الوطنية السودانية واستقلال السودان (1 -2)
بدر الدين حامد الهاشمي
14 September, 2024
14 September, 2024
الوطنية السودانية واستقلال السودان (1 -2)
Sudanese Nationalism and the Independence of the Sudan (1-2)
G.N. Sanderson جورج نيفيل ساندرسون
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذا هو الجزء الأول من ترجمة لفصل في كتاب حرره مايكل بريت (Michael Brett)، صدر عام 1973م بعنوان: "Northern Africa: Islam and Modernization" (شمال أفريقيا: الإسلام والتحديث) عن دار نشر Frank Cass بلندن، في صفحات 97 -109. وكان كاتب الفصل (1919 – 2001م) قد تخرج في جامعة أكسفورد عام 1940م والتحق بالجيش البريطاني وبُعِثَ به لمصر، ثم عمل في مصلحة المعارف بالسودان، وعمل محاضراً للتاريخ في كلية غوردون التذكارية بين عامي 1947 و1953م، ثم ترقى إلى رتبة محاضر أول (1953 – 1962م)، وصار محرراً لـ "مجلة السودان في رسائل ومدونات"، ثم أستاذاً للتاريخ، و"رئيس وحدة أبحاث السودان" في الأعوام 1962 – 1965م. بعدها غادر السودان ليعمل أستاذاً في جامعة لندن إلى حين تقاعده في 1985م.
وسبق لنا ترجمة مقال لساندرسون عنوانه: مجلة "السودان في رسائل ومدونات" كمصدر من مصادر أبْحَاث السودان، يمكن الاطلاع عليه في هذا الرابط: https://shorturl.at/LPlbH
المترجم
********* ********** ********
إن النموذج (model) المفرط البساطة الذي تم بموجبه في نهاية المطاف تحقيق الاستقلال من خلال ضغط حركة وطنية "جماهيرية" لا تقاوم هو نموذج غير مناسب في السودان بصورة أكثر من المعتاد. ولو كان مثل ذلك الضغط موجوداً بالفعل، لكان البريطانيون قد أصبحوا عُرضة له في أي وقت بعد عام 1945 تقريباً. ومنذ أوائل أربعينيات القرن العشرين، شرعت حكومة السودان في السعي للحصول على الدعم السياسي النشط من السودانيين، رغماً عن تحفظات بعض عناصرها الأكثر استبدادية. وتحقيقاً لتلك الغاية، حشدت الحكومة أقدم أصدقائها من زعماء الأرياف والأعيان الأثرياء الذين سيطروا على "المجلس الاستشاري" الذي أُنْشِئَ في عام 1943م؛ وتحالفت أيضاً مع السيد عبد الرحمن المهدي، زعيم طائفة "المهدية الجديدة"، ومع من يبدو أنهم من الوطنيين المعتدلين ظاهرياً. ولا ريب أنه لم يكن هناك خلاف على قيمة وأهلية وصلاحية أعضاء المجلس الاستشاري، فهم من ذوي العقليات المحافظة؛ ومن المؤكد أيضاً أن السيد عبد الرحمن المهدي كان في حاجة ماسة إلى البريطانيين إن كان يرغب في تحقيق طموحه غير الخفي في أن يصبح وريثهم السياسي. ولكن لم يكن للمجلس الاستشاري، ولا للسيد عبد الرحمن، أن يوافقا على القمع القسري لحركة وطنية قوية، لو كانت مثل تلك الحركة موجودة بالفعل.
لقد أصبح لدعم السيد عبد الرحمن المهدي وزعماء المجتمع السوداني التقليديين (الذي كان في البداية مجرد دعم سهل ومُوَائِم لهم) أهمية حاسمة بعد انتهاء الحرب وحلول السلام. وأعاق ذلك الدعم البريطانيين أكثر من أي وقت مضى من السعي نحو الحصول على مجرد حل تمثيلي (representative solution) لصعوباتهم السياسية في السودان. وفي عام 1947، وبعد عرض النزاع الإنجليزي - المصري بشأن السودان أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، غدا الدعم السوداني لا غنى عنه على الإطلاق. وبررت بريطانيا أمام مجلس الأمن وجودها في السودان بحجة أنها كانت تُعِدُّ شعب السودان للاستقلال الذي حرمتهم منه ادعاءات مصر بالسيادة عليه. ولكي يكون لذلك الادعاء مصداقية، كان على البريطانيين أن يثبتوا وجود دعم سوداني كبير لسياستهم القائمة على "تقدم دستوري" متدرج. غير أن ما حدث بالفعل هو أن ذلك "الدعم" لم يعد يأتي بعد عام 1952م، وحينها فقدت بريطانيا على الفور سيطرتها على الأحداث السياسية في السودان. ومع ذلك، فقد تمكنت الحكومة طوال تلك الفترة من الحكم، مستخدمةً الحد الأدنى من القوة، من احتواء التحريض والاضطراب الذي أحدثه الوطنيون بطرق ووسائل لم تشكل تهديداً حقيقياً للأمن العام، أو حتى للروتين الإداري. وظلت حكومة السودان حتى الخمسينيات - ورغماً عما بدا من أن وضعها كان معرضاً للهجوم – واثقة من قدرتها أن تمضي في سياستها من أجل "كسب الوقت"، وأن تعمل من كثب على تنظيم مسيرة "التقدم الدستوري". ولم تواجه الحكومة حتى منتصف عام 1952م الكثير من الصعوبات في الحصول على ما يكفي من تأييد السودانيين. بل تمكنت الحكومة في الواقع، وبشكل مؤقت، خلال عام 1951م من تأمين نطاق تعاون أوسع من أي وقت مضى منذ عام 1945م، وذلك من خلال تراجع تكتيكي غير ملزم إلى حد ما عن موقفها السلبي الذي اتخذته في العام السابق.
