارس تأثيرًا ملموسًا على الحياة السياسية في السودان خلال فترة ما بعد الاستعمار.
المحاولات الفاشلة
1. قانون قمع النشاط الهدام (1953-1954): في نهاية عام 1953، اقترح الحاكم العام البريطاني في السودان قانون قمع النشاط الهدام، وهو قانون يهدف إلى محاربة التيارات التي اعتُبرت تهديدًا للاستقرار السياسي، بما في ذلك الشيوعية. تم طرح هذا القانون على البرلمان السوداني في فبراير 1954، لكنه قوبل بالرفض بإجماع الحزب الحاكم (الوطني الاتحادي) وأحزاب المعارضة. جاء هذا الرفض نتيجة لإدراك الأحزاب السياسية المختلفة لخطورة القانون على الحريات العامة وعليها. ولذلك، رفضت جميع أحزاب المعارضة والحزب الوطني الاتحادي، الحاكم منفردًا آنذاك، إجازة تشريع يستهدف بشكل مباشر نشاطات سياسية معترف بها في البلاد، بما في ذلك نشاط الحزب الشيوعي السوداني.
2. قانون محاربة الشيوعية (1954): بعد فترة وجيزة من رفض قانون قمع النشاط الهدام، ظهرت فكرة قانون محاربة الشيوعية في أواخر عام 1954 داخل الحكومة السودانية الانتقالية، وأعلن وزير العدل آنذاك علي عبد الرحمن نية الحكومة الدفع بالقانون إلى البرلمان في نوفمبر. كانت هذه الفكرة موضوع نقاش داخل الحكومة، لكنها لم تحصل على إجماع داخلها رغم أن هذه الحكومة كانت غير ائتلافية، إذ قادها الحزب الوطني الاتحادي بزعامة إسماعيل الأزهري منفردًا. أيضًا، أصدرت ما سُمي حينها بالهيئة الشعبية للدفاع عن الحريات، والتي ضمت حزب الأمة القومي، الحزب الجمهوري، الجماعة الإسلامية، جماعة الفكر السوداني، الجبهة المعادية للاستعمار (الحزب الشيوعي لاحقًا)، اتحاد عام عمال السودان، اتحاد مزارعي مشروع الجزيرة، ومحمد أحمد محجوب (زعيم المعارضة في البرلمان)، وثيقة رافضة لقانون محاربة الشيوعية. كما تم تداول فكرة محاربة الشيوعية بين قيادات حكومية وقيادات بريطانية. الجدير بالذكر أن معظم الجهات البريطانية التي استشارها يحيى الفضلي، وزير الشؤون الاجتماعية آنذاك، أوصت بعدم اللجوء لإجراءات قانونية لإضعاف الشيوعية في النقابات، ونصحت بالسياسات التنموية التي تنتج رضا قواعد النقابات، وبالتالي تبعدها عن النفوذ الشيوعي. عمومًا، على الرغم من أن هذه المحاولات لم تصل إلى التنفيذ العملي، إلا أنها كشفت عن مدى المخاوف التي كانت موجودة لدى بعض القوى السياسية من تنامي نفوذ الحزب الشيوعي في تلك الفترة، خاصة في الأوساط النقابية.
دوافع المحاولات الفاشلة وأسباب فشلها
كانت معارضة الحزب الشيوعي الصارخة لاتفاقية الحكم الذاتي التي قادت لاستقلال السودان، وضغط الحزب على حكومة الأزهري الأولى إبان الانتقال السابق للاستقلال، من خلال تهديد النقابات والاتحادات المهنية التي يسيطر عليها الحزب، خاصة نقابة عمال السكك الحديدية، اتحاد نقابات العمال، واتحاد مزارعي مشروع الجزيرة، بالإضرابات، من الدوافع الرئيسية لتحرك حكومة الأزهري في الفترة الانتقالية الأولى (1954-1956) لإصدار قانون بديل لقانون قمع النشاط الهدام. إذ اعتبرت جميع الأحزاب السياسية أن قانون قمع النشاط الهدام فضفاض وقابلًا للإساءة في كبت حريات كثير من الأحزاب والهيئات السياسية. لذلك، كان الهدف من أي قانون بديل هو محاربة الحزب الشيوعي وحظر أنشطته بهدف تقليص نفوذه السياسي، خاصة في النقابات والاتحادات، مع عدم تضييق الحريات السياسية للأحزاب الأخرى. الجدير بالذكر هو ظهور اتهام من شيخ العلماء للحزب الشيوعي بإصدار منشور عن حادثة الإفك به إساءة لبيت الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في أكتوبر 1954، وهو الأمر الذي قام الحزب بنفيه. وعندما قام أحد المصلين في صلاة جمعة بمسجد أنصار حزب الأمة القومي بمحاولة للتأجيج حول هذا المنشور، تصدى له الإمام عبد الرحمن المهدي في حينها ونجح في التهدئة.
