خاتمة كتاب “مصر والصراع على السلطة منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الناصرية”

 


 

 

Conclusion of the book “Egypt and the Struggle for Power from World War two to Nasserism"

Rami Ginat رامي قينت
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

تقديم: هذه ترجمة لبعض ما ورد في خاتمة كتاب عنوانه "مصر والصراع على السلطة منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الناصرية" من تأليف رامي قينت، الذي يعمل أستاذاً في قسم الدراسات السياسية في جامعة بار إيلان Bar- Ilan . والمؤلف متخصص في التاريخ المصري وسياسات الحرب الباردة في الشرق الأوسط، بعد أن نال درجة الدكتوراه من مدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة لندن عام 1991م. وسبق أن نشر الرجل في عام 2011م كتاباً بعنوان "تاريخ الشيوعية المصرية". أما في كتابه المعنون "مصر والصراع .... حتى الناصرية" فإنه يقدم - بحسب ما جاء في أول صفحة بالكتاب، ومستنداً على الكثير من المصادر العربية والإنجليزية - وصفاً "حيوياً وهاماً ومنقحاً" لتاريخ نضال مصر الكولونيالي Egypt’s colonialist struggle، وجهودها كي تثبت بشكل قاطع أن "وادي النيل يشكل وحدة إقليمية واحدة".
ويشمل الكتاب مقدمةً، وجزء أول عنوانه: "القواعد النظرية لما تدعيه مصر عن "وحدة وادي النيل" جاء في فصلين: أولهما عنوانه "التصورات المصرية للسودان: السرديات التاريخية"، وثانيهما عنوانه: "وحدة وادي النيل: وجهات النظر الجغرافية والاقتصادية والإثنوغرافية".
أما الجزء الثاني فقد جاء بعنوان" النضال من أجل السودان: السياسة والدبلوماسية والخطاب العام" واشتمل على أربعة فصول: أولها عنوانه: "مسألة السودان: انتقال مصر من مرحلة الخمول في زمن الحرب إلى المبادرات والأعمال التي تلت انتهاء الحرب"؛ وثانيهما عنوانه: "ما بين نمطين من الامبريالية: التعليم، والقومية، والصراع على السلطة في السودان"؛ وثالثهما هو "في أعقاب قرار مجلس الأمن: إلى أين تتجه وحدة وادي النيل؟"؛ وأتى الفصل الرابع بعنوان "الحركات الاجتماعية ومسألة السودان: دراسة حالة لتَفَاوُت وتباين حركات التحرر الوطني".
وقد يلحظ من يقرأ الكتاب تبسيطاً مفرطاً وتعميماً كاسحاً في بعض أجزائه، خاصةً عند مناقشة مسألة نشوء الحركة الوطنية السودانية، والعلاقات بين شعوب وادي النيل.
المترجم
************ ************ ***********
كما رأينا في فصول هذا الكتاب، فقد تجاوز الإجماع الوطني في مصر بشأن وحدة وادي النيل كل الخطوط الحزبية والأيديولوجية. وكانت النخبة السياسية المصرية حريصة على ألا تدع عملية إنهاء الكلولونيالية تفوت على "وادي النيل"، وبذلت الدولة المصرية رسمياً جهوداً دولية كبيرة من أجل اقناع المجتمع الدولي بصحة وشرعية ما تدعيه عن صلات تاريخية لا انفصام لها بين الشعبين في وادي النيل.
وعملت المؤسسة السياسية المصرية من أجل النضال في "جبهة الرأي العام العالمي" على تجنيد المثقفين والمنظرين والأكاديميين والصحفيين للدفاع عن وجهة النظر المصرية. وعمل كل أولئك دون كلل أو ملل، وبقناعات راسخة، في المساعدة على ذلك الهدف الوطني الرئيس. وبما أنهم كانوا قد اختاروا العمل في خدمة النخبة السياسية، فربما كانوا ينتمون إلى ما وصفه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو بـ "الجزء المهيمن من الطبقة المهيمنة"، أي لكونهم مثقفين فقد اُعْتُبِرُوا من الذين يتمتعون بامتيازات خاصة، و(لكنهم) تابعين خاضعين subordinate في ذات الوقت. وكانت مهمتهم واضحة تتلخص في: صياغة ونشر مبدأ وحدة وادي النيل.
