ديالكتيك لزماننا احمد سليمان المحامي.. التخلّص من أوهام التقدم
طاهر عمر
19 September, 2024
19 September, 2024
كتاب التخلص من أوهام التقدم لريموند أرون كتاب مهم جدا و لا تقل أهميته عن كتابه أفيون المثقفين إلا أن كتابه التخلص من أوهام التقدم يكاد يكون واقع في الظلال رغم أهميته و رغم فرادة معلوماته و علومه التي تحتاج إليها ساحتنا السودانية.
في الحقيقة عدم وصول كتاب التخلص من أوهام التقدم الى ساحتنا السودانية تكاد تكون كامنة في طبيعة كتابه نفسه أي ريموند أرون فهو كعالم إجتماع و فيلسوف و إقتصادي و مؤرخ و بسبب إهتمامه بتطور الفكر في الساحة الفرنسية و جد نفسه واحد ضد الكل إبتداءا من وقوفه ضد أستاذته و نقده للا مبالاتهم بقضايا تطور الفكر في فرنسا و هذا ما فرض على ريموند أرون عزلة وجد نفسه قد فقد كل أصدقاءه بسببها و لكنه كان لا تهمه الشلليات و الصدقات و الاخونيات التي تكون خصم على رصيده الفكري.
ففي عزلته المجيدة أنجز ريموند أرون مشروعه النقدي و قدم لساحة الفكر الفرنسي ما ينبغي أن يحل مكان الفكر القديم و كان ذلك على مدى زمني إمتد لسته عقود. و على ذكر العزلة التي تعرض لها ريموند أرون نجد كذلك ألبرت كامي و بسبب أفكاره و نقده للفكر الشيوعي فقد فرضت عليه عزلة قادها سارتر بنفسه و أصبح بسببها في عزلة مطبقة و خلالها قدم مشاريعه الفكرية و قد نال بسببها جائزة نوبل للآداب و قد نالها سارتر بعده بسبعة أعوام.
ريموند أرون في مجابهته للأستاذته يختلف عن شراسة بول نيزان كشيوعي في مجابهته لأستاذته و قد تبدت في كتابه كلاب الحراسة و في الحقيقة بول نيزان كان صديق لريموند أرون كما كان سارتر صديق لهما إلا أن سارتر و بول نيزان قد إنجرفا في التيار السائد من الأفكار و حينها كان الفكر الماركسي في فرنسا يعتبر الأفق الذي لا يمكن تجاوزه و هذا هو التحدي الذي قابل ريموند أرون و قد تخطاه بكل سهولة و يسر منتصرا للفكر الليبرالي.
ما أود قوله و هو أن ما حصل في فرنسا قبل قرن من الزمن أي سيطرة الفكر الشيوعي على المشهد الفكري مشابه لحالة المشهد الفكري السوداني. الآن في فكر نخبه نجد كثير من النخب السودانية خاضعة للفكر الشيوعي كما كانت الساحة الفرنسية الفكرية خاضعة للفكر الشيوعي كذلك ساحتنا السودانية و بسبب الزج و التعبية التي يقوم بها الشيوعيون السودانيون نجد أن ساحة الفكر السوداني محبوسة في أفق الشيوعية التقليدية التي قاومها ريموند أرون و قد إنتصر بعد سته عقود بعد أن قدم فكره في كتبه المهمة و هذا الكتاب أي أوهام التخلص من التقدم من ضمنها.
سيطرة الشيوعيون بفكرهم التقليدي في السودان هو ما جعل الساحة السودانية غير صالحة لزرع أي فكر ليبرالي ينتصر لفكرة الدولة الحديثة و و ترسيخ مفهوم ممارسة السلطة كما هو سائد في مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية و هذا ما جعل الساحة السودانية صالحة لتياريين فقط و هو تيار الحتميات و الوثوقيات الشيوعية السودانية و تيار السياجات الدوغمائية لأحزاب اللجؤ الى الغيب أي أحزاب أتباع المرشد و الامام و الختم و جميعمهم و الشيوعيون يؤمنون بفكر مطلق مجافي للنسبي و العقلاني.