إن إحدى الطرق لتفسير ذلك الوضع الغريب إلى حد ما هي الإشارة إلى أن الانقسامات الطائفية، وخاصة التنافس الحاد بين زعيم طائفتي الختمية (السيد على الميرغني) والأنصار (السيد عبد الرحمن المهدي) قد "أضعفت" الحركة الوطنية. وضاعف استغلال البريطانيين والمصريين لتلك الحالة من الصراع والانقسام في صفوف الحركة الوطنية. فقد كانت مصر تساند الطائفة الختمية، أو على الأقل حلفاءها السياسيين؛ بينما عملت بريطانيا بشكل أكثر تحفظاً - ولكن بفعالية كبيرة - على تأييد ومساندة السيد عبد الرحمن المهدي وحزب الأمة، الذي لم يكن سوى منظمة "جبهة سياسية" للسيد عبد الرحمن. ولا غبار على ذلك التفسير، ولكنه ليس تفسيراً كاملاً يغطي كل جوانب الوضع. فهو لا يفسر مثلاً استعداد الإدارة بالسودان بين عامي 1936 و1940م لتبني "الحركة الوطنية العلمانية"، وليس فقط مجرد القبول بها واحتمالها. ولا يفسر كذلك التقارب الذي حدث في سنة 1941م وما بعدها بين الحكومة والسيد عبد الرحمن المهدي، على الرغم من أن الحكومة كانت من قبل ذلك تنظر إليه بعين الشك والتوجس، خاصةً بين عامي 1935 و1940م. وكذلك لا يفسر سبب اعتبار الإدارة السيد علي الميرغني في الفترة بين الحربين العالميتين من أقوى المؤيدين لحكومة السودان ويمكنها الاعتماد عليه تماماً؛ ثم صارت تعده في عام 1944م حليفاً لمصر وأكبر زعيم للوطنيين الأكثر تطرفا. وزادت نظرية ذلك "الضعف" المفترض في الحركة الوطنية من صعوبة تفسير لماذا اضطرت حكومة السودان حتى قبل عام 1945م إلى التخلي عن وضعها كمُحَكّمة أو وسيطة (arbiter) ومناورة (manipulator) في السياسة السودانية، والنزول إلى الساحة لمناصرة عبد الرحمن المهدي مناصرة علنية - وهو الموقف الذي أدى في أكتوبر 1946م إلى أن يقوم السيد عبد الرحمن المهدي وحكومة السودان بشكل ضمني بمعارضة، بل تحدي، حكومة صاحب الجلالة، وإجبار وزير الخارجية المُهاب ايرنست بيقن على التراجع عن سياسته في السودان على الفور بشكل مفاجئ وحاد (1).
وكانت أزمة أكتوبر 1946م واحدة من مناسبتين حدثتا إبان حركة "النضال الوطني"، عندما كان النظام العام مهدداً بشكل خطير، أو بدا أنه كان كذلك. أما المناسبة الثانية فهي مظاهرات "الأنصار" العارمة في الأول من مارس عام 1954م. لقد كانت الوطنية الواعية بذاتها في أكتوبر 1946م لا تزال مجرد مُعتَقَد cult لنخبة صغيرة؛ وبحلول شهر مارس 1954م كان "النضال" ضد البريطانيين قد انتصر بشكل حاسم. ولم تكن لـ "الوطنية" في حد ذاتها علاقة كبيرة بأي من هاتين الأزمتين؛ غير أنه كان للسيد عبد الرحمن علاقة كبيرة بكل منهما. كانت المظاهرتان شديدتا الفعالية وأثبتتا أن "قضية السودان" لا يمكن تسويتها سلمياً دون مراعاة رغبات وتطلعات السيد عبد الرحمن.
لقد حان الوقت لتغيير التركيز. ربما لم يكن لتنامي "الوطنية"، برغم كل ما قِيلَ أو كُتِبَ عنها، هو الموضوع المركزي في عملية تقدم السودان نحو الاستقلال. وربما يكون من الأكثر فائدةً وتنويراً أن ننظر إلى "الوطنية" بحسبانها مجرد مُدْخَل (input) جديد (وكانت حتى عام 1951 مُدْخَلاً له أهمية ثانوية نسبياً) في صراع متطور بالفعل من أجل نيل نفوذ سياسي في السودان. وكلما اقترب السودان من تقرير المصير، كلما زادت المخاطر في ذلك الصراع الداخلي. وليس من المستغرب أن يتجه الصراع على إرث السلطة البريطانية إلى أخذ الأسبقية على "النضال الوطني" الحقيقي. وكانت ردود الفعل السلبية القوية تلك هي التي أبقت حكومة السودان مسيطرة حتى أواخر عام 1952م، حين أفلح المنافسون السودانيون في عكس / قلب أولوياتهم مؤقتاً، وبالتالي حاصروا البريطانيين.
لم يكن الوطنيون في حالة "انقسام" و"ضعف" بسبب ذلك الصراع على السلطة فحسب؛ بل كانوا أيضاً منغمسين تماماً في تلك الحالة. ففي بداية الأربعينيات لم يكن للوطنية العلمانية أي صدى (أو حتى معنى) في خارج دائرة أصحاب الياقات البيضاء "الانتلجنسيا" الضيقة نسبياً. وسعى قادة الحركة الوطنية لنيل تأييد شعبي بديل، ووجدوا ضالتهم في طائفتي الختمية والأنصار، وربطوا حركتهم بعجلات عربتيها. غير أن تبعية وخضوع الحركة الوطنية للطائفية لم يكن في الواقع كاملاً. فقد جمع إسماعيل الأزهري مثلاً بين "الوطنية العلمانية المتشددة" وبين "حدة المشاعر المضادة" للبريطانيين، إضافةً إلى قدر كبير من المهارة التكتيكية أهلته ليكون قوةً سياسية مهمة ومستقلة بذاتها. غير أن حتى الأزهري نفسه كان فقد الكثير من نفوذه عندما سحبت طائفة الختمية تأييدها له بين عامي 1948 و1952م. ولم يكن مصير الحركة الوطنية مستغرباً بعد ذلك، إذ تقاسمته دولتي الحكم الثنائي. وشرعت بريطانيا ومصر في تبني ورعاية جناحي الحركة الوطنية السودانية. ولكن وجدت الدولتان أنهما خاضعتين أيضاً للصراع بين الأنصار والختمية. وانتهى بهما الأمر كمساعدين يمكن التضحية بهما؛ وتم التخلص منهما عندما تجاوزا فترة صلاحيتهما - البريطانيون عن طريق عبد الرحمن المهدي في أكتوبر 1952م، والمصريون مِنْ قِبَل الختمية في نهاية عام 1954م. وكان لب الصراع في السودان يكمن في طموحات السيد عبد الرحمن المهدي. وكان صعود ذلك الرجل من حالة خمول الذِّكر إلى حين وقوع الحرب العالمية الأولى قد حدث عندما عرض على الحكومة (التي كانت في حالة حرب ضد الترك) ولاء أنصاره في الأرياف، وأوفى بما وعد به. وأجزلت له الحكومة العطاء ومنحته الأراضي والعقود الحكومية المربحة، وغدا السيد عبد الرحمن المهدي نتيجةً لذلك رجلاً واسع الثراء (2). وأصاب الرَّوْع الإدارة البريطانية بالسودان وهي ترى أن السيد عبد الرحمن يستخدم ثروته في توسيع نفوذه الديني والسياسي، ويستغل "بركاته" في مضاعفة ثروته. وشرع السيد عبد الرحمن في الظهور كمركز للقوة والسلطة ينافس الحكومة، وذلك عبر قيامه ببناء شبكة سرية من العملاء، وفرض جزية (على شكل زكاة) على أتباعه وتشغيلهم في مزارعه من غير منحهم أجوراً محددة، وعقده للمحاكم بأسلوب شبه قانوني (quasi- legal) في الجزيرة أبا، ثم في الخرطوم لاحقاً. ومنذ أوائل عشرينيات القرن العشرين فصاعداً، كانت حكومة السودان من وقت لآخر تبدي انزعاجها الشديد من سلوكه السياسي. وعندما سعى حاكم عام عديم الخبرة (اسمه آرشر) في عام 1926م للتقرب من السيد عبد الرحمن، عد رجال القسم السياسي بالحكومة أن ذلك عمل غير مناسب ولم يحن وقته بعد، ولم تتردد مجموعة من كبار المسؤولين في العمل على طرده من وظيفته (3).