وقد أكدت المواد التي أنتجتها تلك المصادر المتنوعة، والتي أُرْسِلَتْ، إلى العديد من الجهات، من بينها الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لحشد الدعم والتأكيد على أن المطلب المصري بوحدة وادي النيل كان يستند على أسس تاريخية مشتركة: طبيعية - جغرافية، واقتصادية، وثقافية، وإثنوغرافية.
وتولت المجلات والصحف المصرية الحزبية، وكذلك المستقلة (مثل "الأهرام") خدمة تلك القضية الوطنية. وكانت الحركة الشيوعية المصرية منذ بداية الأربعينيات هي الحركة الاجتماعية / السياسية الوحيدة التي سبحت ضد التيار الوطني المصري (فيما يتعلق بوحدة وادي النيل). فقد كان الشيوعيون المصريون يرغبون في رؤية السودانيين وهم يمارسون – بشكل مستقل – حق تقرير مصيرهم. وكانوا يتوقعون قيام نظام جديد بعد انتهاء مرحلة الكلولونيالية، وأن تضعف الإمبراطوريات التقليدية، خاصة بريطانيا.
ولأجل فهم أفضل للدور الذي أدته جماعات المعارضة اليمينية واليسارية المصرية، قد يكون من المفيد أن نأتي على بعض جوانب نظرية الحركات الاجتماعية. فالحركات الاجتماعية بحسب تعريف زالد ومكارثي هي "مجموعة من الآراء والمعتقدات لدى السكان، والتي تمثل التفضيلات preferences لتغيير بعض عناصر البنية الاجتماعية و/أو توزيع المكاسب في المجتمع". ويمكن توصيف الحركات المصرية، اليمينية منها واليسارية، على أنها "عوامل تؤدي أدواراً حاسمة في التحول التاريخي"، و"أنه يمكن المرء بدراسته لتلك العوامل أن يشكل صورة جديدة للمجتمع". وفي الواقع، قام الشيوعيون والإخوان المسلمون وغيرهم من المجموعات الاجتماعية بجعل المجالات السياسية والاجتماعية المختلفة أكثر راديكاليةً، وذلك لتعزيز برنامجهم المتطرف – وكانت كل مجموعة ترغب في إعادة تشكيل المجتمع مثلما يفعل الخَزّاف بيديه في الطين. إن الراديكالية في تعريف عالم الاجتماع والسياسة فيانر ودبلوز هي "عملية شخصية يتبنى فيها الأفراد مبادئ وقيم وتطلعات سياسية واجتماعية و/ أو دينية متطرفة؛ ويكون فيها بلوغ غايات معينة مسوغاً لاستخدام عنف عشوائي". وعلى الرغم من أن العنف الجسدي أو المادي لم يُؤَد دوراً في نضال تلك الحركات لتعزيز برامجهم بشأن قضية وحدة وادي النيل، إلا أنهم استخدموا العنف اللفظي في مطبوعاتهم، التي كانت موجهة بصورة خاصة ضد الإمبريالية البريطانية. وعندما أجهضت مصر – من جانب واحد – في أكتوبر من عام 1951م اتفاقية عام 1936م، تحولت تلك الجماعات المتطرفة – بصورة مؤقتة – للعنف المادي ببدء نضال مسلح ضد الأهداف البريطانية في منطقة قناة السويس، وكان ذلك بين نوفمبر 1951م ويناير 1952م.