هذا هو سبب هجرة أتباع الشيوعية السودانية في بعض الأحيان الى الأحزاب الدينية السودانية كما فعل احمد سليمان المحامي في تواطؤه مع الكيزان و كحالة عبد الله علي ابراهيم في تواطؤه مع الكيزان خلال الثلاثة عقود الأخيرة و بالمناسبة إنتاج الحزب الشيوعي للمثقف التراجيدي كالحالتين المذكورتين أعلاه ناتجة من إعتقادهم في شيوعية لا تؤمن بفكرة الدولة من الأساس و في أحسن أحوال الشيوعي السوداني فهو ما زال تحت نير أفكار فلاسفة ما بعد الحداثة التي مضى زمانها و أنقضى في أواخر ستينيات القرن المنصرم مع ثورة الشباب في فرنسا عام 1968.
و كان لريموند أرون دور بارز في مقاومة فكرهم الملتبس بشأن فكرة مفهوم الدولة في مجتمع ما بعد الثورة الصناعية و مفهوم ممارسة السلطة فيما يتعلق بالتدخل الحكومي و فيما يتعلق أيضا بترسيخ فكرة المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد في المجتمعات الحديثة و في ظل الدولة الحديثة على ضؤ الفكر الليبرالي بشقيه السياسي و الإقتصادي.
ريموند أرون منذ مطلع ثلاثينيات القرن المنصرم أي منذ قبل ما يقارب القرن من الزمن كان له جهد فكري فيما يتعلق بنظرية التاريخ و فيها قدم فلسفة نقدية للتاريخ عكس فيها مفهوم تاريخ الفلسفة الى فلسفة التاريخ مثلما فعل نيتشة كفيلولوجست بارع في عكس مفهوم قوة الإرادة الى إرادة القوة و هنا تكمن جهود ريموند أرون الفكرية التي لا نجدها في مجهود المؤرخ التقليدي السوداني الذي عجز أن ينفلت من مدار الهيغلية و الشيوعية و قد بلغت منتهاها في الفلسفة المثالية الالمانية.
و هذا هو التغيّر في فلسفة التاريخ التي فتحت لريموند أرون فكرة ديالكتيك لزماننا الراهن و فيه يصبح علم الإجتماع بعد معرفي في صميم الديالكتيك و هذا ما عجز عن فهمه الشيوعيون السودانيون و فيه يتحدث ريموند أرون عن مفهوم القرار و الإختيار لفهمه لنظرية التاريخ و فيها يقول بأن فهمنا للتاريخ ينبغي أن يكون بمعنى فهمنا لمشاكل الراهن من زماننا بعيدا عن حكي المؤرخ التقليدي السوداني في إنحباسه في مفهوم الوثيقة المقدسة.
عند أرون إن مسيرة الإنسانية مأساوية و تراجيدية بلا قصد و لا معنى و لا تحل بغير معادلة الحرية و العدالة كروح للفكر الليبرالي الذي لا يعرف نهاية للتاريخ كما تتوهم الهيغلية و الشيوعية في عقل يسوق التاريخ لنهاياته بعكس ريموند أرون فهو يرى أن مسيرة الإنسانية التاريخية لا تتوج بنهاية فهي مفتوحة على اللا نهاية في عالم تمسك مشاكله تلابيب بعضها البعض في تسلسل لا نهائي لا تحله غير فكرة الشرط الإنساني.
و هي روح الفكر الليبرالي في تقديمه لمفهوم الشرط الإنساني و هو عند ريموند أرون أن تتقدم السياسة على كل من علم الإجتماع و الإقتصاد أي أن الشرط الإنساني أي السياسة هي التي تتقدم على علم الإجتماع و علم الإقتصاد و هذا هو سر قوة أفكار ريموند أرون في كتابه التخلص من وهم التقدم و هو كتاب أيضا يقول كثير من الباحثين بمثلما أعطى ريموند أرون أولوية للسياسة إلا أننا نجد في طياته إهتمامه بالإقتصاد و هذا يحتاج لقراءة متمهلة لهذا الكتاب الفريد لأن الفكر الليبرالي يتأرجح ما بين شقيه السياسي و الإقتصادي لكي يتوازن.
