دور الشكرية فى ثورة 1924
رائد مهندس محمد احمد ادريس
13 September, 2024
13 September, 2024
بسم الله الرحمن الرحيم
بقلم: رائد مهندس محمد احمد ادريس
ganaboo@gmail.com
فيما يلى نورد قصة تثبت مشاركة بعض ابناء قبيلة الشكرية فى ثورة 1924 . وهو ما ينفى انها كانت ثورة قام بها قطاع عنصرى من الجيش السودانى يومها .وموقف بعض النخبة السياسية منها معروف واقل ما يقال عنه انه موقف غير وطنى . القصة اوردها على ابوعاقلة أبوسن فى كتابه (المجذوب والذكريات ...الجزء الثانى)صفحة202. وقد سالت الوالد عن أحمد العربى فذكر انه من الشكرية النوراب .لكن الاخ ابراهيم رانفى من النوراب نفى معرفته به .كتب علي اب سن:(حكاية بهية.. الشكرية المصرية
ليس من بين أصدقائى من كان يحتفى بقصص وحكايات الشكرية، ويعتبرها تاريخا من التاريخ، أو قَبَسَاً من نُور الذِّكر، مثل المجذوب. وحينما حدثته - أثناء زيارته للقاهرة - عن بهيّة الشكريّة المصرية، جعل يأسي على تاريخ السودان، وقال ما يشبه قولة الشاعر الرئيس، ليوبولد سنجور مع موت كل إفريقي، يموت تاريخ لأن التاريخ الأفريقى شفهي غير مكتوب!! وحكاية بهيّة تشبه الأحاجي، والأساطير.
إبان ثورة سنة ۱۹۲٤ ، كان " أحمد العربي " جنديا في الجيش المصرى. وقد أشترك فى المعارك وجرح، فأخذه ضباط الجيش المصرى إلى داخل معسكرهم، ثمّ لما تقرر خروج الجيش المصرى من السودان، بعد مقتل سير لي ستاك، لفه ضابط مصري صديق فى " مهماته العسكرية، ودخل به إلى القطار وكأنه من ضمن عفشه حماية له من جنود الاحتلال الأنجليزى الذين كانوا يرقبون أنسحاب الجيش المصرى عن كتب وحينما وصلوا إلى القاهرة قال له صديقه المصرى أن مصر نفسها أصبحت تحت الاحتلال الأنجليزي، ولا سبيل إلى سلامته إلا في الأرياف. كان أحمد العربي على معرفة بشيئ من الفقه والدين بطريقة " الفقرا " السودانيين - وهو أول، وآخر " فقير " شكرى أسمع به في حياتي !! فأصبح " شيخا " في الريف المصرى، يجوبه من أقصاه إلى أقصاه، وأصبحت له مكانة وسمعة طيبة، وهو يخفى سره عن كل الناس. وانقطعت صلته بالسودان تماما، ولكنّه ظل على صلة بأهل صديقه الضابط المصري في الأرياف، يزورهم من طرف خفى من حين لآخر، دون أن يعرفوا حقيقة قصته، خوفا من جواسيس الأنجليز المنتشرين فى كل مكان. ثم تزوج من أسرة صديقه الضابط المصرى، وأنجب من زوجته بنتا أسماها " بهيّة ". ولكن... بعد ميلادها بأشهر أصابته علّة شديدة، ولما شعر بأقتراب النهاية كتب ورقة لابنته يحكى فيها قصته، ويعرفها بنفسه وأصله وقبيلته، وذكر في الورقة، إلى جانب والده وأخوته، أسماء معاصريه من زعماء القبيلة آل أبوسن.
وتكبر بهيّة بين أخوالها وخالاتها وتصبح مع مرور السنين ونسيان الورقة، فتاة مجهولة الأصل، خرجت من صلب شیخ سوداني لا يعرف أحد من أين جاء، ولا كيف جاء. وكانت أمها قد تزوجت من خطيبها السابق، أبن خالتها، الذي حرموه منها حينما طلبها الشيخ أحمد العربي، صاحب الكرامات الذي لا يرد له طلب وخلال تعليمها وتحركها في المجتمع كانت بهيّة تشعر أنها وحيدة، بلا أخ أو أخت، مجهولة بلا أهل أو نسب.
