سلطنة سنار والمركزية الأوربية ‏قراءة في كتاب “عصر البطولة في سنار”‏

 


 

 

mohabd505@gmail.com

سلطنة سنار والمركزية الأوربية ‏قراءة في كتاب "عصر البطولة في سنار"‏

د. محمد عبد الله الحسين

الكلمات المفتاحية:‏
السودان -سلطنة سنار–المفاهيم الإسلامية -المركزية الأوربية مقدمة:‏ قليل من الكتب بل النادر منها، تلك التي تثير في القارئ قلقاً معرفياً، قلقا لا يجعلك تكتفي بما ‏تورده من معلومات بل تدفعك لمزيد من التساؤل. مثل هذه الكتب لا تقتصر قيمتها فقط في كونها ‏تفيض بالكثير من المعلومات المهمة، بل تحملك أيضاً إلى آفاق أرحب من التفكير والتأمل. ‏يعتبر كتاب جاي سبولدينق الموسوم "عصر البطولة في سنار من بين الكتب التي ينطبق عليها ‏مثل هذا القول، وذلك بما احتواه من العديد من المعلومات الغنية التي تم جمعها من مصادر أولية ‏ومصادر ثانوية فهو يحيلك إلى عدة موضوعات أخرى ذات الصلة، فيجعلك تحاول أن تربط بين ‏شتيتها وتصل بين أطرافها. يتضمن الكتاب ضمن تفاصيل سرده العديد من الإحالات والإشارات ‏إلى موضوعات فرعية وجانبية وإلى أحداث ووقائع تقودك لا تجعلك تكتفي من الاستنتاجات بل ‏يثير في الذهن زخماً من التساؤلات حول شتى الموضوعات. ذكرت هذه المقدمة لكي أشير إلى ‏أن فكرة هذا المقال جاءت بناء على مقاربة الواردة جاي سبولدينق في كتابه: (عصر البطولة في ‏سنار) وما يمكن أن نستنتجه منها. ‏ يتناول المقال العوالم التي ساعدت في إحداث التغيير في بنية ونظام الحكم في دولة سنار في ‏النصف الثاني من القرن السابع عشر، مع استصحاب بعض الموضوعات ذات الصلة.‏ تمحورت مقاربة سبولدينق بشكل رئيسي حول تأثير كل من العامل الثقافي(الديني) في النمو ‏الرأسمالي، وحسب سبولدينق فقد جاء تأثير الدين من خلال موقع السلطنة وبالتالي علاقاتها ‏وعلاقات وتداخلات مواطنيها مع الخارج (التجارة، الدراسة زيارات الأماكن المقدسة الخ.). ويعتبر ‏النظر في أثر العوامل الخارجية لتفسير ديناميات التغيير الاقتصادية والاجتماعية، فكرة مخالفة ‏لمعظم التحليلات والدراسات السابقة حول تاريخ السودان /سلطنة سنار التي اهتم معظمها للأخذ ‏بتأثير ‏العوامل المحلية.‏ بالإضافة لما تقدم، هناك ‏جانب آخر مهم في تحليل سبولدينق المشار إليه، وهو استبعاده بشكل ‏غير مباشر لمفهوم المركزية الأوربية أو (السردية الغربية) في حدوث نهوض رأسمالي في بلدان ‏الأطراف بتأثير مباشر من الرأسمالية الغربية، كما ‏سيأتي شرحه لاحقاً.‏ ينطلق هذا المقال بناء على ما سبقت الإشارة إليه آنفاً من دور الموقع الجغرافي ‏والعلاقات/المصالح الخارجية في إحداث التغيير الداخلي، وتتضمن حيثيات الموضوع بالتالي ‏النظر في علاقات سلطنة سنار/السودان بعلاقاته الخارجية خاصة مع الدول المتاخمة، ‏وهي ‏مصر والحجاز على وجه الخصوص. ‏ قبل أن يتعمد سبولدينق إلى مناقشة حيثيات وأسباب التغيير في سلطنة سنار، قدم صورة تفصيلية ‏لصورة الدولة ولكيفية تداول الأسرة الحاكمة للحكم بشكل