و هذه الدقة التي تصل لدرجة الغموض في كتاب ريموند أرون ناتجة من أنه فيلسوف و مؤرخ و إقتصادي و عالم إجتماع ملم بالنظريات الإقتصادية و آداب تاريخ الفكر الإقتصادي و بالتالي يعرف أن قوة الفكر الليبرالي كامنة في هشاشة الليبرالية أي أن قوة الليبرالية الحديثة كامنة في هشاشتها التي لا تصان بغير فكرة الشرط الإنساني.
و هنا وجب التنويه لحديث ريموند أرون عن هشاشة الليبرالية التي تمثل في نفس الوقت قوتها لأنه كان يلاحظ لحظة مفصلية و هي لحظة نهاية الليبرالية التقليدية و بداية الليبرالية الحديثة و هو يشاهد تنامي أفكارها أمام ناظريه خطوة بخطوة و خاصة في إختلافه مع فردريك حايك في إعتراضه على التدخل الحكومي و قد وصفه ريموند أرون بأنه أي فردريك حايك بأنه ماركس اليميني و فكرته النيوليبرالية بأنها ماركسية يمينية و المضحك عندنا في السودان يتحدث الشيوعيون السودانيون عن شرور النيوليبرالية و ما دروا أنها ماركسية يمينية و فهمها يحتاج لفن القراءة الغائب من دفاتر النخب السودانية.
علي أي حال إنتهت ديناميكية النيوليبرالية كماركسية يمينية و العالم اليوم يتهئ لديناميكية من صميم الفكر الليبرالي و هي الحماية الإقتصادية و قد أقدمت عليها بريطانيا في خطوة الخروج من الإتحاد الأوروبي و هذه واحدة من إبداعات الفكر الليبرالي التي لم تتمتع بملاحظتها النخب السودانية بسبب كساد الفكر السوداني و فراغ ساحته من الفكر الليبرالي بشقيه السياسي و الإقتصادي لذلك يجهل كثر من النخب السودانية بأن فلسفة الفكر الليبرالي ليست نظم حكم فحسب بل فلسفة لترسيخ فكرة العيش المشترك بعد إضافة مفهوم الدولة كمفهوم حديث في ترسيخها لفكرة المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد و قد أصبحت بديلا للفكر الديني أي أن الديمقراطية لا تستقيم بغير فصل الدين عن الدولة.
علي أي حال نكتب هذا المقال و ليس السودان وحده على مفترق طرق بل العالم العربي و الإسلامي غارق تحت أزمة حضارته العربية الإسلامية التقليدية في مفترق طرق أيضا لذلك وصيتنا للنخب السودانية بأن تنتبه لهذا المأزق التاريخي و تنتهز الفرصة بأن تكون في مقدمة النخب الناهضة و المفارقة لنهضة العالم العربي و الإسلامي العرجاء التي إمتدت على مدى قرن و نصف و ها نحن على نهاياتها الأكيدة.
و بالتالي تكون دعوتي للنخب السودانية للإنفتاح على الفكر الغربي لأنه يلخص تاريخ الإنسانية لذلك يجب فتح الباب الذي أغلقه كل من الامام محمد عبده و جمال الدين الأفغاني بنهضتما العرجاء و هذا الباب الصدي يجب فتحه بفكر ريموند أرون و خاصة من فكره في كتابه التخلص من أوهام التقدم.
أدرك بأن مثل هذه التوصيه أو الدعوة لنخب سودانية غارقة في فكر الخلاص الأخروي أي فكر وحل الفكر الديني لا معنى لها.
و لكن عزاءنا في إنتصار ريموند أرون على نخب زمنه المحبوسة في أفق الماركسية في زمنهم و قد إنتصر بعد صبر دام ستة عقود. و هنا نقول أن حال العالم العربي و الإسلامي التقليدي لا ينتظر ستة عقود لإنهيار حضارته الإسلامية العربية التقليدية التي قد وصلت لمنتهاها رغم خيانة النخب العربية لموجات الربيع العربي و قد أفسدها الإسلاميين لصالح دكتاتوريات عربية و ممالك و سلطانات سوف تجبر أي يجبرها سير الأحداثة المتسارعة في العالم من حولنا على الإصلاح السياسي قريبا جدا.