وعلى الرغم من ذلك كان السيد عبد الرحمن شديد الحرص على تحاشي أي صراع مباشر له مع الحكومة. بل في الواقع، كان قد أظهر في غالب الحالات استعداداً محرجاً للتعاون معها. ولما حاولت الحكومة "وضعه في حجمه الحقيقي" تظاهر ببراءة مجروحة. وكان يطيع دوما - مظهراً كل علامات الاحترام والتقدير - ولفترة من الوقت، أي أوامر محددة تُعْطَى له، إذ لم تكن المواجهة المباشرة من ضمن تكتيكاته قط. وكان كل سلوك يسلكه يشي بأنه يعمل على بناء نفسه ليغدو "الرجل الذي لا مفر منهl'homme inevitable " في يوم قادم، إن آجلاً أو عاجلاً، يتخلى فيه البريطانيون عن، على الأقل، بعض سلطتهم. ولما أتضح جلياً للسيد عبد الرحمن بأن البريطانيين ليسوا بقادرين على نقل السلطة له (أو حتى التعهد بذلك) وقف ضدهم بشكل حاسم.
وفي أواخر سنوات الثلاثينيات كان سلوك وموقف السيد عبد الرحمن مربكاً بشكل أكثر من المعتاد. فقد بدا أنه كان يسعى لإضافة وتر جديد لقوسه السياسي (بمعنى أنه كان يرغب في زيادة خياراته) وذلك بجذبه انتلجنسيا الجيل الجديد من الشباب السودانيين الذين تلقوا تعليماً غربياً، وهذه مجموعة يُكِنُّ لَها الزعماء التقليديون بغضاً شديداً، ولا تثق فيها الإدارة الحكومية، إذ أنهم كانوا يحملون "جرثومة سامة" هي المناداة بالديمقراطية والوطنية. ورغم كل ذلك، فقد كانت الحكومة تحتاج لخدماتهم لشغل الوظائف المكتبية وتسيير أعمال النظام. وكانت محاولة السيد عبد الرحمن جذب أولئك الشباب المتعلم إلى صفه مصدر قلق عظيم عند البريطانيين.
وكان قادة أولئك الانتلجنسيا في ذلك الوقت من الوطنيين المعتدلين، وكان مطلبهم الوحيد هو منحهم الفرصة للتدريب كي يحلوا محل البريطانيين في المستقبل البعيد، نوعاً ما. ولم يكن هناك شيء يجمعهم مع الثوار الوطنيين الذي قاموا بحركة 1924م – حتى بعد أن بقي من كان ناشطاً معهم عام 1924م في الحياة السياسية وصار يُعَدُّ (لاحقاً) من أصلح "العناصر الصالحة" مثل عبد الله خليل، أو من العناصر المعتدلة مثل عرفات محمد عبد الله. وفي رد فعل على النزاعات الطائفية الصغيرة التي عقمت السياسة "المتعلمة" في السودان منذ عام 1931م، رفض أولئك القادة حتى ذلك التاريخ مبادرات عبد الرحمن المهدي: حتى أنهم ظلوا ينفقون على "مجلاتهم الصغيرة" من جيوبهم الخاصة عوضاً من قبول الدعم الذي عرضه عليهم السيد عبد الرحمن المهدي.
وكان السير ستوريت سايمس، حاكم عام السودان منذ عام 1934م (4) حريصاً على تشجيع الوطنية العلمانية "المعتدلة" كإجراء وقائي لمنع إحياء النفوذ المصري في أوساط المتعلمين السودانيين. وكانت مناورات السيد عبد الرحمن المهدي قد ضاعفت من الحاجة لانتهاج تلك السياسة بحسبانها أمراً عاجلاً لا يحتمل التأخير. وعلى الرغم من التحفظات والشكوك التي أبداها حكام المديريات على تلك السياسة، أصر الحاكم العام على إحباط مخططات السيد عبد الرحمن الرامية لاستقطاب وتشجيع أولئك "الشبان الوطنيين الرائعين المعتدلين الرفضين للطائفية". واعترفت الحكومة في عام 1938م بمؤتمر الخريجين العام (الذي كانت الحكومة قد شجعت على قيامه، رغم عدم اعترافها به رسميا كجسم سياسي يمثل المتعلمين). وتمت مناقشة تفاصيل قيام المؤتمر في جو تعاون ودي بين إسماعيل الأزهري (الذي سيغدو لاحقاً عدواً لـ "الإمبريالي المُضطهِد") وجي. سي. بيني (J.C. Penny)، مسؤول الأمن العام، الذي كان مسؤولا عن اكتشاف ومراقبة الأنشطة السياسية "الهدامة".
ولم تكن تلك التجربة تجربةً ناجحة بأي حال من الأحوال. فقد تأبت الحكومة على مشاورة المؤتمر في الأمور المهمة بالبلاد. ووجد أعضاء المؤتمر أنهم وُضِعُوا في موقف غير مريح وتحت الكثير من القيود بسبب الترتيبات والتفاهمات التي اتفق عليها الأزهري مع بيني، وطَفَقُوا يعيدون شكواهم من مسائل محددة أهمها بطء عمليات "السودنة" والتنمية، خاصة في مجال التعليم. ولم يكن سلوك ومواقف مؤتمر الخريجين تجد القبول عند الحكومة؛ فقد كانوا يصرون على أنهم جهة "ممثلة" للشعب، وكانوا يتوددون لمصر. إن أسوأ ما في الأمر كانت هي خيبة أملهم في الحكومة، وإظهارهم لكل علامات الاستسلام من أجل إرضاء السيد عبد الرحمن. وفي غضون عام 1940 بدأت الصحف الموالية للسيد عبد الرحمن تزعم أن مؤتمر الخريجين يجب أن "يُوسَع" ليشمل "التجار وغيرهم"؛ وبدا أن السيد عبد الرحمن في طريقه للاستيلاء على نفس التنظيم الذي خططت له الاستراتيجية الرسمية لتعمل كقوة مضادة له. وفي أكتوبر 1940م وبّخ السكرتير الإداري (نيوبوولد) زعماء مؤتمر الخريجين على ادعاءاتهم السياسية بلغة فظاظة محسوبة على ما يبدو؛ وربما كان قد استبعد بالفعل أن يظل المؤتمر أداةً سياسية قابلة للاستخدام.