مرتب. تناول سبولدينق كذلك العوامل ‏التي تمكنت الأسرة الحاكمة بموجبها من خلال أيديولوجيا متكاملة، من إرساء قواعد الحكم، ‏وإضفاء الشرعية على الحكم والحكام. ‏ أرجع سبولدينق أسباب وعوامل التغير في نظام وطبيعة ‏الحكم إلى الأخذ‏ بما أسماها ب: ‏"بالمفاهيم الإسلامية" أو (مفاهيم العرب). ونتجت تلك المفاهيم ‏المشار إليها من خلال العلاقات المركبة والمتعددة مع الخارج والتي أفضت إلى نوع من التداخل ‏والتلاقح الثقافي والمعرفي (وبالطبع الاجتماعي) مع الخارج، من خلال الدراسة في مصر، ومن ‏خلال الأسفار للاماكن المقدسة في الحجاز. ‏ في إطار شرح سبولدينق كانت (المحميات الدينية) كما أسماها سبولدينق، والتي كان قد أنشأها ‏رجال الدين هي جزء من العوامل المُفضِية للتغيير في هيكل الدولة الإداري والاقتصادي وأخير في ‏هيكل الحكم نفسه. فقد أدخل رجال الدين القوانين والممارسات الإسلامية في المعاملات ‏الاقتصادية، وتبع ذلك العديد من التغييرات المتتابعة، فتوسع السوق ونشأت عديد من المدن في ‏السلطنة، كما دخلت الأرض والرقيق ضمن التبادلات والمعاملات التجارية. ترافق كل ذلك مع ‏اكتساب رجال الدين والتجار لسلطة كانت تزداد يوما إثر يوم مع تراخي يد البلاط السلطاني ‏تدريجياً، مما مهد في نهاية الأمر إلى حدوث انقلاب على الأسرة الحاكمة. وهكذا يمكن القول، ‏وفقا لمقاربة سبولدينق فإن عوامل التغيير التي حدثت في سلطنة حدثت بتأثير مباشر للعوامل ‏الثقافية/الدينية المختلفة، والتي جاءت كنتيجة للعلاقات مع الخارج.‏ من أجل توسيع مجال الرؤية الأوسع سنحاول النظر إلى مقاربة سبودلينق ضمن إطار الجدل ‏المعرفي حول ظهور ونمو الرأسمالية الغربية ومفاهيم مثل المركزية الأوربية. حيث سيتيح ذلك ‏وضع تاريخ السودان ضمن إطار والجدل النظري والرؤية العامة للتطورات الاقتصاد السياسية في ‏العالم. ‏ بناء عليه سنحاول بما تيسّر لنا أن نربط تحليل سبولدينق بما سبقه من أفكار، حول تأثير الدين ‏في التغير الاقتصادي والاجتماعي، باعتبار الدين عامل ثقافي ذا سطوة وتأثير كبيرين خاصة في ‏مجتمعات في مرحلة ما قبل الرأسمالية (أو ما القبل حداثية). وكانت الفكرة الرائدة في العلاقة بين ‏العامل الديني والنمو الرأسمالي، هي ما أورده "ماكس فيبر" في كتابه (الأخلاق البروتستانتية وروح ‏الرأسمالية)، والتي أشار فيه إلى دور الدين في تعزيز النمو الرأسمالي في مناطق نفوذ الديانة ‏البروتستانتية في بريطانيا وألمانيا وأوروبا، من خلال استيعاب القيم ‏البروتستانتية(الكالفينية). ‏ في نفس هذا السياق فقد أشار سبودلينق إلى كتابات كانت لها تأثير في تحليله، خاصة كتاب ‏مكسيم روبنسون،" الرأسمالية والإسلام" (1966)، وكتاب بيتر غران :(الجذور الإسلامية ‏للرأسمالية، مصر 1840-1760‏. نشير هنا إلى التقارب في أفكار جاي سبولدينق حول تأثير ‏المفاهيم الإسلامية (أو مفاهيم العرب كما اسماها سبولدينق) وبين بعض أفكار بعض المفكرين ‏السابقين خاصة بيتر غران، حيث نرى التشابه