قوة الضعف
عمر العمر
13 September, 2024
13 September, 2024
الحسابات الخاطئة أحد أبرز العناصر المساهمة في اطالة حربنا الكارثية.
بل هي الحطب المُحرِّض على اشعالها. فكل طرف - بغض النظر عن البادئ- تورْط في الحرب من قناعة زائفة بقدرته على ربحها في ضربة قاصمة خاطفة. رغم تبدد هذه الفرضية مع مرور الزمن لا تزال الحسابات الخاطئة بامتلاك القوة الغالبة تهيّمن على العقليتين الدمويتين المدمرتين. كلاهما لا يدركان وجود مبدأ (قوة الضعف). من يدرك تفاصيل هذا المبدأ يضع حتما ضمن تقديراته فرضية خذلان الاعتماد على القوة في حسم الصراع. الطرفان لايزالان يتوغلان في الوهم الزائف دون استعداد للمراجعة والتراجع فيكلفان الشعب والوطن خسائر فادحة. ما أصدق قول رئيس الوزراء الفرنسي الراحل جورج كليمنصو (الحرب أخطر من أن تُترك للجنرالات ).القناعة ب(ضعف القوة)يستوجب كذلك اقتناع بوجود (قوة الضعف).فليس بتفوق السلاح وحده أو كثرة الجنود فقط يتم حسم الصراع او تحقيق الانتصار.
*****
الفهم الخاطئ غيّب عن أصحاب الحسابات الخاطئة استيعاب طبيعة ثورة ديسمبر ومكامن قوتها فعمدوا إلى قمعها حداً بلغ سفك الدم .في حساباتهما المسرفة في الخطايا ظنونهما بأن مايمكن احتواؤه بالعنف يمكن اقتلاعه بمزيد من القوة. كذلك في سياق الفهم الخاطئ التباهي باتساع الانتشار . لكن في الواقع لا جدوى من انتشار لا يفرض الهيمنة. الباحث الفرنسي في العلوم السياسية برتران بادي انشغل كثيرا في سياق مقارباته الفكرية بما اسماه(عجز القوة). هو يرى -لعلها رؤية تحاكم حربنا الكارثية- أن القويَ عاجزٌ طالما لم يستطع تحقيق انتصارٍ حاسم . كذلك يُعرّف بادي القويَ بالقادر على تقديم التنازلات دون وجل مستندا في ذلك إلى فائض قوته الحقيقية. هذا تعريفٌ دونه الأقزام ناشروا النار ،الكراهية والمعاناة في البلد.
*****
ربما لو استعرض باحث عسكري استراتيجي (حقيقي)مسار حرب الحمقى لكشف من ابرز أخطائها التزام الطرفين بتكتيك غبيٍ .فهما اقتحما القتال بغير حذرٍ كاف إن لم يكن بتهورٍ مفرط على نقيض وصية رئيس الأركان الأميركي كولين باول (يجب إختيار معاركنا بحذر وبقوة كبيرة).هي حكمة غابت عن باول وهو وزير للخارجية حينما روّج للحرب على صدام . ففي تلك الغفلة انزلقت اميركا في حرب العراق الثانية إذ أغفلت حساباتها الخاطئة (قوة الضعف) الكامنة في المنطقة فأمست تسدد فواتير مكلفة نتيجة تجاهلها ذلك المبدأ الاستراتيجي . أوسع من ذلك فعلى قدر ما تشغل أميركا من الجغرافيا كامبراطورية للتوحش تتعدد عثراتها وهزائمها ؛بدءاً بالعراق ، فسوريا ، مرورا بفلسطين ثم افغانستان وانتهاء باوكرانيا. إحدى خطايا أميركا رهانُها الخاسر على إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية بالقوة .
*****
كذلك يتجاهل أقطاب حربنا الخاسرة على سواء مع اميركا (قوةالضعف) الكامنة لدى الشعب .كلهم يتقاتلون ويقاتلون متجاهلين حقوق الشعب وحقوق مجتمعه المدني. نلك إحدى خصائص الأنظمة الاستبدادية وطبائعها. فمدى عدالة القضية ورسوخ الإيمان بها في القلوب يشكلان مصدر اً يعزز صعود قوة الضعف الماثلة لدى القوى الضعيفة مقابل موازين غلبة السلاح وكثرة الجنود. فترجيح الغلبة والكثرة لا يوفر شرط امتلاك القوة مثلما لا يعني الضعف فقدان التفوق . غاندي ثبّت وجهه في مرايا التاريخ بتجسيده للعالم معنى (قوة الضعف).الخوف هو جوهر الضعف ومظهره التردد. فأي جيش تقليدي لا ترهبه مواجهة جيش مماثل قدر ما ترهقه حرب العصابات.
*****
لو أن القوة تستند فقط إلى التفوق في نوعية السلاح و الوفرة في أعداد الجنود لما أرهقت المقاومةُ الفلسطينية جنرالات الترسانة الإسرائلية .و لما قهرت خلايا النساءِ النحيلات ورجالُ الغابات المعروقين في فيتنام حمم النابالم الأميركية.ولولا عمق الايمان بعدالة القضية ما هزم قبل ذلك مدرسُ التاريخ فون جوين جياب الضباطَ خريجي الأكاديمية العسكرية الفرنسية في ديان بيان فو.اسرائيل ترفض التسليم بخيار الدولتين لا لأنها تخشى تفوق الدولة الفلسطينية عسكريا . بل لأنها مسكونة برعب الغلبة الديموغرافية .فموازين القوى ليست وقفاً على الترسانة العسكرية فقط ،بل توجد أثقالٌ متباينة؛منها ماهو مادي ومنها المعنوي.