زاد عذابها مع نمو عودها، واكتمال أنوثتها ، وأصبح أمر الزواج مشلكة واضحة وهى فى المرحلة الثانوية فمن الذى سيتزوج فتاة لا يعرف أحد أهل والدها. وبينما كانوا يستعدون للأنتقال من الأرياف إلى الأسكندرية، وجدت الأم الورقة التي تركها زوجها السابق، والد بهية في قاع " سحارتها " العتيقة، وسلّمتها لبهية التى جعلتها هم حياتها. ولكن.. أين هو السودان؟ وكيف تصل فتاة بمفردها ألى من تسأله عن هذه الأسماء التي في الورقة.. ثم ما هو الضمان أن يكون أهل أبيها ممن سيشرقها الأنتماء اليهم ؟ أسئلة كثيرة ، لم تجد أجابة عليها حتى أكملت دراستها الثانوية، ثم التحقت بمدرسة عليا للتمريض وعملت " حكيمة مدرسة " في إحدى مدارس البنات بالأسكندرية.
ثم بدأت تسمع أخبار السودان مع نمو الحركة الوطنية، وحرصت على متابعتها وهي خائفة قلقة. هل أهلها فعلا موجودون ؟ هل هناك من يعرفهم ؟ حتى قرأت في الأهرام في أحد أيام سنة ١٩٥٣ أن زعماء السودان وصلوا إلى مصر لمفاوضات تقرير المصير، وأن أحد هؤلاء الزعماء أسمه: محمد حمد أبوسن. وبينما كانت تحاول أن تطير إلى القاهرة جاءتها مفاجأة أخرى بأن الوفد قادم إلى الأسكندرية.
في قصر رأس التين، مقر إقامة الوفد، دخل أحد موظفى الأستقبال وقال للشيخ محمد حمد أبوسن أن فتاة بالخارج تريد مقابلتك، وتقول أنّها أبنة عمك .! ذهل شيخ العرب.. أبنة عمّى أنا في الأسكندرية؟ هل هي سودانية ؟ قال الموظف: لا أنها مصرية. وزادت حيرة شيخ العرب وكان معه صديقه الشيخ محمد أبراهيم فرح ناظر الجعليين، الذي أصر على الخروج معه إلى الأستقبال لاستبانة الأمر.
وفى الأستقبال رأى فتاة مصرية تلبس فستانا أنيقا، تتقدم نحوه في حياء وتحييه. وبعد السلام المتشكك المستريب من شيخ العرب، مدت الفتاة الورقة التي تركها والدها وقالت أنا بنت الراجل اللى كتب الورقة دى. قرأ شيخ العرب الورقة، وظهرت علامات الدهشة والأستغراب على وجهه، فمدَّها للشيخ محمد ابراهيم فرح الذى نظر الى شيخ العرب منتظرا تعليقه على هذه الورقة الغريبة. قال شيخ العرب لبهية أنه يعرف جميع إعمامها المذكورين في هذه الورقة، وهم من الفروع المعروفة في الشكرية، ولكنه لا يعرف والدها ولم يسمع به. واعترف لها بأن كاتب هذه الورقة يعرف جميع آل أبوسن ويذكر أهله بوضوح ولكنّه طلب منها أن تمنحه فرصة حتى يعود إلى السودان، ويسأل آل العربي عن والدها.
وفعلا، أرسل شيخ العرب بمجرد عودته إلى القضارف في طلب أعمامها من البطانة وسألهم عما إذا كان لهم أخ أسمه أحمد لم يعرفه هو ؟ قالوا أن أحمد كان أخاهم الأكبر، وأنّه مات في أحداث الخرطوم سنة الحرب بين أولاد البلد والأنجليز . فأخرج الورقة وقرأ عليهم ما فيها كانت بالنسبة لأهل البطانة مفاجأة من نوع غير عادي. فليس فى البطانة مفقودون . هناك يعرفون مصير كل حی، متى مات وكيف مات، وأين دفن ؟ ومن يغادرها فلن تنقطع صلته بها ما دام على قيد الحياة. وفى نهاية الحديث أبدوا رغبتهم فى أن يشاهدوا أبنة أخيهم.