أما أسباب فشل محاولة الحل عبر قانون محاربة الشيوعية فيرجع، كما فصلنا أعلاه، لمعارضة معظم قوى المعارضة للقانون، وعدم وجود إجماع حتى داخل الحكومة حوله.
المحاولة الناجحة
1. حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان (1965):
في نهاية عام 1965، تمكنت القوى السياسية المناهضة للحزب الشيوعي السوداني من النجاح في حله وطرد نوابه من البرلمان. استغلّت الأحزاب السياسية المنافسة، وهي الحزب الوطني الاتحادي، وجبهة الميثاق الإسلامي، وحزب الأمة القومي، حادثة إساءة دينية تتعلق بقصة الإفك، والتي صدرت عن عضو سابق في الحزب الشيوعي في نوفمبر 1965، لدفع تعديل دستوري عبر البرلمان. ونتيجة لذلك، تم حل الحزب الشيوعي رسميًا وطرد نوابه بسرعة في ديسمبر 1965.
للمزيد من التفاصيل حول هذا الحدث، يُرجى الرجوع إلى مقال عبد الله علي إبراهيم بعنوان "نوفمبر حل الحزب الشيوعي (1965): ما حلونا وانحلو لا أيدهم لا كراعهم"، المنشور في 17 نوفمبر 2018. يتناول المقال كيفية استغلال القوى السياسية لهذه الحادثة لتحقيق التعديل الدستوري، ويبرز توظيف الدين في السياسة خلال تلك الفترة.
الجدير بالذكر أن محمد أحمد محجوب، الذي كان يشغل منصب رئيس الوزراء آنذاك، هو من بادر بالإجراءات التشريعية في البرلمان لحل الحزب الشيوعي. المثير للاهتمام أن محجوب كان قد عارض تشريعًا مشابهًا في عام 1954، مما يعكس التحولات في مواقفه السياسية بمرور الزمن.
كان هذا الانتصار السياسي للأحزاب التقليدية ضد الحزب الشيوعي واحدًا من أكبر الضربات التي تعرض لها الحزب في تاريخه. لقد أثر هذا الحدث بشكل كبير على مكانة الحزب في المشهد السياسي السوداني، وساهم بشكل كبير في دفع الحزب الشيوعي للمشاركة في الانقلاب العسكري على الديمقراطية في مايو 1969.
دوافع المحاولة الناجحة وأسبابها
الدافع الرئيسي لحل الحزب الشيوعي السوداني في ديسمبر 1965 كان، في تقديري، يعود إلى مساعي الحزب الشيوعي السوداني في فبراير من نفس العام لتصفية الإدارات الأهلية عبر مذكرة الشفيع أحمد الشيخ. في ذلك الوقت، كان الحزب الشيوعي يتمتع بنفوذ كبير في الحكومة الأولى التي أعقبت ثورة أكتوبر 1964، وذلك عبر واجهاته السياسية وحلفائه في جبهة الهيئات. وقد أشار أحمد إبراهيم أبو شوك إلى هذه الأجواء في قوله: "في ظل هذا التراجع (من قبل الحكومة آنذاك)، نشطت تحركات زعماء الإدارة الأهلية الذين كثفوا اتصالاتهم برؤساء الأحزاب التقليدية، واتفقوا معهم على تجميد قرار التصفية، شريطة أن يعملوا سويًا على إسقاط مرشحي القوى الحديثة في الانتخابات القادمة، ويكوِّنوا حكومة ديمقراطية ترعى مصالح الطرفين، وتدرس مشروع التصفية وتضع التصور اللازم لتطوير أجهزة الإدارة الأهلية. وبهذه الكيفية، أضحى شعار تصفية الإدارة الأهلية شعارًا ذا حدين في الحملة الانتخابية، حيث دفع من طرف بعض القوى الجماهيرية الرافضة لهيمنة الإدارة الأهلية وزعماء العشائر إلى مناصرة القوى الحديثة، بغية الانعتاق من هيمنة رجالات الإدارة الأهلية، ومن طرف ثانٍ أسهم في توثيق عرى الترابط بين القوى الطائفية والقيادات القبلية، لأن كلا الطرفين أدرك أن استمرار بقائه في السلطة على المستويين المحلي أو المركزي مرهون بفاعلية تعامله المصلحي مع الآخر" (أبو شوك، 2009).