غير أن الزجر والتوبيخ للمؤتمر لم يفض لحل مشكلة السيد عبد الرحمن، الذي أظهر نفوذه عندما عقد المؤتمر انتخاباته في نهاية 1940م. على أسس طائفية. وفاز ممثلو الأنصار في تلك الانتخابات. وفي غضون أشهر عام 1941م حاولت الحكومة حل ذلك الاشكال عن طريقة معاملة السيد عبد الرحمن بحسبانه حليفاً، بأكثر من كونه عدواً محتملاً. وكانت لتلك المحاولة العديد من المزايا الواضحة، كان من أبرزها أن ينجح السيد عبد الرحمن في جعل المؤتمر أكثر اعتدالاً؛ فقد كان السيد عبد الرحمن معارضاً لمصر بشكل ثابت، وهذا اعتبار يكتسب أهمية متزايدة مع تزايد النفوذ المصري في السودان بشكل مطرد. غير أن حقيقة أن السيد عبد الرحمن قد أفلح في إجبار الحكومة على القبول بتحالفه (مع مؤتمر الخريجيين) كانت تشير إلى كسبه للمبادرة في تلك الاستراتيجية السياسية. وبعد مرور خمس أو ست سنوات، عندما أصبح الاحترام السياسي للحكم البريطاني يعتمد بشكل شبه كامل على تعاون السيد عبد الرحمن المهدي، لا بد أن قرار عام 1941م بدا وكأنه تطبيق للمبدأ القائل: "إن لم تتمكن من هزيمته، فانضم إليه". ففي عام 1941م أوقفت حكومة السودان حملتها الإدارية والمالية التي كانت تهدف لمضايقة السيد عبد الرحمن المهدي، والتي كانت قد بدأتها في عام 1936م؛ وبقي مؤتمر الخريجين (ولجانه المكونة من أنصار المهدي "المعتدلين") هادئاً بشكل ملائم. غير أن الحكومة سرعان ما توقفت عن جني تلك المكاسب السياسية من تحالفها الجديد، عندما لم تعمر سيطرة السيد عبد الرحمن على المؤتمر طويلاً. ففي عام 1942م قامت مجموعة أصدقاء من الشباب المتشددين من ذوي التوجهات العلمانية (عُرفوا بـ "الأشقاء") بمخادعة لجنة المؤتمر التي كانت تتكون من أفراد ذوي ميول أنصارية واقنعتهم بتقديم الإثني عشر مطلبا المشهورة التي تضمنت المطالبة بمنح السودان حق تقرير المصير، والتأكيد على ذلك، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتوسيع عمليات "السودانة" في تلك السنوات. ورفض نيوبوولد مطالب المؤتمر بطريقة تخلو من أي نوع من الكياسة، وقطع كل علاقة رسمية للحكومة به. وفي انتخابات المؤتمر التي عقدت في نهاية عام 1942م، سيطر "الأشقاء" تحت قيادة إسماعيل الأزهري على المؤتمر. وكان نجم الأزهري – حتى قبل فوزه بقيادة المؤتمر - قد بدأ في الصعود بحسبانه رجل "دولة" المؤتمر الأكبر، وكان يُعَدُّ في ذات الوقت على الأقل "عضواً هامشياً fringe member" في حاشية السيد عبد الرحمن. وقد ذكرت بعص المصادر المعتمدة أن إسماعيل الأزهري كان قد سعى للحصول على "رعاية /مناصرة " لمجموعته المتشددة من السيد عبد الرحمن المهدي. غير أن مثل تلك الرعاية والمناصرة كان من الواضح أنها ستكون متنافرة ولا تؤام العلاقة الجديدة التي أقامها السيد عبد الرحمن مع الحكومة، ولذا رُفِضَتْ. والأهم من ذلك، شرع المعتدلون من أعضاء المؤتمر الذين كانوا من أنصار السيد عبد الرحمن في الانسحاب من المؤتمر في شهور عام 1943م.
وقام "الأشقاء" بتنظيم أنفسهم رسمياً كحزب سياسي، وغدا هو أول حزب يظهر في السودان. غير أن ذلك الحزب لم يكن له مستقبل كمنظمة جماهيرية إن لم يتمكن من جذب بعض الدعم الطائفي من السيد علي الميرغني. وقد ظل البريطانيون يتجاهلون السيد علي بشكل غريب منذ أواخر الثلاثينيات. وكان لذلك الزعيم الطائفي في دعم النظام الحاكم سجل تليد وحافل ما فيه شائِبَةٌ، لدرجة أن البريطانيين كانوا يأخذون "مصداقيته" ودعمه للنظام باعتبارهما أمراً مفروغاً منه. غير أن "مصداقيته" تلك لم تكن كافية كدليل ضد التوجه الجديد للحكومة للتحالف مع السيد عبد الرحمن المهدي. وكان للسيد علي الميرغني أكثر من سبب شخصي وتاريخي لاعتبار أن السيادة المحتملة / الممكنة لعبد الرحمن المهدي على السودان ستكون هي "الطَّامَّة الكُبْرَى" على السودان. وبالإضافة لذلك، كان للختمية تاريخ وإرث في التعاون مع قوى علمانية يعود لعهد الدولة التركية – المصرية. لذا فقد كان السيد علي قانعاً وسعيداً بمساندة إدارة كانت نظرياً "نصف – مسلمة"، وتبدي احتراماً للإسلام "التقليدي"، الذي كان ينظر لسياسة عبد الرحمن المهدي نظرة شك وتوجس.
لقد كان السيد علي الميرغني رجلاً شديد التحفظ في أفكاره ورؤاه، وليس لديه أي قدر من التعاطف مع الوطنية العلمانية المتطرفة. وكانت رعايته ومساندته لحزب "الأشقاء" والحزب الذي خلفه مشروطة وحذرة للغاية، بل قام بتعطيل تلك الرعاية والمساندة لفترات طويلة من الزمن. غير أنه لم يحتمل في عام 1944م القبول صامتاً وهو يرى احتكار السيد عبد الرحمن المهدي للرعاية والمساندة من البريطانيين، التي أظهرته كـ "سلطان السودان" المحتمل، الذي يحكم تحت نوع من أنواع الحماية أو السيطرة البريطانية. وكان السيد علي في حاجة ماسة لسلاح يحارب به منافسه؛ وكان يرى أن "مصداقيته" و"دعمه" للنظام فيما يبدو لم تكسبه شيئاً عند البريطانيين، فقرر أن يحذو حذو السيد عبد الرحمن ويجعل من نفسه مصدر إزعاج وهو في جناح المعارضة.