حينما أزمعت السفر إلى مصر سنة ١٩٥٤ ، كلفني عمّى محمد حمد أن أبلغ رسالة إلى الشكرية - المصرية بهية، بأن كل ما ورد في ورقة أبيها صحيح، وأن الأمر متروك لها إذا رغبت في زيارة أهلها، والجميع يرحبون بزيارتها. لن أنسى وقع هذه الرسالة على بهية وأهلها أل نصير خاصة اللواء . عبدالمجید نصیر و زوجته فاتنانت،هانم، وأولاده مصطفى ومحمد وجميل ومنير وفيفي. لقد طاروا فرحا لبهية التي وجدت أهلها، وجعلوني موضع تكريمهم وأعزازهم بصورة أذهلتني، خاصة حينما أخذوني إلى بلاج " جليم " حيث وجدت نفسى الوحيد الذي يتفرج عليه الناس لأنّه " لابس هدومه في البلاج !! ".. كان الجميع بالمايوه والبيكيني. قضيت مع بهيّة ووالدتها الرائعة وآل نصير أسبوعين في الأسكندرية ظلاً يُدِران في حلقى طعما فريدا للذكريات حتى هذه اللحظة. ذلك وبسبب الطعم كان حرصي الدائم على أن يكون لى سكن فى الأسكندرية ، وفى سيدى بشر بالذات حيث كانت " فيلا" نصير " ولكننى حينما حققت ذلك في التسعينات كانت موضة البلاج قد أصبحت هي الأستحمام بالجلابية
عدت إلى السودان ومعى بهيّة الشكرية - المصرية. ومن الخرطوم توجهنا فورا إلى القضارف، حيث حضر أعمام بهية وأبناء عمها من البطانة ليروا أبنة شقيقهم. كان منظراً فريداً ذلك الذي شاهدته في ديوان الشيخ محمد حمد أناخ فرسان البطانة أبلهم أمام الدار ، ونزلوا محتقبين سيوفهم، وفى أيديهم كرابيج سفر الأبل طوال القامات عليهم وعثاء السفر. وقفوا في حوش الدار ولم يجلسوا في أعينهم ترقب الحائر المستريب، وحنين عودة الغائب الغريب. ولم أرَ منظرا كيومها، حينما ظهرت بهيّة بفستانها الأنيق ولونها الأبيض الممكيج، ليقول شيخ العرب لكل " أخى سفر، جواب أرض تقاذفت به فلوات، فهو أشعث أغبر : هذه أبنة أخيكم أحمد رحمه الله نقلت نظرى بسرعة بين وجه بهية ووجوه
أعمامها وأولاد أعمامها فوجئ كلٌّ منهما بالآخر، وبالرغم من نظرات الحنين كان التواصل مستحيلا. حتى مدّ الأكف وطريقة السلام كانت بمعاناة شديدة. وحينما عادت بهية إلى داخل الدار، رأيت نظرة الحزن في وجوه فرسان الشكرية، تظلّلها حيرة الحياة. ولولا حنكة وحكمة ذلك العظيم الفريد محمد حمد أبوسن لأفلت الموقف. جاء أبناء عم بهية بفكرة الزواج من بنت عمهم، إن أمكن، ولكن المنظر بدل كل شيئ. وجاءت هي بفكرة أحتمال الأرتباط بهم، ولكن المنظر أوقف كل شيئ.
كان على أن أبلغ عمّى برسالة من مناقشات أهل بهية في مصر فحواها إذا كان لبهية أية حقوق في أرض أو مال، فسيكون من العدل أن تأخذ نصيبها لأنها وحيدة. وفي نفس تلك اللحظة نقل عمى الرسالة إلى أعمام بهية. فكان ردّهم أما الأرض، فلها أن تحوز من أرض البطانة ناحيتنا ما تشاء. وأمّا المال، فمالنا هو الأبل والبقر والضأن ولن نبخل عليها ، فاحكم يا شيخ العرب بما ترى. وحينما أدركت بهية أن أرض 1 طانة ليس فيها مدينة تشبه حتى القضارف، دعك عن الأسكندرية، اكتفت بالنصيب الذي قرره لها أهلها، وبالمنزل الذي ورثته عن الرجل الشهم الذى منحها طمأنينة الأنتماء، الشيخ أحمد حمد أبوسن، الذي تزوجها برا بها وإحسانا إليها.
وما زلت أعجب كيف اختارت بهية ترك منزلها ووظيفتها ومدينتها الفريدة، لتعيش في القضارف. ليس هذا فحسب، وإنّما أخذت معها أخاها من أمها، الطفل " مختار " وسودنته هناك إلى غير رجعة، وهو الآن سوداني ومتزوج من سودانية وأولاده فى مختلف المراحل المدرسية.