الجدير بالذكر أيضًا المواجهات المباشرة بين الحزب الشيوعي وحلفائه النقابيين من جهة، وحزب الأمة القومي والحزب الوطني الاتحادي وجبهة الميثاق من جهة أخرى. بدأت تلك المواجهات عندما قام وزير الاستعلامات والعمل خلف الله بابكر، وهو أحد حلفاء الحزب الشيوعي، في 2 فبراير 1965 ببث خطاب تحريضي عبر الإذاعة، اتهم فيه الأحزاب بالعمل ضد الثورة، ودعا "الجماهير" إلى عزلها. كان ذلك الخطاب جزءًا من صراع الحزب الشيوعي لتأجيل الانتخابات وتعديل دوائرها الانتخابية لصالحه، حيث دعا، دون نجاح، إلى تخصيص نصف المقاعد للمزارعين والعمال، لكنه نجح في تمكين المرأة من حق الانتخاب، وفي إعادة دوائر الخريجين وزيادة عددها. وقد أثار هذا الخطاب أزمة داخل الحكومة، ما دفع رئيس الوزراء إلى تقديم اعتذار رسمي.
تبع الخطاب التحريضي بعد أسبوع ما عُرف بأحداث "ليلة المتاريس" والاعتداء على السفارة الأمريكية في الخرطوم في 9 فبراير 1965، وهو فعل سياسي نظمه الحزب الشيوعي، وثبت لاحقًا عدم صحة الادعاءات التي بُني عليها.
أدى هذا التصعيد السياسي العنيف لفظيًا والسعي الحثيث للتغيير الراديكالي من قبل الحزب الشيوعي وواجهاته وحلفائه عبر سلطة الحكومة إلى رد فعل مضاد من الأحزاب التقليدية، التي حشدت قواها الجماهيرية في العاصمة، بدعم خاص من الأنصار القادمين من الأقاليم. وأسفرت هذه التحركات، والعنف الذي صاحبها في العاصمة، عن إعلان حالة الطوارئ وحل الحكومة الأولى في 18 فبراير 1965، بعد أربعة أشهر فقط من تشكيلها.
لاحقًا، وفي ظل حكومة ذات أقلية يسارية، وقعت حادثة الإساءة الدينية الشهيرة في نوفمبر 1965، التي ارتكبها عضو سابق في الحزب الشيوعي. استغلت الأحزاب المنافسة هذه الحادثة لإقصاء الحزب الشيوعي من الساحة السياسية. عبر تعديل الدستور، تمكن البرلمان من حل الحزب الشيوعي بأغلبية الثلثين. يجدر التأمل هنا في أن تلك الإساءة الدينية كانت تدور حول نفس حادثة الإفك التي أثيرت في أكتوبر 1954، والتي نفى الحزب الشيوعي حينها علاقته بها.
هذه الحادثة، في تقديرنا، كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر الحزب، الذي بادر إلى معاداة الأغلبية الشعبية والبرلمانية من خلال سيطرته على حكومة سر الختم الخليفة الأولى. لم تنجح محاولات الحزب في فرض أجندة التغيير الجذري من خلال العنف الثوري في "ليلة المتاريس"، أو من خلال التحريض الإذاعي، أو حتى عبر مذكرة تصفية الإدارة الأهلية. بل أدى هذا التصعيد إلى توحد القوى التقليدية ضد الحزب، مما أدى إلى حله.