********* ********* *********
إحالات مرجعية
1/ للمزيد عن صراع وزير الخارجية البريطانية في تلك الأيام مع حاكم عام السودان هدلستون يمكن الاطلاع على ترجمة هذا المقال (من ثلاثة أجزاء) https://shorturl.at/V0Ip3
2/ يمكن النظر هنا إلى ما ذكره المؤرخ مارتن دالي في أحد كتبه بعنوان "بزوغ نجم السيد عبد الرحمن المهدي" في الرابط: https://shorturl.at/yoSiq، ومقالة فيرقس نيكول عن "دائرة المهدي" https://shorturl.at/QjP9f
3/ للمؤرخ مارتن دالي مقال صغير عن استقالة جيفري آرشر عن منصبه https://shorturl.at/1SBgn
4/ تجد في هذا الرابط تلخيصا للتقرير السنوي الذي قدمه ستيوارت سايمس عن أحوال السودان بين عامي 1936- 1937م: https://shorturl.at/LnwNn
Sudanese Nationalism and the Independence of the Sudan (1-2)
G.N. Sanderson جورج نيفيل ساندرسون
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذا هو الجزء الأول من ترجمة لفصل في كتاب حرره مايكل بريت (Michael Brett)، صدر عام 1973م بعنوان: "Northern Africa: Islam and Modernization" (شمال أفريقيا: الإسلام والتحديث) عن دار نشر Frank Cass بلندن، في صفحات 97 -109. وكان كاتب الفصل (1919 – 2001م) قد تخرج في جامعة أكسفورد عام 1940م والتحق بالجيش البريطاني وبُعِثَ به لمصر، ثم عمل في مصلحة المعارف بالسودان، وعمل محاضراً للتاريخ في كلية غوردون التذكارية بين عامي 1947 و1953م، ثم ترقى إلى رتبة محاضر أول (1953 – 1962م)، وصار محرراً لـ "مجلة السودان في رسائل ومدونات"، ثم أستاذاً للتاريخ، و"رئيس وحدة أبحاث السودان" في الأعوام 1962 – 1965م. بعدها غادر السودان ليعمل أستاذاً في جامعة لندن إلى حين تقاعده في 1985م.
وسبق لنا ترجمة مقال لساندرسون عنوانه: مجلة "السودان في رسائل ومدونات" كمصدر من مصادر أبْحَاث السودان، يمكن الاطلاع عليه في هذا الرابط: https://shorturl.at/LPlbH
المترجم
********* ********** ********
إن النموذج (model) المفرط البساطة الذي تم بموجبه في نهاية المطاف تحقيق الاستقلال من خلال ضغط حركة وطنية "جماهيرية" لا تقاوم هو نموذج غير مناسب في السودان بصورة أكثر من المعتاد. ولو كان مثل ذلك الضغط موجوداً بالفعل، لكان البريطانيون قد أصبحوا عُرضة له في أي وقت بعد عام 1945 تقريباً. ومنذ أوائل أربعينيات القرن العشرين، شرعت حكومة السودان في السعي للحصول على الدعم السياسي النشط من السودانيين، رغماً عن تحفظات بعض عناصرها الأكثر استبدادية. وتحقيقاً لتلك الغاية، حشدت الحكومة أقدم أصدقائها من زعماء الأرياف والأعيان الأثرياء الذين سيطروا على "المجلس الاستشاري" الذي أُنْشِئَ في عام 1943م؛ وتحالفت أيضاً مع السيد عبد الرحمن المهدي، زعيم طائفة "المهدية الجديدة"، ومع من يبدو أنهم من الوطنيين المعتدلين ظاهرياً. ولا ريب أنه لم يكن هناك خلاف على قيمة وأهلية وصلاحية أعضاء المجلس الاستشاري، فهم من ذوي العقليات المحافظة؛ ومن المؤكد أيضاً أن السيد عبد الرحمن المهدي كان في حاجة ماسة إلى البريطانيين إن كان يرغب في تحقيق طموحه غير الخفي في أن يصبح وريثهم السياسي. ولكن لم يكن للمجلس الاستشاري، ولا للسيد عبد الرحمن، أن يوافقا على القمع القسري لحركة وطنية قوية، لو كانت مثل تلك الحركة موجودة بالفعل.
لقد أصبح لدعم السيد عبد الرحمن المهدي وزعماء المجتمع السوداني التقليديين (الذي كان في البداية مجرد دعم سهل ومُوَائِم لهم) أهمية حاسمة بعد انتهاء الحرب وحلول السلام. وأعاق ذلك الدعم البريطانيين أكثر من أي وقت مضى من السعي نحو الحصول على مجرد حل تمثيلي (representative solution) لصعوباتهم السياسية في السودان. وفي عام 1947، وبعد عرض النزاع الإنجليزي - المصري بشأن السودان أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، غدا الدعم السوداني لا غنى عنه على الإطلاق. وبررت بريطانيا أمام مجلس الأمن وجودها في السودان بحجة أنها كانت تُعِدُّ شعب السودان للاستقلال الذي حرمتهم منه ادعاءات مصر بالسيادة عليه. ولكي يكون لذلك الادعاء مصداقية، كان على البريطانيين أن يثبتوا وجود دعم سوداني كبير لسياستهم القائمة على "تقدم دستوري" متدرج. غير أن ما حدث بالفعل هو أن ذلك "الدعم" لم يعد يأتي بعد عام 1952م، وحينها فقدت بريطانيا على الفور سيطرتها على الأحداث السياسية في السودان. ومع ذلك، فقد تمكنت الحكومة طوال تلك الفترة من الحكم، مستخدمةً الحد الأدنى من القوة، من احتواء التحريض والاضطراب الذي أحدثه الوطنيون بطرق ووسائل لم تشكل تهديداً حقيقياً للأمن العام، أو حتى للروتين الإداري. وظلت حكومة السودان حتى الخمسينيات - ورغماً عما بدا من أن وضعها كان معرضاً للهجوم – واثقة من قدرتها أن تمضي في سياستها من أجل "كسب الوقت"، وأن تعمل من كثب على تنظيم مسيرة "التقدم الدستوري". ولم تواجه الحكومة حتى منتصف عام 1952م الكثير من الصعوبات في الحصول على ما يكفي من تأييد السودانيين. بل تمكنت الحكومة في الواقع، وبشكل مؤقت، خلال عام 1951م من تأمين نطاق تعاون أوسع من أي وقت مضى منذ عام 1945م، وذلك من خلال تراجع تكتيكي غير ملزم إلى حد ما عن موقفها السلبي الذي اتخذته في العام السابق.