وقصة بهية ومختار نموذج لطبيعة تركيبة شعب وادى النيل، وهي نموذج
من ملايين النماذج التى لم يتح لها أن يكتبها التاريخ.
سنة ۱۹۷۹، زرت القضارف منزل بهية ما زال يمتاز بلمسة حضارية.
ومع ذلك، أين هي مما كانت فيه ؟ قلت لها أشعر أنني جنيت عليك حينما أصطحبتك إلى السودان ما رأيك ؟ أريد أن أصلح غلطتي. سأقدم لك تذكرة طائرة هدية مني لكي ترجعي إلى مصر وتعيشى مع " فيفي " التي تزوجت وطلقت، وما زالت في فيلا نصير وافقت وجاءت إلى مصر، بالثوب السوداني هذه المرة، وبعد أشهر عادت الى القضارف. قالت لي: لم أستطع مفارقة أهلى بالقضارف!!
وقد سعدت بعد طول أغتراب في أوروبا، أن أكتشف أن مدام فاتنانت كانت ما زالت على قيد الحياة في أواخر الثمانينات مع ابنها جميل، وكان استقبالهم لي بنفس الحب والوفاء الذى عرفته وأنا في سنة أولى حب.. في الخمسينات وما زال صديقي منير نصير وزوجته سعاد وأبناؤهما على ود باق دائم. )...انتهت القصة كما اوردها المرحوم على ابوعاقلة أبوسن فى كتابه (المجذوب والذكريات ...الجزء الثانى)صفحة202 ...القصة ربما تصلح ايضا كمقدمة للقاء الشكرية والحلفاويين فى مشروع حلفا الجديدة ...ومثل هذه القصة فى الحياة كثير...لا شك ان يد التحليل ستمتد لفحوها وسيشرق اقوام ويغرب اخرين. رحم الله الاموات ومتع الاحياء بالصحة والعافية .
وغير ذلك من قصص مصدرها السماع.. يقول رب العزة جل جلاله فى سورة هود ( تِتلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ ۖ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَٰذَا ۖ فَاصْبِرْ ۖ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ(49) ويقول عز من قائل في سورة يوسف الاية 81(وَمَا شَهِدْنَآ إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَٰفِظِينَ)... للمزيد على الرابط
https://www.facebook.com/groups/349616619751830/permalink/1279045686808914/
ganaboo@gmail.com
بقلم: رائد مهندس محمد احمد ادريس
ganaboo@gmail.com
فيما يلى نورد قصة تثبت مشاركة بعض ابناء قبيلة الشكرية فى ثورة 1924 . وهو ما ينفى انها كانت ثورة قام بها قطاع عنصرى من الجيش السودانى يومها .وموقف بعض النخبة السياسية منها معروف واقل ما يقال عنه انه موقف غير وطنى . القصة اوردها على ابوعاقلة أبوسن فى كتابه (المجذوب والذكريات ...الجزء الثانى)صفحة202. وقد سالت الوالد عن أحمد العربى فذكر انه من الشكرية النوراب .لكن الاخ ابراهيم رانفى من النوراب نفى معرفته به .كتب علي اب سن:(حكاية بهية.. الشكرية المصرية
ليس من بين أصدقائى من كان يحتفى بقصص وحكايات الشكرية، ويعتبرها تاريخا من التاريخ، أو قَبَسَاً من نُور الذِّكر، مثل المجذوب. وحينما حدثته - أثناء زيارته للقاهرة - عن بهيّة الشكريّة المصرية، جعل يأسي على تاريخ السودان، وقال ما يشبه قولة الشاعر الرئيس، ليوبولد سنجور مع موت كل إفريقي، يموت تاريخ لأن التاريخ الأفريقى شفهي غير مكتوب!! وحكاية بهيّة تشبه الأحاجي، والأساطير.