الخاتمة
يتضح من هذه المحاولات أن الحزب الشيوعي السوداني كان مستهدفًا بشكل متكرر من قبل القوى السياسية المختلفة، سواء عبر التشريعات أو التحركات البرلمانية. يمكن قراءة هذا الاستهداف كرد فعل سياسي على معارضة الحزب الشيوعي العنيفة لاتفاقية استقلال السودان، وسعيه لاستغلال جهاز الدولة لحل الإدارات الأهلية ولتأجيل وتشكيل الانتخابات. وعلى الرغم من أن بعض هذه المحاولات فشلت في تحقيق أهدافها، إلا أن محاولات أخرى نجحت في تقييد نشاط الحزب، مثل حادثة حله وطرد نوابه من البرلمان في عام 1965. يعكس هذا التاريخ الصراع المستمر بين التيارات السياسية المختلفة في السودان حول طبيعة النظام السياسي ودور الأحزاب ذات التوجهات الفكرية المختلفة، مثل الحزب الشيوعي، في صياغة المستقبل السياسي للبلاد.
في الجزء الثالث من هذا المقال، سنتناول مواقف الحزب الشيوعي السوداني أثناء الفترة الديمقراطية الثالثة (1985 – 1989) وأثناء الفترة التالية لثورة ديسمبر 2018.
المراجع الرئيسية
رباح الصادق. حزب الأمة القومي وحل الحزب الشيوعي السوداني 1965. 17 يونيو 2020. تم الحصول عليه يوم 26 سبتمبر 2024 على الموقع التالي: www.academia.edu
أحمد إبراهيم أبو شوك. الدكتور عبد الله علي إبراهيم ومذكرة الشفيع أحمد الشيخ عن الإدارة الأهلية (1 – 3). سودانايل.
أستاذ جامعي متخصص في السياسات الصحية القائمة على الأدلة العلمية
خلال فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، واجه الحزب الشيوعي السوداني العديد من المحاولات لحظره أو حله، سواء أكانت ناجحة أم فاشلة. وقد تميزت تلك المحاولات بصراع عنيف بين القوى السياسية الداخلية، خاصة بين الأحزاب التقليدية والإدارات الأهلية من جهة، والحزب الشيوعي والأجسام النقابية التي كان يسيطر عليها من جهة أخرى. كما تأثرت هذه المحاولات بالتأثيرات الخارجية، لا سيما من قبل السلطات البريطانية التي كانت لا تزال تمارس تأثيرًا ملموسًا على الحياة السياسية في السودان خلال فترة ما بعد الاستعمار.
المحاولات الفاشلة
1. قانون قمع النشاط الهدام (1953-1954): في نهاية عام 1953، اقترح الحاكم العام البريطاني في السودان قانون قمع النشاط الهدام، وهو قانون يهدف إلى محاربة التيارات التي اعتُبرت تهديدًا للاستقرار السياسي، بما في ذلك الشيوعية. تم طرح هذا القانون على البرلمان السوداني في فبراير 1954، لكنه قوبل بالرفض بإجماع الحزب الحاكم (الوطني الاتحادي) وأحزاب المعارضة. جاء هذا الرفض نتيجة لإدراك الأحزاب السياسية المختلفة لخطورة القانون على الحريات العامة وعليها. ولذلك، رفضت جميع أحزاب المعارضة والحزب الوطني الاتحادي، الحاكم منفردًا آنذاك، إجازة تشريع يستهدف بشكل مباشر نشاطات سياسية معترف بها في البلاد، بما في ذلك نشاط الحزب الشيوعي السوداني.