لأن تغلبات العالم قد أصبحت سريعة و لا يمكن أن يكرر الزمن تجربة كل من الغذافي و صدام حسين و غيرهما أي من فشلوا في ترسيخ قيم الجمهورية لذلك نقول للبرهان و هو واهم بأن يحقق أحلام والده بأن زماننا زمن التغيرات المتسارعة لا تستطيع مقاومتها غير النظم الليبرالية و ليس البرهان وحده حتى نظام السيسي في مصر في مهب الريح أي أمام تغيرات هائلة في ساحة العالم من حولنا فكل من يحلم بتأسيس نظام حكم تسلطي كما يفكر السيسي في مصر هو أمام الرياح هباء في المستقبل القريب.
الأحسن حال من السيسي في مصر هو آبي احمد في أثيوبيا عبر تجربته الديمقراطية رغم تعثرها على أقل تقدير يسير بإتجاه التغيير بعكس السيسي في مصر فهو يقاوم التغيير في وقت عجزت مصر بأن تصبح دولة صناعية و هي دولة بلا مستقبل ما لم تنجح في أن تكون دولة صناعية و تستطيع أن تنقل تجربة الغرب الصناعية.
في ختام هذا المقال نعود الى ريموند أرون و هو يقدّم فكرة أي أن لأول مرة يصبح تاريخ الإنسانية تاريخ واحد و بالتالي دراسة تاريخ السودان لوحده أو تاريخ قارته التي ينتمي لها لا يغني عنه شئ و هذا ما يفعله المؤرخ التقليدي السوداني و بالتالي على النخب السودانية بأن ترى أن تاريخ الإنسانية لأول مرة يصبح تاريخ واحد و دراسة إمكانية نهضتنا لا تكون بغير فهم الراهن السوداني من خلال فهمنا لتاريخ الإنسانية الذي قد أصبح تاريخ لكل البشر بعد الثورة الصناعية كما يقدمه ريموند أرون.
لاحظ ريموند أرون أن وجست كونت في فكرة الوضعية المنطقية قد إعتمد على فكرة المجتمع و الثورة الصناعية و هو وثوقي أيضا كماركس و حتمي في إعتماد ماركس على الصراع الطبقي في ظل نمط الإنتاج الرأسمالي. رفض ريموند أرون كل من الوضعية المنطقية لأوجست كونت و ماركسية ماركس و قدم بدلهما ديمقراطية توكفيل و هي تقدم فكرة المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد و يصبح الفكر الليبرالي بديلا للفكر الديني و عليه لمن يريد المزيد قراءة كتاب التخلص من أوهام التقدم لريموند أرون.
taheromer86@yahoo.com
في الحقيقة عدم وصول كتاب التخلص من أوهام التقدم الى ساحتنا السودانية تكاد تكون كامنة في طبيعة كتابه نفسه أي ريموند أرون فهو كعالم إجتماع و فيلسوف و إقتصادي و مؤرخ و بسبب إهتمامه بتطور الفكر في الساحة الفرنسية و جد نفسه واحد ضد الكل إبتداءا من وقوفه ضد أستاذته و نقده للا مبالاتهم بقضايا تطور الفكر في فرنسا و هذا ما فرض على ريموند أرون عزلة وجد نفسه قد فقد كل أصدقاءه بسببها و لكنه كان لا تهمه الشلليات و الصدقات و الاخونيات التي تكون خصم على رصيده الفكري.
ففي عزلته المجيدة أنجز ريموند أرون مشروعه النقدي و قدم لساحة الفكر الفرنسي ما ينبغي أن يحل مكان الفكر القديم و كان ذلك على مدى زمني إمتد لسته عقود. و على ذكر العزلة التي تعرض لها ريموند أرون نجد كذلك ألبرت كامي و بسبب أفكاره و نقده للفكر الشيوعي فقد فرضت عليه عزلة قادها سارتر بنفسه و أصبح بسببها في عزلة مطبقة و خلالها قدم مشاريعه الفكرية و قد نال بسببها جائزة نوبل للآداب و قد نالها سارتر بعده بسبعة أعوام.
ريموند أرون في مجابهته للأستاذته يختلف عن شراسة بول نيزان كشيوعي في مجابهته لأستاذته و قد تبدت في كتابه كلاب الحراسة و في الحقيقة بول نيزان كان صديق لريموند أرون كما كان سارتر صديق لهما إلا أن سارتر و بول نيزان قد إنجرفا في التيار السائد من الأفكار و حينها كان الفكر الماركسي في فرنسا يعتبر الأفق الذي لا يمكن تجاوزه و هذا هو التحدي الذي قابل ريموند أرون و قد تخطاه بكل سهولة و يسر منتصرا للفكر الليبرالي.