إبان ثورة سنة ۱۹۲٤ ، كان " أحمد العربي " جنديا في الجيش المصرى. وقد أشترك فى المعارك وجرح، فأخذه ضباط الجيش المصرى إلى داخل معسكرهم، ثمّ لما تقرر خروج الجيش المصرى من السودان، بعد مقتل سير لي ستاك، لفه ضابط مصري صديق فى " مهماته العسكرية، ودخل به إلى القطار وكأنه من ضمن عفشه حماية له من جنود الاحتلال الأنجليزى الذين كانوا يرقبون أنسحاب الجيش المصرى عن كتب وحينما وصلوا إلى القاهرة قال له صديقه المصرى أن مصر نفسها أصبحت تحت الاحتلال الأنجليزي، ولا سبيل إلى سلامته إلا في الأرياف. كان أحمد العربي على معرفة بشيئ من الفقه والدين بطريقة " الفقرا " السودانيين - وهو أول، وآخر " فقير " شكرى أسمع به في حياتي !! فأصبح " شيخا " في الريف المصرى، يجوبه من أقصاه إلى أقصاه، وأصبحت له مكانة وسمعة طيبة، وهو يخفى سره عن كل الناس. وانقطعت صلته بالسودان تماما، ولكنّه ظل على صلة بأهل صديقه الضابط المصري في الأرياف، يزورهم من طرف خفى من حين لآخر، دون أن يعرفوا حقيقة قصته، خوفا من جواسيس الأنجليز المنتشرين فى كل مكان. ثم تزوج من أسرة صديقه الضابط المصرى، وأنجب من زوجته بنتا أسماها " بهيّة ". ولكن... بعد ميلادها بأشهر أصابته علّة شديدة، ولما شعر بأقتراب النهاية كتب ورقة لابنته يحكى فيها قصته، ويعرفها بنفسه وأصله وقبيلته، وذكر في الورقة، إلى جانب والده وأخوته، أسماء معاصريه من زعماء القبيلة آل أبوسن.
وتكبر بهيّة بين أخوالها وخالاتها وتصبح مع مرور السنين ونسيان الورقة، فتاة مجهولة الأصل، خرجت من صلب شیخ سوداني لا يعرف أحد من أين جاء، ولا كيف جاء. وكانت أمها قد تزوجت من خطيبها السابق، أبن خالتها، الذي حرموه منها حينما طلبها الشيخ أحمد العربي، صاحب الكرامات الذي لا يرد له طلب وخلال تعليمها وتحركها في المجتمع كانت بهيّة تشعر أنها وحيدة، بلا أخ أو أخت، مجهولة بلا أهل أو نسب.
زاد عذابها مع نمو عودها، واكتمال أنوثتها ، وأصبح أمر الزواج مشلكة واضحة وهى فى المرحلة الثانوية فمن الذى سيتزوج فتاة لا يعرف أحد أهل والدها. وبينما كانوا يستعدون للأنتقال من الأرياف إلى الأسكندرية، وجدت الأم الورقة التي تركها زوجها السابق، والد بهية في قاع " سحارتها " العتيقة، وسلّمتها لبهية التى جعلتها هم حياتها. ولكن.. أين هو السودان؟ وكيف تصل فتاة بمفردها ألى من تسأله عن هذه الأسماء التي في الورقة.. ثم ما هو الضمان أن يكون أهل أبيها ممن سيشرقها الأنتماء اليهم ؟ أسئلة كثيرة ، لم تجد أجابة عليها حتى أكملت دراستها الثانوية، ثم التحقت بمدرسة عليا للتمريض وعملت " حكيمة مدرسة " في إحدى مدارس البنات بالأسكندرية.
ثم بدأت تسمع أخبار السودان مع نمو الحركة الوطنية، وحرصت على متابعتها وهي خائفة قلقة. هل أهلها فعلا موجودون ؟ هل هناك من يعرفهم ؟ حتى قرأت في الأهرام في أحد أيام سنة ١٩٥٣ أن زعماء السودان وصلوا إلى مصر لمفاوضات تقرير المصير، وأن أحد هؤلاء الزعماء أسمه: محمد حمد أبوسن. وبينما كانت تحاول أن تطير إلى القاهرة جاءتها مفاجأة أخرى بأن الوفد قادم إلى الأسكندرية.
في قصر رأس التين، مقر إقامة الوفد، دخل أحد موظفى الأستقبال وقال للشيخ محمد حمد أبوسن أن فتاة بالخارج تريد مقابلتك، وتقول أنّها أبنة عمك .! ذهل شيخ العرب.. أبنة عمّى أنا في الأسكندرية؟ هل هي سودانية ؟ قال الموظف: لا أنها مصرية. وزادت حيرة شيخ العرب وكان معه صديقه الشيخ محمد أبراهيم فرح ناظر الجعليين، الذي أصر على الخروج معه إلى الأستقبال لاستبانة الأمر.