2. قانون محاربة الشيوعية (1954): بعد فترة وجيزة من رفض قانون قمع النشاط الهدام، ظهرت فكرة قانون محاربة الشيوعية في أواخر عام 1954 داخل الحكومة السودانية الانتقالية، وأعلن وزير العدل آنذاك علي عبد الرحمن نية الحكومة الدفع بالقانون إلى البرلمان في نوفمبر. كانت هذه الفكرة موضوع نقاش داخل الحكومة، لكنها لم تحصل على إجماع داخلها رغم أن هذه الحكومة كانت غير ائتلافية، إذ قادها الحزب الوطني الاتحادي بزعامة إسماعيل الأزهري منفردًا. أيضًا، أصدرت ما سُمي حينها بالهيئة الشعبية للدفاع عن الحريات، والتي ضمت حزب الأمة القومي، الحزب الجمهوري، الجماعة الإسلامية، جماعة الفكر السوداني، الجبهة المعادية للاستعمار (الحزب الشيوعي لاحقًا)، اتحاد عام عمال السودان، اتحاد مزارعي مشروع الجزيرة، ومحمد أحمد محجوب (زعيم المعارضة في البرلمان)، وثيقة رافضة لقانون محاربة الشيوعية. كما تم تداول فكرة محاربة الشيوعية بين قيادات حكومية وقيادات بريطانية. الجدير بالذكر أن معظم الجهات البريطانية التي استشارها يحيى الفضلي، وزير الشؤون الاجتماعية آنذاك، أوصت بعدم اللجوء لإجراءات قانونية لإضعاف الشيوعية في النقابات، ونصحت بالسياسات التنموية التي تنتج رضا قواعد النقابات، وبالتالي تبعدها عن النفوذ الشيوعي. عمومًا، على الرغم من أن هذه المحاولات لم تصل إلى التنفيذ العملي، إلا أنها كشفت عن مدى المخاوف التي كانت موجودة لدى بعض القوى السياسية من تنامي نفوذ الحزب الشيوعي في تلك الفترة، خاصة في الأوساط النقابية.
دوافع المحاولات الفاشلة وأسباب فشلها
كانت معارضة الحزب الشيوعي الصارخة لاتفاقية الحكم الذاتي التي قادت لاستقلال السودان، وضغط الحزب على حكومة الأزهري الأولى إبان الانتقال السابق للاستقلال، من خلال تهديد النقابات والاتحادات المهنية التي يسيطر عليها الحزب، خاصة نقابة عمال السكك الحديدية، اتحاد نقابات العمال، واتحاد مزارعي مشروع الجزيرة، بالإضرابات، من الدوافع الرئيسية لتحرك حكومة الأزهري في الفترة الانتقالية الأولى (1954-1956) لإصدار قانون بديل لقانون قمع النشاط الهدام. إذ اعتبرت جميع الأحزاب السياسية أن قانون قمع النشاط الهدام فضفاض وقابلًا للإساءة في كبت حريات كثير من الأحزاب والهيئات السياسية. لذلك، كان الهدف من أي قانون بديل هو محاربة الحزب الشيوعي وحظر أنشطته بهدف تقليص نفوذه السياسي، خاصة في النقابات والاتحادات، مع عدم تضييق الحريات السياسية للأحزاب الأخرى. الجدير بالذكر هو ظهور اتهام من شيخ العلماء للحزب الشيوعي بإصدار منشور عن حادثة الإفك به إساءة لبيت الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في أكتوبر 1954، وهو الأمر الذي قام الحزب بنفيه. وعندما قام أحد المصلين في صلاة جمعة بمسجد أنصار حزب الأمة القومي بمحاولة للتأجيج حول هذا المنشور، تصدى له الإمام عبد الرحمن المهدي في حينها ونجح في التهدئة.
أما أسباب فشل محاولة الحل عبر قانون محاربة الشيوعية فيرجع، كما فصلنا أعلاه، لمعارضة معظم قوى المعارضة للقانون، وعدم وجود إجماع حتى داخل الحكومة حوله.
المحاولة الناجحة
1. حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان (1965):
في نهاية عام 1965، تمكنت القوى السياسية المناهضة للحزب الشيوعي السوداني من النجاح في حله وطرد نوابه من البرلمان. استغلّت الأحزاب السياسية المنافسة، وهي الحزب الوطني الاتحادي، وجبهة الميثاق الإسلامي، وحزب الأمة القومي، حادثة إساءة دينية تتعلق بقصة الإفك، والتي صدرت عن عضو سابق في الحزب الشيوعي في نوفمبر 1965، لدفع تعديل دستوري عبر البرلمان. ونتيجة لذلك، تم حل الحزب الشيوعي رسميًا وطرد نوابه بسرعة في ديسمبر 1965.