وكانت كل الأطراف السياسية المصرية في غضون سنوات الملكية (1922 – 1952م) تتقبل من دون أدنى شك شعار "وحدة وادي النيل" بحسبانه أمراً بدهياً. وأدخلت الحكومات المصرية المتعاقبة ذلك الشعار باعتباره بنداً رئيسيا في برامجها السياسية. وكان إسماعيل صدقي هو رئيس الوزراء الوحيد في عهد ما قبل الثورة المصرية (في الفترة من فبراير 1946م إلى ديسمبر 1946م)، الذي كان أكثر واقعية من غيره، وكان على استعداد لتقديم بعض التنازلات في "مسألة السودان". وكانت مسودة الاتفاقية التي توصل إليها مع رئيس الوزراء البريطاني ارنست بيفن قد تضمنت اعتراف بريطانيا بسيادة مصرية رمزية على السودان. وكان ذلك الاعتراف هو أقصى ما حصلت عليه مصر من البريطانيين. غير أن النقد الحاد والديماغوجي الواسع الذي تلقاه صدقي من خصومه السياسيين، ومن حزب الوفد المعارض أفلح في إسقاطه من رئاسة الوزارة، وفي دفن تلك الاتفاقية من ناحية سياسية.
وتشدد البريطانيون في موقفهم من السودان بعد شكوى النقراشي لمجلس الأمن (بين يوليو 1947 وأغسطس 1947م). وصار البريطانيون بعد ذلك يؤيدون قيام حكم ذاتي للسودانيين، ويصرون على أن السودانيين هم وحدهم من سيقررون مصيرهم، سواءً أكان ذلك بالاستقلال التام، أو بنوع من الارتباط مع مصر، أو حتى اتحاد كامل معها. لذا رفض البريطانيون شكوى النقراشي التي ذكر فيها أن بريطانيا تسعى لـ "تحريض السودانيين للانفصال عن مصر". وعلى الرغم من أن النقراشي (1946 – 1948م) ومن خلفوه في رئاسة الوزارة كانوا قد وافقوا على إعداد السودان (بالاشتراك مع بريطانيا) للحكم الذاتي وحق تقرير المصير، إلا أنهم كانوا يصرون بأن مثل تلك الخطوة ستكون ضمن إطار الوحدة بين مصر والسودان تحت تاج مشترك. وأفضى فشل النقراشي في حشد المجتمع الدولي لصالح مصر واخفاقه في إجبار البريطانيين على إخلاء وادي النيل إلى توقف عرض "قضية السودان". ورفض من خلفوا النقراشي في رئاسة الوزارة المصرية القيام بأي محاولة للاتفاق مع بريطانيا تتضمن انفصال مصر عن السودان. وفي المقابل، عملت بريطانيا غاية وسعها كي تفصل السودان عن مصر – وكانت لها في ذلك المسعى أسبابها الخاصة ومصالحها الذاتية في إبقاء السودان دولة مستقلة عن مصر.
لقد كانت سياسة ومصالح بريطانيا تجاه مصر والسودان، ومصالحها في البلدين، مستمدة من مصالحها الاقتصادية والإستراتيجية الأوسع في الشرق الأوسط ومستعمراتها في أفريقيا. وقبل أن تتفكك الإمبراطورية البريطانية، كانت مصر (خاصة قناة السويس) والسودان يمثلان صلة حيوية في سلسلة طويلة من الأراضي التي كانت تحت السيطرة البريطانية، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، والتي كانت تحمي مصالحها في الهند التي تُعَدُّ هي "جوهرة التاج". غير أن التركيز على البلدين تغير في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. فمع بدء "الحرب الباردة"، عززت الرغبة في احتواء الخطة التوسعية السوفييتية المستقبلية في الشرق الأوسط وأفريقيا من الحيوية الاستراتيجية لوادي النيل. ويمكن في حالة مصر أن يعتمد البريطانيون مؤقتاً على اتفاقيتهم معهم في عام 1936م، التي كانت تسمح لبريطانيا بنشر قواتها العسكرية على طول قناة السويس لمدة عشرين عاماً. وكانت مصر دولةً مستقلة، بينما كان السودان عملياً دولة يحكمها البريطانيون. ويمكن لموقع السودان الجغرافي أن يكون له مزايا استراتيجية بالنظر إلى أن النيل يمر بأرضه، وهو شريان مصر الرئيس. وكانت سيطرة بريطانيا على السودان تعنى تحكمها في المركز العصبي المصري. وكانت فَرضِيّة بريطانيا هي أنه في حال وقوع نزاعات بريطانية - مصرية في المستقبل، سيكون على الحكومة المصرية أن تدرس مواقفها وأوضاعها تجاه بريطانيا بحذر شديد. غير أن البريطانيين كانوا على خطأ هذه المرة. فقد التزمت حكومة النقراشي (1950 – 1952م) سياسة محايدة تجاه ذلك الصراع، بل أجهضت اتفاقية 1936م سعياً لاتخاذ سياسة خارجية محايدة.