وفى الأستقبال رأى فتاة مصرية تلبس فستانا أنيقا، تتقدم نحوه في حياء وتحييه. وبعد السلام المتشكك المستريب من شيخ العرب، مدت الفتاة الورقة التي تركها والدها وقالت أنا بنت الراجل اللى كتب الورقة دى. قرأ شيخ العرب الورقة، وظهرت علامات الدهشة والأستغراب على وجهه، فمدَّها للشيخ محمد ابراهيم فرح الذى نظر الى شيخ العرب منتظرا تعليقه على هذه الورقة الغريبة. قال شيخ العرب لبهية أنه يعرف جميع إعمامها المذكورين في هذه الورقة، وهم من الفروع المعروفة في الشكرية، ولكنه لا يعرف والدها ولم يسمع به. واعترف لها بأن كاتب هذه الورقة يعرف جميع آل أبوسن ويذكر أهله بوضوح ولكنّه طلب منها أن تمنحه فرصة حتى يعود إلى السودان، ويسأل آل العربي عن والدها.
وفعلا، أرسل شيخ العرب بمجرد عودته إلى القضارف في طلب أعمامها من البطانة وسألهم عما إذا كان لهم أخ أسمه أحمد لم يعرفه هو ؟ قالوا أن أحمد كان أخاهم الأكبر، وأنّه مات في أحداث الخرطوم سنة الحرب بين أولاد البلد والأنجليز . فأخرج الورقة وقرأ عليهم ما فيها كانت بالنسبة لأهل البطانة مفاجأة من نوع غير عادي. فليس فى البطانة مفقودون . هناك يعرفون مصير كل حی، متى مات وكيف مات، وأين دفن ؟ ومن يغادرها فلن تنقطع صلته بها ما دام على قيد الحياة. وفى نهاية الحديث أبدوا رغبتهم فى أن يشاهدوا أبنة أخيهم.
حينما أزمعت السفر إلى مصر سنة ١٩٥٤ ، كلفني عمّى محمد حمد أن أبلغ رسالة إلى الشكرية - المصرية بهية، بأن كل ما ورد في ورقة أبيها صحيح، وأن الأمر متروك لها إذا رغبت في زيارة أهلها، والجميع يرحبون بزيارتها. لن أنسى وقع هذه الرسالة على بهية وأهلها أل نصير خاصة اللواء . عبدالمجید نصیر و زوجته فاتنانت،هانم، وأولاده مصطفى ومحمد وجميل ومنير وفيفي. لقد طاروا فرحا لبهية التي وجدت أهلها، وجعلوني موضع تكريمهم وأعزازهم بصورة أذهلتني، خاصة حينما أخذوني إلى بلاج " جليم " حيث وجدت نفسى الوحيد الذي يتفرج عليه الناس لأنّه " لابس هدومه في البلاج !! ".. كان الجميع بالمايوه والبيكيني. قضيت مع بهيّة ووالدتها الرائعة وآل نصير أسبوعين في الأسكندرية ظلاً يُدِران في حلقى طعما فريدا للذكريات حتى هذه اللحظة. ذلك وبسبب الطعم كان حرصي الدائم على أن يكون لى سكن فى الأسكندرية ، وفى سيدى بشر بالذات حيث كانت " فيلا" نصير " ولكننى حينما حققت ذلك في التسعينات كانت موضة البلاج قد أصبحت هي الأستحمام بالجلابية
عدت إلى السودان ومعى بهيّة الشكرية - المصرية. ومن الخرطوم توجهنا فورا إلى القضارف، حيث حضر أعمام بهية وأبناء عمها من البطانة ليروا أبنة شقيقهم. كان منظراً فريداً ذلك الذي شاهدته في ديوان الشيخ محمد حمد أناخ فرسان البطانة أبلهم أمام الدار ، ونزلوا محتقبين سيوفهم، وفى أيديهم كرابيج سفر الأبل طوال القامات عليهم وعثاء السفر. وقفوا في حوش الدار ولم يجلسوا في أعينهم ترقب الحائر المستريب، وحنين عودة الغائب الغريب. ولم أرَ منظرا كيومها، حينما ظهرت بهيّة بفستانها الأنيق ولونها الأبيض الممكيج، ليقول شيخ العرب لكل " أخى سفر، جواب أرض تقاذفت به فلوات، فهو أشعث أغبر : هذه أبنة أخيكم أحمد رحمه الله نقلت نظرى بسرعة بين وجه بهية ووجوه
أعمامها وأولاد أعمامها فوجئ كلٌّ منهما بالآخر، وبالرغم من نظرات الحنين كان التواصل مستحيلا. حتى مدّ الأكف وطريقة السلام كانت بمعاناة شديدة. وحينما عادت بهية إلى داخل الدار، رأيت نظرة الحزن في وجوه فرسان الشكرية، تظلّلها حيرة الحياة. ولولا حنكة وحكمة ذلك العظيم الفريد محمد حمد أبوسن لأفلت الموقف. جاء أبناء عم بهية بفكرة الزواج من بنت عمهم، إن أمكن، ولكن المنظر بدل كل شيئ. وجاءت هي بفكرة أحتمال الأرتباط بهم، ولكن المنظر أوقف كل شيئ.