ما أود قوله و هو أن ما حصل في فرنسا قبل قرن من الزمن أي سيطرة الفكر الشيوعي على المشهد الفكري مشابه لحالة المشهد الفكري السوداني. الآن في فكر نخبه نجد كثير من النخب السودانية خاضعة للفكر الشيوعي كما كانت الساحة الفرنسية الفكرية خاضعة للفكر الشيوعي كذلك ساحتنا السودانية و بسبب الزج و التعبية التي يقوم بها الشيوعيون السودانيون نجد أن ساحة الفكر السوداني محبوسة في أفق الشيوعية التقليدية التي قاومها ريموند أرون و قد إنتصر بعد سته عقود بعد أن قدم فكره في كتبه المهمة و هذا الكتاب أي أوهام التخلص من التقدم من ضمنها.
سيطرة الشيوعيون بفكرهم التقليدي في السودان هو ما جعل الساحة السودانية غير صالحة لزرع أي فكر ليبرالي ينتصر لفكرة الدولة الحديثة و و ترسيخ مفهوم ممارسة السلطة كما هو سائد في مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية و هذا ما جعل الساحة السودانية صالحة لتياريين فقط و هو تيار الحتميات و الوثوقيات الشيوعية السودانية و تيار السياجات الدوغمائية لأحزاب اللجؤ الى الغيب أي أحزاب أتباع المرشد و الامام و الختم و جميعمهم و الشيوعيون يؤمنون بفكر مطلق مجافي للنسبي و العقلاني.
هذا هو سبب هجرة أتباع الشيوعية السودانية في بعض الأحيان الى الأحزاب الدينية السودانية كما فعل احمد سليمان المحامي في تواطؤه مع الكيزان و كحالة عبد الله علي ابراهيم في تواطؤه مع الكيزان خلال الثلاثة عقود الأخيرة و بالمناسبة إنتاج الحزب الشيوعي للمثقف التراجيدي كالحالتين المذكورتين أعلاه ناتجة من إعتقادهم في شيوعية لا تؤمن بفكرة الدولة من الأساس و في أحسن أحوال الشيوعي السوداني فهو ما زال تحت نير أفكار فلاسفة ما بعد الحداثة التي مضى زمانها و أنقضى في أواخر ستينيات القرن المنصرم مع ثورة الشباب في فرنسا عام 1968.
و كان لريموند أرون دور بارز في مقاومة فكرهم الملتبس بشأن فكرة مفهوم الدولة في مجتمع ما بعد الثورة الصناعية و مفهوم ممارسة السلطة فيما يتعلق بالتدخل الحكومي و فيما يتعلق أيضا بترسيخ فكرة المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد في المجتمعات الحديثة و في ظل الدولة الحديثة على ضؤ الفكر الليبرالي بشقيه السياسي و الإقتصادي.
ريموند أرون منذ مطلع ثلاثينيات القرن المنصرم أي منذ قبل ما يقارب القرن من الزمن كان له جهد فكري فيما يتعلق بنظرية التاريخ و فيها قدم فلسفة نقدية للتاريخ عكس فيها مفهوم تاريخ الفلسفة الى فلسفة التاريخ مثلما فعل نيتشة كفيلولوجست بارع في عكس مفهوم قوة الإرادة الى إرادة القوة و هنا تكمن جهود ريموند أرون الفكرية التي لا نجدها في مجهود المؤرخ التقليدي السوداني الذي عجز أن ينفلت من مدار الهيغلية و الشيوعية و قد بلغت منتهاها في الفلسفة المثالية الالمانية.
و هذا هو التغيّر في فلسفة التاريخ التي فتحت لريموند أرون فكرة ديالكتيك لزماننا الراهن و فيه يصبح علم الإجتماع بعد معرفي في صميم الديالكتيك و هذا ما عجز عن فهمه الشيوعيون السودانيون و فيه يتحدث ريموند أرون عن مفهوم القرار و الإختيار لفهمه لنظرية التاريخ و فيها يقول بأن فهمنا للتاريخ ينبغي أن يكون بمعنى فهمنا لمشاكل الراهن من زماننا بعيدا عن حكي المؤرخ التقليدي السوداني في إنحباسه في مفهوم الوثيقة المقدسة.