وكان البريطانيون يؤمنون بضرورة إقامة إدارة سياسية سودانية تعمل بالإنابة عنهم، وكان من اللازم عليهم لتحقيق ذلك الهدف تعزيز وتطوير الحكم الذاتي السوداني، والذي "سيعمل في حد ذاته ضد عودة المصريين إلى السودان"، كما قال البريطانيون. وإلى أن يتمكن السودانيون من حكم أنفسهم، كان من الضروري الحفاظ على ترتيبات الحكم الثنائي كما هي. لذلك حرصت بريطانيا على ضمان بقائها كطرف مهيمن، وإبعاد المصريين عن مراكز القوة، من خلال تقليص نفوذهم، ثقافياً واقتصادياً وسياسياً واجتماعياً. وباختصار، كان الهدف هو دق إسفين بين المصريين والسودانيين من خلال الدفاع عن الحكم الذاتي السوداني، وتعزيز هوية السودانيين الوطنية المنفصلة، بحيث يجعلونهم يفضلون في المدى البعيد بريطانيا على مصر كشريك أكبر لهم. وعمل البريطانيون على تعزيز وتطوير هوية جماعية / جامعة للسودانيين (collective Sudanese identity)، وشجعت عندهم ميولاً انفصالية عن مصر. وكانت إحدى وسائل تحقيق ذلك الهدف هو تنمية وتطوير وطنية سودانية انفصالية (هكذا! المترجم). ولذا كان على البريطانيين التركيز على تطوير ودعم ورعاية النظام التعليمي السوداني، الذي من شأنه أن يكون بمثابة حاضنة لظهور جيل جديد من النخب السياسية والاجتماعية ذات الرؤية الواضحة نحو بناء دولة وطنية / قومية مستقلة عن السيطرة الأجنبية. وصارت "سودنة" أكبر عدد ممكن من الوظائف الإدارية والعسكرية هي شعار بريطانيا الرسمي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وكما أتضح من الأحداث اللاحقة، فقد لقيت سياسة بريطانيا تلك الكثير من النجاح – وظهرت بالفعل وطنية سودانية. كيف نظر أهل النخبة المصرية إلى السودانيين والسودان؟ على الرغم من أنهم كانوا يتحدثون عنهم باعتبارهم "أخوة لهم حقوق متساوية" ويتقاسمون أرضاً مشتركة، إلا أنه كان من الواضح أنهم كانوا قد اتبعوا نهجاً استعلائياً في التعامل مع السودان والسودانيين. لقد اعتقدوا أن السودانيين يفضلون ربط مستقبلهم بمصر كدولة أكثر تقدماً وتطوراً؛ وأنه يمكن لمصر تلبية احتياجاتهم ومتطلباتهم وحمايتهم من أعدائهم في المستقبل. كانت مصر هي المنقذ للسودان: لقد أنقذت السودان من مصير "كل الشعوب الأفريقية الأخرى تقريباً، التي عانت من الاستغلال الأوروبي منذ تقسيم القارة السوداء"، بحسب ما ذكره كاتب مصري. وكانت كل التيارات السياسية المصرية (فيما عدا الشيوعيين) تأخذ رغبة السودانيين في الوحدة مع مصر، وعدم رغبتهم في أي بدائل أخرى كأمر مسلم به. وعلاوة على ذلك، فقد أكدت تلك التيارات السياسية المصرية بشكل مباشر على أن "من مصلحة السودان بشكل عام، وشعب مناطقه الجنوبية بشكل خاص أن يتم تحويل هذا الجزء من أعالي النيل إلى الإسلام".