إن إحدى الطرق لتفسير ذلك الوضع الغريب إلى حد ما هي الإشارة إلى أن الانقسامات الطائفية، وخاصة التنافس الحاد بين زعيم طائفتي الختمية (السيد على الميرغني) والأنصار (السيد عبد الرحمن المهدي) قد "أضعفت" الحركة الوطنية. وضاعف استغلال البريطانيين والمصريين لتلك الحالة من الصراع والانقسام في صفوف الحركة الوطنية. فقد كانت مصر تساند الطائفة الختمية، أو على الأقل حلفاءها السياسيين؛ بينما عملت بريطانيا بشكل أكثر تحفظاً - ولكن بفعالية كبيرة - على تأييد ومساندة السيد عبد الرحمن المهدي وحزب الأمة، الذي لم يكن سوى منظمة "جبهة سياسية" للسيد عبد الرحمن. ولا غبار على ذلك التفسير، ولكنه ليس تفسيراً كاملاً يغطي كل جوانب الوضع. فهو لا يفسر مثلاً استعداد الإدارة بالسودان بين عامي 1936 و1940م لتبني "الحركة الوطنية العلمانية"، وليس فقط مجرد القبول بها واحتمالها. ولا يفسر كذلك التقارب الذي حدث في سنة 1941م وما بعدها بين الحكومة والسيد عبد الرحمن المهدي، على الرغم من أن الحكومة كانت من قبل ذلك تنظر إليه بعين الشك والتوجس، خاصةً بين عامي 1935 و1940م. وكذلك لا يفسر سبب اعتبار الإدارة السيد علي الميرغني في الفترة بين الحربين العالميتين من أقوى المؤيدين لحكومة السودان ويمكنها الاعتماد عليه تماماً؛ ثم صارت تعده في عام 1944م حليفاً لمصر وأكبر زعيم للوطنيين الأكثر تطرفا. وزادت نظرية ذلك "الضعف" المفترض في الحركة الوطنية من صعوبة تفسير لماذا اضطرت حكومة السودان حتى قبل عام 1945م إلى التخلي عن وضعها كمُحَكّمة أو وسيطة (arbiter) ومناورة (manipulator) في السياسة السودانية، والنزول إلى الساحة لمناصرة عبد الرحمن المهدي مناصرة علنية - وهو الموقف الذي أدى في أكتوبر 1946م إلى أن يقوم السيد عبد الرحمن المهدي وحكومة السودان بشكل ضمني بمعارضة، بل تحدي، حكومة صاحب الجلالة، وإجبار وزير الخارجية المُهاب ايرنست بيقن على التراجع عن سياسته في السودان على الفور بشكل مفاجئ وحاد (1).
وكانت أزمة أكتوبر 1946م واحدة من مناسبتين حدثتا إبان حركة "النضال الوطني"، عندما كان النظام العام مهدداً بشكل خطير، أو بدا أنه كان كذلك. أما المناسبة الثانية فهي مظاهرات "الأنصار" العارمة في الأول من مارس عام 1954م. لقد كانت الوطنية الواعية بذاتها في أكتوبر 1946م لا تزال مجرد مُعتَقَد cult لنخبة صغيرة؛ وبحلول شهر مارس 1954م كان "النضال" ضد البريطانيين قد انتصر بشكل حاسم. ولم تكن لـ "الوطنية" في حد ذاتها علاقة كبيرة بأي من هاتين الأزمتين؛ غير أنه كان للسيد عبد الرحمن علاقة كبيرة بكل منهما. كانت المظاهرتان شديدتا الفعالية وأثبتتا أن "قضية السودان" لا يمكن تسويتها سلمياً دون مراعاة رغبات وتطلعات السيد عبد الرحمن.
لقد حان الوقت لتغيير التركيز. ربما لم يكن لتنامي "الوطنية"، برغم كل ما قِيلَ أو كُتِبَ عنها، هو الموضوع المركزي في عملية تقدم السودان نحو الاستقلال. وربما يكون من الأكثر فائدةً وتنويراً أن ننظر إلى "الوطنية" بحسبانها مجرد مُدْخَل (input) جديد (وكانت حتى عام 1951 مُدْخَلاً له أهمية ثانوية نسبياً) في صراع متطور بالفعل من أجل نيل نفوذ سياسي في السودان. وكلما اقترب السودان من تقرير المصير، كلما زادت المخاطر في ذلك الصراع الداخلي. وليس من المستغرب أن يتجه الصراع على إرث السلطة البريطانية إلى أخذ الأسبقية على "النضال الوطني" الحقيقي. وكانت ردود الفعل السلبية القوية تلك هي التي أبقت حكومة السودان مسيطرة حتى أواخر عام 1952م، حين أفلح المنافسون السودانيون في عكس / قلب أولوياتهم مؤقتاً، وبالتالي حاصروا البريطانيين.
لم يكن الوطنيون في حالة "انقسام" و"ضعف" بسبب ذلك الصراع على السلطة فحسب؛ بل كانوا أيضاً منغمسين تماماً في تلك الحالة. ففي بداية الأربعينيات لم يكن للوطنية العلمانية أي صدى (أو حتى معنى) في خارج دائرة أصحاب الياقات البيضاء "الانتلجنسيا" الضيقة نسبياً. وسعى قادة الحركة الوطنية لنيل تأييد شعبي بديل، ووجدوا ضالتهم في طائفتي الختمية والأنصار، وربطوا حركتهم بعجلات عربتيها. غير أن تبعية وخضوع الحركة الوطنية للطائفية لم يكن في الواقع كاملاً. فقد جمع إسماعيل الأزهري مثلاً بين "الوطنية العلمانية المتشددة" وبين "حدة المشاعر المضادة" للبريطانيين، إضافةً إلى قدر كبير من المهارة التكتيكية أهلته ليكون قوةً سياسية مهمة ومستقلة بذاتها. غير أن حتى الأزهري نفسه كان فقد الكثير من نفوذه عندما سحبت طائفة الختمية تأييدها له بين عامي 1948 و1952م. ولم يكن مصير الحركة الوطنية مستغرباً بعد ذلك، إذ تقاسمته دولتي الحكم الثنائي. وشرعت بريطانيا ومصر في تبني ورعاية جناحي الحركة الوطنية السودانية. ولكن وجدت الدولتان أنهما خاضعتين أيضاً للصراع بين الأنصار والختمية. وانتهى بهما الأمر كمساعدين يمكن التضحية بهما؛ وتم التخلص منهما عندما تجاوزا فترة صلاحيتهما - البريطانيون عن طريق عبد الرحمن المهدي في أكتوبر 1952م، والمصريون مِنْ قِبَل الختمية في نهاية عام 1954م. وكان لب الصراع في السودان يكمن في طموحات السيد عبد الرحمن المهدي. وكان صعود ذلك الرجل من حالة خمول الذِّكر إلى حين وقوع الحرب العالمية الأولى قد حدث عندما عرض على الحكومة (التي كانت في حالة حرب ضد الترك) ولاء أنصاره في الأرياف، وأوفى بما وعد به. وأجزلت له الحكومة العطاء ومنحته الأراضي والعقود الحكومية المربحة، وغدا السيد عبد الرحمن المهدي نتيجةً لذلك رجلاً واسع الثراء (2). وأصاب الرَّوْع الإدارة البريطانية بالسودان وهي ترى أن السيد عبد الرحمن يستخدم ثروته في توسيع نفوذه الديني والسياسي، ويستغل "بركاته" في مضاعفة ثروته. وشرع السيد عبد الرحمن في الظهور كمركز للقوة والسلطة ينافس الحكومة، وذلك عبر قيامه ببناء شبكة سرية من العملاء، وفرض جزية (على شكل زكاة) على أتباعه وتشغيلهم في مزارعه من غير منحهم أجوراً محددة، وعقده للمحاكم بأسلوب شبه قانوني (quasi- legal) في الجزيرة أبا، ثم في الخرطوم لاحقاً. ومنذ أوائل عشرينيات القرن العشرين فصاعداً، كانت حكومة السودان من وقت لآخر تبدي انزعاجها الشديد من سلوكه السياسي. وعندما سعى حاكم عام عديم الخبرة (اسمه آرشر) في عام 1926م للتقرب من السيد عبد الرحمن، عد رجال القسم السياسي بالحكومة أن ذلك عمل غير مناسب ولم يحن وقته بعد، ولم تتردد مجموعة من كبار المسؤولين في العمل على طرده من وظيفته (3).