عند أرون إن مسيرة الإنسانية مأساوية و تراجيدية بلا قصد و لا معنى و لا تحل بغير معادلة الحرية و العدالة كروح للفكر الليبرالي الذي لا يعرف نهاية للتاريخ كما تتوهم الهيغلية و الشيوعية في عقل يسوق التاريخ لنهاياته بعكس ريموند أرون فهو يرى أن مسيرة الإنسانية التاريخية لا تتوج بنهاية فهي مفتوحة على اللا نهاية في عالم تمسك مشاكله تلابيب بعضها البعض في تسلسل لا نهائي لا تحله غير فكرة الشرط الإنساني.
و هي روح الفكر الليبرالي في تقديمه لمفهوم الشرط الإنساني و هو عند ريموند أرون أن تتقدم السياسة على كل من علم الإجتماع و الإقتصاد أي أن الشرط الإنساني أي السياسة هي التي تتقدم على علم الإجتماع و علم الإقتصاد و هذا هو سر قوة أفكار ريموند أرون في كتابه التخلص من وهم التقدم و هو كتاب أيضا يقول كثير من الباحثين بمثلما أعطى ريموند أرون أولوية للسياسة إلا أننا نجد في طياته إهتمامه بالإقتصاد و هذا يحتاج لقراءة متمهلة لهذا الكتاب الفريد لأن الفكر الليبرالي يتأرجح ما بين شقيه السياسي و الإقتصادي لكي يتوازن.
و هذه الدقة التي تصل لدرجة الغموض في كتاب ريموند أرون ناتجة من أنه فيلسوف و مؤرخ و إقتصادي و عالم إجتماع ملم بالنظريات الإقتصادية و آداب تاريخ الفكر الإقتصادي و بالتالي يعرف أن قوة الفكر الليبرالي كامنة في هشاشة الليبرالية أي أن قوة الليبرالية الحديثة كامنة في هشاشتها التي لا تصان بغير فكرة الشرط الإنساني.
و هنا وجب التنويه لحديث ريموند أرون عن هشاشة الليبرالية التي تمثل في نفس الوقت قوتها لأنه كان يلاحظ لحظة مفصلية و هي لحظة نهاية الليبرالية التقليدية و بداية الليبرالية الحديثة و هو يشاهد تنامي أفكارها أمام ناظريه خطوة بخطوة و خاصة في إختلافه مع فردريك حايك في إعتراضه على التدخل الحكومي و قد وصفه ريموند أرون بأنه أي فردريك حايك بأنه ماركس اليميني و فكرته النيوليبرالية بأنها ماركسية يمينية و المضحك عندنا في السودان يتحدث الشيوعيون السودانيون عن شرور النيوليبرالية و ما دروا أنها ماركسية يمينية و فهمها يحتاج لفن القراءة الغائب من دفاتر النخب السودانية.
علي أي حال إنتهت ديناميكية النيوليبرالية كماركسية يمينية و العالم اليوم يتهئ لديناميكية من صميم الفكر الليبرالي و هي الحماية الإقتصادية و قد أقدمت عليها بريطانيا في خطوة الخروج من الإتحاد الأوروبي و هذه واحدة من إبداعات الفكر الليبرالي التي لم تتمتع بملاحظتها النخب السودانية بسبب كساد الفكر السوداني و فراغ ساحته من الفكر الليبرالي بشقيه السياسي و الإقتصادي لذلك يجهل كثر من النخب السودانية بأن فلسفة الفكر الليبرالي ليست نظم حكم فحسب بل فلسفة لترسيخ فكرة العيش المشترك بعد إضافة مفهوم الدولة كمفهوم حديث في ترسيخها لفكرة المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد و قد أصبحت بديلا للفكر الديني أي أن الديمقراطية لا تستقيم بغير فصل الدين عن الدولة.