للمزيد من التفاصيل حول هذا الحدث، يُرجى الرجوع إلى مقال عبد الله علي إبراهيم بعنوان "نوفمبر حل الحزب الشيوعي (1965): ما حلونا وانحلو لا أيدهم لا كراعهم"، المنشور في 17 نوفمبر 2018. يتناول المقال كيفية استغلال القوى السياسية لهذه الحادثة لتحقيق التعديل الدستوري، ويبرز توظيف الدين في السياسة خلال تلك الفترة.
الجدير بالذكر أن محمد أحمد محجوب، الذي كان يشغل منصب رئيس الوزراء آنذاك، هو من بادر بالإجراءات التشريعية في البرلمان لحل الحزب الشيوعي. المثير للاهتمام أن محجوب كان قد عارض تشريعًا مشابهًا في عام 1954، مما يعكس التحولات في مواقفه السياسية بمرور الزمن.
كان هذا الانتصار السياسي للأحزاب التقليدية ضد الحزب الشيوعي واحدًا من أكبر الضربات التي تعرض لها الحزب في تاريخه. لقد أثر هذا الحدث بشكل كبير على مكانة الحزب في المشهد السياسي السوداني، وساهم بشكل كبير في دفع الحزب الشيوعي للمشاركة في الانقلاب العسكري على الديمقراطية في مايو 1969.
دوافع المحاولة الناجحة وأسبابها
الدافع الرئيسي لحل الحزب الشيوعي السوداني في ديسمبر 1965 كان، في تقديري، يعود إلى مساعي الحزب الشيوعي السوداني في فبراير من نفس العام لتصفية الإدارات الأهلية عبر مذكرة الشفيع أحمد الشيخ. في ذلك الوقت، كان الحزب الشيوعي يتمتع بنفوذ كبير في الحكومة الأولى التي أعقبت ثورة أكتوبر 1964، وذلك عبر واجهاته السياسية وحلفائه في جبهة الهيئات. وقد أشار أحمد إبراهيم أبو شوك إلى هذه الأجواء في قوله: "في ظل هذا التراجع (من قبل الحكومة آنذاك)، نشطت تحركات زعماء الإدارة الأهلية الذين كثفوا اتصالاتهم برؤساء الأحزاب التقليدية، واتفقوا معهم على تجميد قرار التصفية، شريطة أن يعملوا سويًا على إسقاط مرشحي القوى الحديثة في الانتخابات القادمة، ويكوِّنوا حكومة ديمقراطية ترعى مصالح الطرفين، وتدرس مشروع التصفية وتضع التصور اللازم لتطوير أجهزة الإدارة الأهلية. وبهذه الكيفية، أضحى شعار تصفية الإدارة الأهلية شعارًا ذا حدين في الحملة الانتخابية، حيث دفع من طرف بعض القوى الجماهيرية الرافضة لهيمنة الإدارة الأهلية وزعماء العشائر إلى مناصرة القوى الحديثة، بغية الانعتاق من هيمنة رجالات الإدارة الأهلية، ومن طرف ثانٍ أسهم في توثيق عرى الترابط بين القوى الطائفية والقيادات القبلية، لأن كلا الطرفين أدرك أن استمرار بقائه في السلطة على المستويين المحلي أو المركزي مرهون بفاعلية تعامله المصلحي مع الآخر" (أبو شوك، 2009).
الجدير بالذكر أيضًا المواجهات المباشرة بين الحزب الشيوعي وحلفائه النقابيين من جهة، وحزب الأمة القومي والحزب الوطني الاتحادي وجبهة الميثاق من جهة أخرى. بدأت تلك المواجهات عندما قام وزير الاستعلامات والعمل خلف الله بابكر، وهو أحد حلفاء الحزب الشيوعي، في 2 فبراير 1965 ببث خطاب تحريضي عبر الإذاعة، اتهم فيه الأحزاب بالعمل ضد الثورة، ودعا "الجماهير" إلى عزلها. كان ذلك الخطاب جزءًا من صراع الحزب الشيوعي لتأجيل الانتخابات وتعديل دوائرها الانتخابية لصالحه، حيث دعا، دون نجاح، إلى تخصيص نصف المقاعد للمزارعين والعمال، لكنه نجح في تمكين المرأة من حق الانتخاب، وفي إعادة دوائر الخريجين وزيادة عددها. وقد أثار هذا الخطاب أزمة داخل الحكومة، ما دفع رئيس الوزراء إلى تقديم اعتذار رسمي.