وعلى الرغم من ذلك كان السيد عبد الرحمن شديد الحرص على تحاشي أي صراع مباشر له مع الحكومة. بل في الواقع، كان قد أظهر في غالب الحالات استعداداً محرجاً للتعاون معها. ولما حاولت الحكومة "وضعه في حجمه الحقيقي" تظاهر ببراءة مجروحة. وكان يطيع دوما - مظهراً كل علامات الاحترام والتقدير - ولفترة من الوقت، أي أوامر محددة تُعْطَى له، إذ لم تكن المواجهة المباشرة من ضمن تكتيكاته قط. وكان كل سلوك يسلكه يشي بأنه يعمل على بناء نفسه ليغدو "الرجل الذي لا مفر منهl'homme inevitable " في يوم قادم، إن آجلاً أو عاجلاً، يتخلى فيه البريطانيون عن، على الأقل، بعض سلطتهم. ولما أتضح جلياً للسيد عبد الرحمن بأن البريطانيين ليسوا بقادرين على نقل السلطة له (أو حتى التعهد بذلك) وقف ضدهم بشكل حاسم.
وفي أواخر سنوات الثلاثينيات كان سلوك وموقف السيد عبد الرحمن مربكاً بشكل أكثر من المعتاد. فقد بدا أنه كان يسعى لإضافة وتر جديد لقوسه السياسي (بمعنى أنه كان يرغب في زيادة خياراته) وذلك بجذبه انتلجنسيا الجيل الجديد من الشباب السودانيين الذين تلقوا تعليماً غربياً، وهذه مجموعة يُكِنُّ لَها الزعماء التقليديون بغضاً شديداً، ولا تثق فيها الإدارة الحكومية، إذ أنهم كانوا يحملون "جرثومة سامة" هي المناداة بالديمقراطية والوطنية. ورغم كل ذلك، فقد كانت الحكومة تحتاج لخدماتهم لشغل الوظائف المكتبية وتسيير أعمال النظام. وكانت محاولة السيد عبد الرحمن جذب أولئك الشباب المتعلم إلى صفه مصدر قلق عظيم عند البريطانيين.
وكان قادة أولئك الانتلجنسيا في ذلك الوقت من الوطنيين المعتدلين، وكان مطلبهم الوحيد هو منحهم الفرصة للتدريب كي يحلوا محل البريطانيين في المستقبل البعيد، نوعاً ما. ولم يكن هناك شيء يجمعهم مع الثوار الوطنيين الذي قاموا بحركة 1924م – حتى بعد أن بقي من كان ناشطاً معهم عام 1924م في الحياة السياسية وصار يُعَدُّ (لاحقاً) من أصلح "العناصر الصالحة" مثل عبد الله خليل، أو من العناصر المعتدلة مثل عرفات محمد عبد الله. وفي رد فعل على النزاعات الطائفية الصغيرة التي عقمت السياسة "المتعلمة" في السودان منذ عام 1931م، رفض أولئك القادة حتى ذلك التاريخ مبادرات عبد الرحمن المهدي: حتى أنهم ظلوا ينفقون على "مجلاتهم الصغيرة" من جيوبهم الخاصة عوضاً من قبول الدعم الذي عرضه عليهم السيد عبد الرحمن المهدي.
وكان السير ستوريت سايمس، حاكم عام السودان منذ عام 1934م (4) حريصاً على تشجيع الوطنية العلمانية "المعتدلة" كإجراء وقائي لمنع إحياء النفوذ المصري في أوساط المتعلمين السودانيين. وكانت مناورات السيد عبد الرحمن المهدي قد ضاعفت من الحاجة لانتهاج تلك السياسة بحسبانها أمراً عاجلاً لا يحتمل التأخير. وعلى الرغم من التحفظات والشكوك التي أبداها حكام المديريات على تلك السياسة، أصر الحاكم العام على إحباط مخططات السيد عبد الرحمن الرامية لاستقطاب وتشجيع أولئك "الشبان الوطنيين الرائعين المعتدلين الرفضين للطائفية". واعترفت الحكومة في عام 1938م بمؤتمر الخريجين العام (الذي كانت الحكومة قد شجعت على قيامه، رغم عدم اعترافها به رسميا كجسم سياسي يمثل المتعلمين). وتمت مناقشة تفاصيل قيام المؤتمر في جو تعاون ودي بين إسماعيل الأزهري (الذي سيغدو لاحقاً عدواً لـ "الإمبريالي المُضطهِد") وجي. سي. بيني (J.C. Penny)، مسؤول الأمن العام، الذي كان مسؤولا عن اكتشاف ومراقبة الأنشطة السياسية "الهدامة".
ولم تكن تلك التجربة تجربةً ناجحة بأي حال من الأحوال. فقد تأبت الحكومة على مشاورة المؤتمر في الأمور المهمة بالبلاد. ووجد أعضاء المؤتمر أنهم وُضِعُوا في موقف غير مريح وتحت الكثير من القيود بسبب الترتيبات والتفاهمات التي اتفق عليها الأزهري مع بيني، وطَفَقُوا يعيدون شكواهم من مسائل محددة أهمها بطء عمليات "السودنة" والتنمية، خاصة في مجال التعليم. ولم يكن سلوك ومواقف مؤتمر الخريجين تجد القبول عند الحكومة؛ فقد كانوا يصرون على أنهم جهة "ممثلة" للشعب، وكانوا يتوددون لمصر. إن أسوأ ما في الأمر كانت هي خيبة أملهم في الحكومة، وإظهارهم لكل علامات الاستسلام من أجل إرضاء السيد عبد الرحمن. وفي غضون عام 1940 بدأت الصحف الموالية للسيد عبد الرحمن تزعم أن مؤتمر الخريجين يجب أن "يُوسَع" ليشمل "التجار وغيرهم"؛ وبدا أن السيد عبد الرحمن في طريقه للاستيلاء على نفس التنظيم الذي خططت له الاستراتيجية الرسمية لتعمل كقوة مضادة له. وفي أكتوبر 1940م وبّخ السكرتير الإداري (نيوبوولد) زعماء مؤتمر الخريجين على ادعاءاتهم السياسية بلغة فظاظة محسوبة على ما يبدو؛ وربما كان قد استبعد بالفعل أن يظل المؤتمر أداةً سياسية قابلة للاستخدام.