علي أي حال نكتب هذا المقال و ليس السودان وحده على مفترق طرق بل العالم العربي و الإسلامي غارق تحت أزمة حضارته العربية الإسلامية التقليدية في مفترق طرق أيضا لذلك وصيتنا للنخب السودانية بأن تنتبه لهذا المأزق التاريخي و تنتهز الفرصة بأن تكون في مقدمة النخب الناهضة و المفارقة لنهضة العالم العربي و الإسلامي العرجاء التي إمتدت على مدى قرن و نصف و ها نحن على نهاياتها الأكيدة.
و بالتالي تكون دعوتي للنخب السودانية للإنفتاح على الفكر الغربي لأنه يلخص تاريخ الإنسانية لذلك يجب فتح الباب الذي أغلقه كل من الامام محمد عبده و جمال الدين الأفغاني بنهضتما العرجاء و هذا الباب الصدي يجب فتحه بفكر ريموند أرون و خاصة من فكره في كتابه التخلص من أوهام التقدم.
أدرك بأن مثل هذه التوصيه أو الدعوة لنخب سودانية غارقة في فكر الخلاص الأخروي أي فكر وحل الفكر الديني لا معنى لها.
و لكن عزاءنا في إنتصار ريموند أرون على نخب زمنه المحبوسة في أفق الماركسية في زمنهم و قد إنتصر بعد صبر دام ستة عقود. و هنا نقول أن حال العالم العربي و الإسلامي التقليدي لا ينتظر ستة عقود لإنهيار حضارته الإسلامية العربية التقليدية التي قد وصلت لمنتهاها رغم خيانة النخب العربية لموجات الربيع العربي و قد أفسدها الإسلاميين لصالح دكتاتوريات عربية و ممالك و سلطانات سوف تجبر أي يجبرها سير الأحداثة المتسارعة في العالم من حولنا على الإصلاح السياسي قريبا جدا.
لأن تغلبات العالم قد أصبحت سريعة و لا يمكن أن يكرر الزمن تجربة كل من الغذافي و صدام حسين و غيرهما أي من فشلوا في ترسيخ قيم الجمهورية لذلك نقول للبرهان و هو واهم بأن يحقق أحلام والده بأن زماننا زمن التغيرات المتسارعة لا تستطيع مقاومتها غير النظم الليبرالية و ليس البرهان وحده حتى نظام السيسي في مصر في مهب الريح أي أمام تغيرات هائلة في ساحة العالم من حولنا فكل من يحلم بتأسيس نظام حكم تسلطي كما يفكر السيسي في مصر هو أمام الرياح هباء في المستقبل القريب.
الأحسن حال من السيسي في مصر هو آبي احمد في أثيوبيا عبر تجربته الديمقراطية رغم تعثرها على أقل تقدير يسير بإتجاه التغيير بعكس السيسي في مصر فهو يقاوم التغيير في وقت عجزت مصر بأن تصبح دولة صناعية و هي دولة بلا مستقبل ما لم تنجح في أن تكون دولة صناعية و تستطيع أن تنقل تجربة الغرب الصناعية.
في ختام هذا المقال نعود الى ريموند أرون و هو يقدّم فكرة أي أن لأول مرة يصبح تاريخ الإنسانية تاريخ واحد و بالتالي دراسة تاريخ السودان لوحده أو تاريخ قارته التي ينتمي لها لا يغني عنه شئ و هذا ما يفعله المؤرخ التقليدي السوداني و بالتالي على النخب السودانية بأن ترى أن تاريخ الإنسانية لأول مرة يصبح تاريخ واحد و دراسة إمكانية نهضتنا لا تكون بغير فهم الراهن السوداني من خلال فهمنا لتاريخ الإنسانية الذي قد أصبح تاريخ لكل البشر بعد الثورة الصناعية كما يقدمه ريموند أرون.
لاحظ ريموند أرون أن وجست كونت في فكرة الوضعية المنطقية قد إعتمد على فكرة المجتمع و الثورة الصناعية و هو وثوقي أيضا كماركس و حتمي في إعتماد ماركس على الصراع الطبقي في ظل نمط الإنتاج الرأسمالي. رفض ريموند أرون كل من الوضعية المنطقية لأوجست كونت و ماركسية ماركس و قدم بدلهما ديمقراطية توكفيل و هي تقدم فكرة المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد و يصبح الفكر الليبرالي بديلا للفكر الديني و عليه لمن يريد المزيد قراءة كتاب التخلص من أوهام التقدم لريموند أرون.
taheromer86@yahoo.com