وقد طعنت التيارات السياسية البريطانية من جميع الأطياف في مزاعم مصر بأن السودان هو جزء لا يتجزأ من مصر. واستمرت حكومة العمال الجديدة التي تولت السلطة في عام 1945م في سياسة سليفتها المحافظة تجاه السودان، بل وشددت اعتراضها على طلب مصر بوحدة وادي النيل. ونشرت الجمعية الفابية، التي كانت مرتبطة بحزب العمال، كتيباً عن السودان، جزمت فيه بشكل قاطع بأن السودانيين ليسوا مصريين؛ وأنه باستثناء شمال السودان في عهد الفراعنة، لم يكن السودان خاضعاً لسيطرة مصر قط. وكان أول زعيم مصري يحتل كل الأراضي السودانية هو محمد علي (1).
غير أن الخبراء والأكاديميين المصرين سخروا من تلك المزاعم، خاصة التي ذهبت إلى أن المصريين كانوا قد اعتدوا على الأراضي السودانية وتوسعوا فيها، وطردوا السكان الأصليين منها. وقال أولئك الخبراء والأكاديميون المصريون لو أن ذلك كان صحيحاً، فمن المتوقع أن تكون هنالك حدودا عرقية واضحة وثابتة، ومناطق ذات إثنيات مميزة – وهذا ليس موجوداً في السودان.
لقد ظل المصريون يقولون منذ عصر سحيق بأن السودان جزء لا يتجزأ من مصر. هل هذا صحيح تاريخياً؟ فكما رأينا، فإن مثل تلك الادعاءات هي موضع جدال بلا شك، وهنالك فجوات تاريخية ممتدة وعميقة في مسألة وجود مصر على الأراضي السودانية. غير أن هناك اتفاقاً بين المصريين وبريطانيا على أن مصر كانت قد ضمت السودان في بداية القرن التاسع عشر عقب غزو محمد علي – وقد كان ذلك احتلالا يقوم بصورة كاملة على دوافع وحسابات إمبريالية. ومن الجدير بالذكر أن العهد التركي - المصري لم يعمل على تعزيز تنمية السودان، بل إنه استغل البلاد اقتصادياً لعقود من الزمان حتى حدثت ثورة المهدي في ثمانينيات القرن التاسع عشر. وقد شهد السودان تطوراً أكثر أهمية في ظل الإدارة الحكم الثنائي (البريطاني – المصري).
غير أن الإمبرياليين ـ البريطانيين والمصريين ـ فشلا في تنمية ورعاية جنوب السودان على قدم المساواة مع شماله، وظل الجنوب مهملاً في جميع المجالات، وخاصة التعليم. والواقع أنه لم تكن هناك أسباب وطنية أو دولية، بخلاف الأسباب الإمبريالية، للربط بين الشمال الأكثر تقدماً والجنوب الأقل تقدماً. ولم يكن سكان وادي النيل من "نفس العرق واللغة والدين" على الإطلاق كما زعم المصريون في كثير من الأحيان. وعلى الرغم من أن العرب يشكلون أكبر مجموعة إثنية في شمال السودان، والإسلام هو دينها، إلا أن السودان – في مجمله – يتكون من مجموعات إثنية ودينية لها أصول مختلفة، وتتباين ثقافياً ودينياً. صحيح أنه كانت هناك أجزاء من السودان تُحكم بصورة مباشرة وغير مباشرة عن طريق سلالات مصرية في عصور ما قبل دخول الإسلام وبعده؛ إلا أنه سيكون من الخطأ تماماً الحديث عن سكان وادي النيل بحسبانهم شعباً واحداً، كما يصر على ذلك بقوة الساسة والمثقفون والكتاب والصحفيون المصريون، وغيرهم من دعاة وحدة وادي النيل (2).