غير أن الزجر والتوبيخ للمؤتمر لم يفض لحل مشكلة السيد عبد الرحمن، الذي أظهر نفوذه عندما عقد المؤتمر انتخاباته في نهاية 1940م. على أسس طائفية. وفاز ممثلو الأنصار في تلك الانتخابات. وفي غضون أشهر عام 1941م حاولت الحكومة حل ذلك الاشكال عن طريقة معاملة السيد عبد الرحمن بحسبانه حليفاً، بأكثر من كونه عدواً محتملاً. وكانت لتلك المحاولة العديد من المزايا الواضحة، كان من أبرزها أن ينجح السيد عبد الرحمن في جعل المؤتمر أكثر اعتدالاً؛ فقد كان السيد عبد الرحمن معارضاً لمصر بشكل ثابت، وهذا اعتبار يكتسب أهمية متزايدة مع تزايد النفوذ المصري في السودان بشكل مطرد. غير أن حقيقة أن السيد عبد الرحمن قد أفلح في إجبار الحكومة على القبول بتحالفه (مع مؤتمر الخريجيين) كانت تشير إلى كسبه للمبادرة في تلك الاستراتيجية السياسية. وبعد مرور خمس أو ست سنوات، عندما أصبح الاحترام السياسي للحكم البريطاني يعتمد بشكل شبه كامل على تعاون السيد عبد الرحمن المهدي، لا بد أن قرار عام 1941م بدا وكأنه تطبيق للمبدأ القائل: "إن لم تتمكن من هزيمته، فانضم إليه". ففي عام 1941م أوقفت حكومة السودان حملتها الإدارية والمالية التي كانت تهدف لمضايقة السيد عبد الرحمن المهدي، والتي كانت قد بدأتها في عام 1936م؛ وبقي مؤتمر الخريجين (ولجانه المكونة من أنصار المهدي "المعتدلين") هادئاً بشكل ملائم. غير أن الحكومة سرعان ما توقفت عن جني تلك المكاسب السياسية من تحالفها الجديد، عندما لم تعمر سيطرة السيد عبد الرحمن على المؤتمر طويلاً. ففي عام 1942م قامت مجموعة أصدقاء من الشباب المتشددين من ذوي التوجهات العلمانية (عُرفوا بـ "الأشقاء") بمخادعة لجنة المؤتمر التي كانت تتكون من أفراد ذوي ميول أنصارية واقنعتهم بتقديم الإثني عشر مطلبا المشهورة التي تضمنت المطالبة بمنح السودان حق تقرير المصير، والتأكيد على ذلك، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتوسيع عمليات "السودانة" في تلك السنوات. ورفض نيوبوولد مطالب المؤتمر بطريقة تخلو من أي نوع من الكياسة، وقطع كل علاقة رسمية للحكومة به. وفي انتخابات المؤتمر التي عقدت في نهاية عام 1942م، سيطر "الأشقاء" تحت قيادة إسماعيل الأزهري على المؤتمر. وكان نجم الأزهري – حتى قبل فوزه بقيادة المؤتمر - قد بدأ في الصعود بحسبانه رجل "دولة" المؤتمر الأكبر، وكان يُعَدُّ في ذات الوقت على الأقل "عضواً هامشياً fringe member" في حاشية السيد عبد الرحمن. وقد ذكرت بعص المصادر المعتمدة أن إسماعيل الأزهري كان قد سعى للحصول على "رعاية /مناصرة " لمجموعته المتشددة من السيد عبد الرحمن المهدي. غير أن مثل تلك الرعاية والمناصرة كان من الواضح أنها ستكون متنافرة ولا تؤام العلاقة الجديدة التي أقامها السيد عبد الرحمن مع الحكومة، ولذا رُفِضَتْ. والأهم من ذلك، شرع المعتدلون من أعضاء المؤتمر الذين كانوا من أنصار السيد عبد الرحمن في الانسحاب من المؤتمر في شهور عام 1943م.
وقام "الأشقاء" بتنظيم أنفسهم رسمياً كحزب سياسي، وغدا هو أول حزب يظهر في السودان. غير أن ذلك الحزب لم يكن له مستقبل كمنظمة جماهيرية إن لم يتمكن من جذب بعض الدعم الطائفي من السيد علي الميرغني. وقد ظل البريطانيون يتجاهلون السيد علي بشكل غريب منذ أواخر الثلاثينيات. وكان لذلك الزعيم الطائفي في دعم النظام الحاكم سجل تليد وحافل ما فيه شائِبَةٌ، لدرجة أن البريطانيين كانوا يأخذون "مصداقيته" ودعمه للنظام باعتبارهما أمراً مفروغاً منه. غير أن "مصداقيته" تلك لم تكن كافية كدليل ضد التوجه الجديد للحكومة للتحالف مع السيد عبد الرحمن المهدي. وكان للسيد علي الميرغني أكثر من سبب شخصي وتاريخي لاعتبار أن السيادة المحتملة / الممكنة لعبد الرحمن المهدي على السودان ستكون هي "الطَّامَّة الكُبْرَى" على السودان. وبالإضافة لذلك، كان للختمية تاريخ وإرث في التعاون مع قوى علمانية يعود لعهد الدولة التركية – المصرية. لذا فقد كان السيد علي قانعاً وسعيداً بمساندة إدارة كانت نظرياً "نصف – مسلمة"، وتبدي احتراماً للإسلام "التقليدي"، الذي كان ينظر لسياسة عبد الرحمن المهدي نظرة شك وتوجس.
لقد كان السيد علي الميرغني رجلاً شديد التحفظ في أفكاره ورؤاه، وليس لديه أي قدر من التعاطف مع الوطنية العلمانية المتطرفة. وكانت رعايته ومساندته لحزب "الأشقاء" والحزب الذي خلفه مشروطة وحذرة للغاية، بل قام بتعطيل تلك الرعاية والمساندة لفترات طويلة من الزمن. غير أنه لم يحتمل في عام 1944م القبول صامتاً وهو يرى احتكار السيد عبد الرحمن المهدي للرعاية والمساندة من البريطانيين، التي أظهرته كـ "سلطان السودان" المحتمل، الذي يحكم تحت نوع من أنواع الحماية أو السيطرة البريطانية. وكان السيد علي في حاجة ماسة لسلاح يحارب به منافسه؛ وكان يرى أن "مصداقيته" و"دعمه" للنظام فيما يبدو لم تكسبه شيئاً عند البريطانيين، فقرر أن يحذو حذو السيد عبد الرحمن ويجعل من نفسه مصدر إزعاج وهو في جناح المعارضة.
********* ********* *********
إحالات مرجعية
1/ للمزيد عن صراع وزير الخارجية البريطانية في تلك الأيام مع حاكم عام السودان هدلستون يمكن الاطلاع على ترجمة هذا المقال (من ثلاثة أجزاء) https://shorturl.at/V0Ip3
2/ يمكن النظر هنا إلى ما ذكره المؤرخ مارتن دالي في أحد كتبه بعنوان "بزوغ نجم السيد عبد الرحمن المهدي" في الرابط: https://shorturl.at/yoSiq، ومقالة فيرقس نيكول عن "دائرة المهدي" https://shorturl.at/QjP9f
3/ للمؤرخ مارتن دالي مقال صغير عن استقالة جيفري آرشر عن منصبه https://shorturl.at/1SBgn
4/ تجد في هذا الرابط تلخيصا للتقرير السنوي الذي قدمه ستيوارت سايمس عن أحوال السودان بين عامي 1936- 1937م: https://shorturl.at/LnwNn