بين ما ورد في كتاب بيتر غران" الجذور ‏الإسلامية للرأسمالية" ومقاربة سبولدينق حول التغيير في سلطنة سنار. كانت أفكار غران في هذا ‏الكتاب وفي كتاباته اللاحقة مثل " صعود أصحاب النفوذ" في إطار تقديم رؤية بديلة لمفهوم ‏المركزية الأوربية. ذكر غران في كتابه “الجذور الإسلامية للرأسمالية" أن مصر العثمانية شهدت ‏في الفترة بين 1750-1850 نهوضا اقتصاديا محليا أي دون تأثير خارجي من الرأسمالية الغربية ‏‏(وهي فترة مقاربة تقريبا للفترة التي أتخذها سبولدينق كأساس لتحليله).‏ في نفس الاتجاه نلاحظ التشابه أو التماثل في المقاربتين، فقد أرجع سبولدينق التغيير الاقتصادي ‏لدور رجال الدين في التغيير الاقتصادي، وهو مماثل ما ذكره غران في تحليله حول دور الفهم ‏الجديد أو التأويل للنصوص الدينية في حدوث نهضة رأسمالية في مصر خلال فترة الحكم ‏العثماني بالإضافة، إلى ترافق ذلك مع ظهور طبقة وسطى من التجار. من ناحية أخرى اعتمد كل ‏من سبولدينق وغران على منهج تحليل المحتوى، فقد اعتمد غران على تحليل كتابات العطار ‏والجبرتي لإثبات التغيير في المفاهيم، في المقابل اعتمد سبولدينق في تحليله على كتابات الرحالة ‏وعلى الوثائق السلطانية ووثائق المحاكم. الجدير بالذكر أن مقاربة غران قد وجدت قبولا لدى ‏البعض مثل ما ورد في كتاب د. نللي حنا، "ثقافة الطبقة الوسطى في مصر العثمانية إلا أنها ‏وجدت بعض الانتقادات من بعض المفكرين من أبرزهم وجيه كوثراني وآخرون. ‏ من ناحية أخرى قد يثار سؤال علاقة مقاربة سبولدينق حول ما حدث في سلطنة سنار مع الجدل ‏حول مفهوم "المركزية الأوربية"؟ فمن المعروف أن السردية الغربية ممثلة في "المركزية الأوربية" ‏كانت هي المفهوم السائد لمئات السنين، لتبرير ازدهار الرأسمالية في الغرب باعتباره نتيجة ‏لطبيعة المجتمع والعقلية الأوربية الراشدة، وظلت بالتالي هذه السردية الغربية مهيمنة لمئات ‏السنين. كان الجدل قد تصاعد خلال فترة السبعينات والثمانيات من القرن العشرين الجدل الناقد ‏للمركزية الأوربية. وهو الجدل الذي أثرى التراكم المعرفي بمساهمات العديد من المفكرين بالكتابات ‏المناهضة للرأسمالية والإمبريالية من أمثال المفكر الماركسي المصري سمير أمين، والعديد من ‏مفكري أمريكا اللاتينية الذين مثل فرانز فانون، وفرناندو بروديل، وإنريكي دوسيل، وإيمانويل ‏الرشتاين وغيرهما).‏ ‏ فيما يتعلق بمقاربة سبولدينق حول التغير الاجتماعي الاقتصادي السياسي في القرن السابع عشر ‏سلطنة سنار يمكن النظر إليها بأنها مناقضة للسردية الغربية/ المركزية الأوربية. حيث أن السردية ‏الغربية تقول بإمكانية حدوث نمو رأسمالي في أطراف العالم بتأثير مباشر من الرأسمالية الغربية، ‏وهو مناقض لما حدث في سلطنة سنار بناء على تحليل جاي سبولدينق. هذه محاولة ‏لاستصحاب ديناميات الاجتماعية والاقتصادية المحلية وتاريخنا السياسي ضمن الجدل الفكري ‏العالمي حول دور الرأسمالية الغربية تاريخيا.‏

mohabd505@gmail.com

 

 

آراء