لقد اُخْتُرِعَ شعار "وحدة وادي النيل" وتشكل في مصر في عهدها الملكي - من المفاهيم غير المفصلة وغير المتسقة لفترة ما بين الحربين العالميتين إلى الصياغات التفصيلية والمنهجية لسنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية. لقد كان مجتمعًا "خيالياً" وليس "متخيلًا"، وفقًا لمفهوم بينديكت أندرسون (3). ويؤدي "المجتمع المتخيل" بعض الوظائف لأن الأشخاص الذين يعيشون في نفس الوحدة الإدارية (عادةً الدولة) يتشاركون في تجارب حياتية متشابهة، أي أن حياتهم اليومية تتشكل من خلال واقع اقتصادي وسياسي واجتماعي متشابه. وكانت فكرة أندرسون تقوم على فرضية أن غالب السكان الذي يعيشون في داخل منطقة معينة يتشاركون في هوية واحدة تجمعهم. وعلى العكس من ذلك، كان الواقع الذي يشكل تجربة الحياة اليومية في مصر والسودان متنوعاً إلى حد كبير، ولم يكن معظم الناس الذين يعيشون في السودان يشاركون الرؤية المصرية لوادي النيل الموحد تحت التاج المصري.
لماذا قررت الحكومة المصرية الثورية التخلي عن شعار "وحدة وادي النيل"، والابتعاد عن ترديده فور إسقاط الملكية؟ ينبغي أن نتذكر حدوث عدد من الاختلافات والتصدعات في الإجماع المصري على "وحدة وادي النيل، وذلك قبل إسقاط حكم الملك فاروق بعدد من الأسابيع. وقد حدث ذلك بعد أن اعترضت الأحزاب السودانية على الغاء مصر – من جانب واحد – اتفاقية 1936م، ورفضها أيضاً للاعتراف بسلطة بريطانيا تحت تلك الظروف. وكانوا يرون أن إلغاء مصر لـ "الحكم الثنائي" سيخلق فراغاً في السلطة بالسودان. وكانت وزارة أحمد نجيب الهلالي (التي عُيِّنَتْ بأمر ملكي في يوم 22 يوليو 1952م. المترجم) هي الوزارة المصرية الأولى التي توصلت لاتفاق مع رجال الحركة الوطنية السودانية حول مستقبل بلادهم. وفي يوم 23 يوليو تولى الحكم نظام عسكري كان مصمماً على الوصول لاتفاق مع الوطنيين السودانيين. وأفضي موقف الضباط الأحرار الذي تميز بالبراغماتية والواقعية خلال تلك المفاوضات مع الوفد السوداني للوصول إلى حل هجروا فيه شعار "وحدة وادي النيل".
لقد ارتبط شعار "وحدة وادي النيل" تاريخيا بسلالة محمد علي التي حكمت السودان بعد 1821م، وارتبط بأكثر من ذلك بالملك المعزول والمكروه فاروق. لقد أعلن الضباط الأحرار صراحة أنهم يريدون استئصال كل رموز وآثار الملكية ـ وكانت إحدى تلك الرموز هي "وحدة وادي النيل تحت التاج المصري". لقد أدركوا أن كسب الدعم الدولي لمطلبهم بانسحاب القوات البريطانية من مصر يتطلب تنازلات جوهرية في السودان. وفي حين أنهم انتهجوا خطاً صارماً وغير قابل للتنازل طوال فترة المحادثات البريطانية - المصرية بشأن تحرير مصر دون شروط ـ إلا أنهم أظهروا استعدادهم للتنازل عن مطالبهم بشأن السودان، وهو موقف سياسي واقعي (realpolitik) معتدل سرعان ما مهد الطريق لاتفاقية بريطانية - مصرية بشأن السودان في فبراير 1953م. وكان قد سبق أن وقعوا اتفاقا في 19 أكتوبر 1952 بين الحكومة المصرية بقيادة اللواء محمد نجيب، وممثلين لحزب الأمة وأحزاب سودانية أخرى كانت تنادي باستقلال تام للسودان. وكانت تلك هي المرة الأولى التي تعترف فيها مصر بحق السودانيين في تقرير مصيرهم، وبحقهم في الحكم الذاتي – وكان هذا يعني انتهاء الحكم الثنائي.