تبع الخطاب التحريضي بعد أسبوع ما عُرف بأحداث "ليلة المتاريس" والاعتداء على السفارة الأمريكية في الخرطوم في 9 فبراير 1965، وهو فعل سياسي نظمه الحزب الشيوعي، وثبت لاحقًا عدم صحة الادعاءات التي بُني عليها.
أدى هذا التصعيد السياسي العنيف لفظيًا والسعي الحثيث للتغيير الراديكالي من قبل الحزب الشيوعي وواجهاته وحلفائه عبر سلطة الحكومة إلى رد فعل مضاد من الأحزاب التقليدية، التي حشدت قواها الجماهيرية في العاصمة، بدعم خاص من الأنصار القادمين من الأقاليم. وأسفرت هذه التحركات، والعنف الذي صاحبها في العاصمة، عن إعلان حالة الطوارئ وحل الحكومة الأولى في 18 فبراير 1965، بعد أربعة أشهر فقط من تشكيلها.
لاحقًا، وفي ظل حكومة ذات أقلية يسارية، وقعت حادثة الإساءة الدينية الشهيرة في نوفمبر 1965، التي ارتكبها عضو سابق في الحزب الشيوعي. استغلت الأحزاب المنافسة هذه الحادثة لإقصاء الحزب الشيوعي من الساحة السياسية. عبر تعديل الدستور، تمكن البرلمان من حل الحزب الشيوعي بأغلبية الثلثين. يجدر التأمل هنا في أن تلك الإساءة الدينية كانت تدور حول نفس حادثة الإفك التي أثيرت في أكتوبر 1954، والتي نفى الحزب الشيوعي حينها علاقته بها.
هذه الحادثة، في تقديرنا، كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر الحزب، الذي بادر إلى معاداة الأغلبية الشعبية والبرلمانية من خلال سيطرته على حكومة سر الختم الخليفة الأولى. لم تنجح محاولات الحزب في فرض أجندة التغيير الجذري من خلال العنف الثوري في "ليلة المتاريس"، أو من خلال التحريض الإذاعي، أو حتى عبر مذكرة تصفية الإدارة الأهلية. بل أدى هذا التصعيد إلى توحد القوى التقليدية ضد الحزب، مما أدى إلى حله.
الخاتمة
يتضح من هذه المحاولات أن الحزب الشيوعي السوداني كان مستهدفًا بشكل متكرر من قبل القوى السياسية المختلفة، سواء عبر التشريعات أو التحركات البرلمانية. يمكن قراءة هذا الاستهداف كرد فعل سياسي على معارضة الحزب الشيوعي العنيفة لاتفاقية استقلال السودان، وسعيه لاستغلال جهاز الدولة لحل الإدارات الأهلية ولتأجيل وتشكيل الانتخابات. وعلى الرغم من أن بعض هذه المحاولات فشلت في تحقيق أهدافها، إلا أن محاولات أخرى نجحت في تقييد نشاط الحزب، مثل حادثة حله وطرد نوابه من البرلمان في عام 1965. يعكس هذا التاريخ الصراع المستمر بين التيارات السياسية المختلفة في السودان حول طبيعة النظام السياسي ودور الأحزاب ذات التوجهات الفكرية المختلفة، مثل الحزب الشيوعي، في صياغة المستقبل السياسي للبلاد.
في الجزء الثالث من هذا المقال، سنتناول مواقف الحزب الشيوعي السوداني أثناء الفترة الديمقراطية الثالثة (1985 – 1989) وأثناء الفترة التالية لثورة ديسمبر 2018.
المراجع الرئيسية
رباح الصادق. حزب الأمة القومي وحل الحزب الشيوعي السوداني 1965. 17 يونيو 2020. تم الحصول عليه يوم 26 سبتمبر 2024 على الموقع التالي: www.academia.edu
أحمد إبراهيم أبو شوك. الدكتور عبد الله علي إبراهيم ومذكرة الشفيع أحمد الشيخ عن الإدارة الأهلية (1 – 3). سودانايل.