كان على أن أبلغ عمّى برسالة من مناقشات أهل بهية في مصر فحواها إذا كان لبهية أية حقوق في أرض أو مال، فسيكون من العدل أن تأخذ نصيبها لأنها وحيدة. وفي نفس تلك اللحظة نقل عمى الرسالة إلى أعمام بهية. فكان ردّهم أما الأرض، فلها أن تحوز من أرض البطانة ناحيتنا ما تشاء. وأمّا المال، فمالنا هو الأبل والبقر والضأن ولن نبخل عليها ، فاحكم يا شيخ العرب بما ترى. وحينما أدركت بهية أن أرض 1 طانة ليس فيها مدينة تشبه حتى القضارف، دعك عن الأسكندرية، اكتفت بالنصيب الذي قرره لها أهلها، وبالمنزل الذي ورثته عن الرجل الشهم الذى منحها طمأنينة الأنتماء، الشيخ أحمد حمد أبوسن، الذي تزوجها برا بها وإحسانا إليها.
وما زلت أعجب كيف اختارت بهية ترك منزلها ووظيفتها ومدينتها الفريدة، لتعيش في القضارف. ليس هذا فحسب، وإنّما أخذت معها أخاها من أمها، الطفل " مختار " وسودنته هناك إلى غير رجعة، وهو الآن سوداني ومتزوج من سودانية وأولاده فى مختلف المراحل المدرسية.
وقصة بهية ومختار نموذج لطبيعة تركيبة شعب وادى النيل، وهي نموذج
من ملايين النماذج التى لم يتح لها أن يكتبها التاريخ.
سنة ۱۹۷۹، زرت القضارف منزل بهية ما زال يمتاز بلمسة حضارية.
ومع ذلك، أين هي مما كانت فيه ؟ قلت لها أشعر أنني جنيت عليك حينما أصطحبتك إلى السودان ما رأيك ؟ أريد أن أصلح غلطتي. سأقدم لك تذكرة طائرة هدية مني لكي ترجعي إلى مصر وتعيشى مع " فيفي " التي تزوجت وطلقت، وما زالت في فيلا نصير وافقت وجاءت إلى مصر، بالثوب السوداني هذه المرة، وبعد أشهر عادت الى القضارف. قالت لي: لم أستطع مفارقة أهلى بالقضارف!!
وقد سعدت بعد طول أغتراب في أوروبا، أن أكتشف أن مدام فاتنانت كانت ما زالت على قيد الحياة في أواخر الثمانينات مع ابنها جميل، وكان استقبالهم لي بنفس الحب والوفاء الذى عرفته وأنا في سنة أولى حب.. في الخمسينات وما زال صديقي منير نصير وزوجته سعاد وأبناؤهما على ود باق دائم. )...انتهت القصة كما اوردها المرحوم على ابوعاقلة أبوسن فى كتابه (المجذوب والذكريات ...الجزء الثانى)صفحة202 ...القصة ربما تصلح ايضا كمقدمة للقاء الشكرية والحلفاويين فى مشروع حلفا الجديدة ...ومثل هذه القصة فى الحياة كثير...لا شك ان يد التحليل ستمتد لفحوها وسيشرق اقوام ويغرب اخرين. رحم الله الاموات ومتع الاحياء بالصحة والعافية .
وغير ذلك من قصص مصدرها السماع.. يقول رب العزة جل جلاله فى سورة هود ( تِتلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ ۖ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَٰذَا ۖ فَاصْبِرْ ۖ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ(49) ويقول عز من قائل في سورة يوسف الاية 81(وَمَا شَهِدْنَآ إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَٰفِظِينَ)... للمزيد على الرابط
https://www.facebook.com/groups/349616619751830/permalink/1279045686808914/
ganaboo@gmail.com