لقد كان النظام الثوري الجديد، وخاصة جمال عبد الناصر (أقوى شخصية فيه) يؤمن بضرورة أن تُوَاجَه مسألة السودان بمنهج مختلف – ليس من موقف متعالٍ ومُتفضَّل، بل من موقف يقوم على المساواة والاحترام المتبادل. وبهذا توصلت مصر لتفاهم مع السودانيين لأنهم قدروا أن إسقاطهم للملك فاروق (الذي كان يعارض بشدة أي اتفاق مع السودانيين)، واستعدادهم لمنح الشعب السوداني حق تقرير المصير سوف يعمل بدوره على تحسين فرص قبول السودانيين في نهاية المطاف بالوحدة مع مصر. غير أنه سرعان ما تبين للقيادة المصرية أن تقديراتهم كانت خاطئة تماماً؛ فقد استجاب إسماعيل الأزهري (وهو السياسي الذي كان يتزعم المنادين بوحدة وادي النيل، ورئيس وزراء السودان المنتخب حديثاً - بين عامي 1954 و1956م-) بصورة براغماتية للحقائق المتغيرة على الأرض، وآثر الوقوف في صف المنادين بالاستقلال التام. وانتصر البريطانيون في نهاية المطاف، بعد أن عملوا بقوة ونشاط على إفساد وتخريب خطة مصر في عهدها الملكي لضم السودان تحت التاج المصري. غير أن انتصارهم كان قصير الأجل. فقد أعلن السودان عن استقلاله في الأول من يناير 1956م، منهياً بذلك كل تلاعب ومناورات البريطانيين في وادي النيل.
لقد انتهت اللعبة بالنسبة للقوى الإمبريالية المتنافسة، سواء الإقليمية أو العالمية. وفي حالة بريطانيا، كان هذا جزءًا لا يتجزأ من عملية تفكك إمبراطورية عالمية. وفي الحالة المصرية، كان هذا بمثابة تحطيم حلم ظل يراود قلوب المصريين لعقود من الزمان. وبالنسبة لأولئك الذين ظلوا يحلمون بوحدة وادي النيل، كان التقارب بين الرئيسين أنور السادات وجعفر نميري قد دفعهما إلى الإعلان عن ميثاق للتكامل بين بلديهما في عام 1974م، لم يتم توقيعه رسمياً إلا في عام 1981م (4) وكان ذلك بمثابة حلم تحقق. وكان من المفروض – بحسب نصوص ذلك الميثاق - أن يتعاون البلدان تعاوناً وثيقاً في عدد من المجالات المختلفة، يقود في نهاية المطاف لوحدة كاملة بينهما. غير أن ذلك المشروع الوحدوي تحطم عقب إسقاط نظام نميري في 1985م.
*********** *********
إحالات مرجعية
1/ يمكن النظر في مقال مترجم بعنوان "سودان الأربعينيات بعيون الجمعية الفابية البريطانية" في هذا الرابط https://shorturl.at/McHJp
2/ استشهد الكاتب هنا بالضابط المصري حسين صبري الذي كان قد عمل بالسودان من عام 1949 حتى توقيع اتفاقية فبراير 1953م، وكان يعارض شعار "وحدة وادي النيل" في كتابه الموسوم "سيادة السودان"، حيث كتب ما يفيد بأن "مصر التاريخية كانت دائما منفصلة ومنعزلة عن العالم الخارجي: مجتمع محصور ومحدد بدقة".
3/ بينديكت أندرسون Bendict Anderson (1935 – 2015م) هو مؤرخ وعالم سياسة إيرلندي – إنجليزي، ولد في الصين وتوفي في أندونيسيا. كان قد عارض الإمبريالية إبان "أزمة السويس". https://shorturl.at/MXEFC
4/ تم التوقيع على "ميثاق التكامل" في 12 من أكتوبر عام 1982م بحسب ما أوردته الهيئة العامة للاستعلامات المصرية https://shorturl.at/j8jFh


alibadreldin@hotmail.com

 

 

آراء