*****
مشعلو حربنا الكارثية يتجاهلون عمداً أو جهلا أثقال القوى ،بما في ذلك العتاد الحربي نفسه. فهم بالإضافة إلى كثرة المقاتلين يغلّبون عنترياتٍ حماسيةً جوفاءَ محشوةً ببشرياتٍ كذوبة وأمنيات خادعة ووعود رغائبية.ففي أُتون هذه الحرب الخرقاء تغيب الموضوعية ،المصداقية والأمانة.فلا طرف يعلن عدد ضحاياه أو حجم خسائره.إنها حربٌ الكذب على الذات مثلما هي على الشعب.في خضم هذا الإفك يجفل أطراف القتال عن التحديق في الغد عمداً إذ أنهم على قناعة بأن المنتصر منهم سيواجه حتماً حرباً لا يعتمد القتال فيها على العتاد العسكري. جنودها أُريد لهم النحر أو الانتحار لكن إراداتهم أكثرُ صلابةً من القوة الصلبة التقليدية.
*****
فعندما تسكن المدافع والطائرات ينفتح الأفق على حرب سياسية وقودها الفكر والمنطق؛ المعارك تدار فيها بالقلم واللسان . إنها حرب قادتها وجنودها أهل قوة الضعف غير القابلة للانكسار .هي حرب قوامها تتظيمات مدنية ليست عسكرية وكذلك تكتيكاتها ومناوراتها.من الثابت المؤكد ألّا موطئ قدم وفتذاك لأي قائد أو ضابط متورط في هذه الحرب القذرة.فمع نهاية هذه المأساة الملهاة غير الوطنية سيحفر شباب الثورة قبورا(لأبطالها). رياح الحرب الحتمية المقبلة تجرفهم حتماّ إلى مهاوي النسيان.فمتى وكيفما تضع هذه الحرب الخاسرة أثقالها يبدأ الشعب صناعة تاريخ جديد لا مساحة فيه لدهاقنة الكذب ، الفساد،الخداع ،التعصب والنرجسية. المعذبون في الملاذات المؤقتة في الداخل والخارج عائدون بقلوب وأدمغة ملؤها حب الدار والعلم .تلك هي الأسلحة الغائبة عن أركان حرب الفوضى المدمِّرة الراهنة.ماركس لم يكن يقرأ في المستقبل ( حينما قال التاريخ يعيد نفسه).
aloomar@gmail.com
بل هي الحطب المُحرِّض على اشعالها. فكل طرف - بغض النظر عن البادئ- تورْط في الحرب من قناعة زائفة بقدرته على ربحها في ضربة قاصمة خاطفة. رغم تبدد هذه الفرضية مع مرور الزمن لا تزال الحسابات الخاطئة بامتلاك القوة الغالبة تهيّمن على العقليتين الدمويتين المدمرتين. كلاهما لا يدركان وجود مبدأ (قوة الضعف). من يدرك تفاصيل هذا المبدأ يضع حتما ضمن تقديراته فرضية خذلان الاعتماد على القوة في حسم الصراع. الطرفان لايزالان يتوغلان في الوهم الزائف دون استعداد للمراجعة والتراجع فيكلفان الشعب والوطن خسائر فادحة. ما أصدق قول رئيس الوزراء الفرنسي الراحل جورج كليمنصو (الحرب أخطر من أن تُترك للجنرالات ).القناعة ب(ضعف القوة)يستوجب كذلك اقتناع بوجود (قوة الضعف).فليس بتفوق السلاح وحده أو كثرة الجنود فقط يتم حسم الصراع او تحقيق الانتصار.
*****
الفهم الخاطئ غيّب عن أصحاب الحسابات الخاطئة استيعاب طبيعة ثورة ديسمبر ومكامن قوتها فعمدوا إلى قمعها حداً بلغ سفك الدم .في حساباتهما المسرفة في الخطايا ظنونهما بأن مايمكن احتواؤه بالعنف يمكن اقتلاعه بمزيد من القوة. كذلك في سياق الفهم الخاطئ التباهي باتساع الانتشار . لكن في الواقع لا جدوى من انتشار لا يفرض الهيمنة. الباحث الفرنسي في العلوم السياسية برتران بادي انشغل كثيرا في سياق مقارباته الفكرية بما اسماه(عجز القوة). هو يرى -لعلها رؤية تحاكم حربنا الكارثية- أن القويَ عاجزٌ طالما لم يستطع تحقيق انتصارٍ حاسم . كذلك يُعرّف بادي القويَ بالقادر على تقديم التنازلات دون وجل مستندا في ذلك إلى فائض قوته الحقيقية. هذا تعريفٌ دونه الأقزام ناشروا النار ،الكراهية والمعاناة في البلد.
*****
ربما لو استعرض باحث عسكري استراتيجي (حقيقي)مسار حرب الحمقى لكشف من ابرز أخطائها التزام الطرفين بتكتيك غبيٍ .فهما اقتحما القتال بغير حذرٍ كاف إن لم يكن بتهورٍ مفرط على نقيض وصية رئيس الأركان الأميركي كولين باول (يجب إختيار معاركنا بحذر وبقوة كبيرة).هي حكمة غابت عن باول وهو وزير للخارجية حينما روّج للحرب على صدام . ففي تلك الغفلة انزلقت اميركا في حرب العراق الثانية إذ أغفلت حساباتها الخاطئة (قوة الضعف) الكامنة في المنطقة فأمست تسدد فواتير مكلفة نتيجة تجاهلها ذلك المبدأ الاستراتيجي . أوسع من ذلك فعلى قدر ما تشغل أميركا من الجغرافيا كامبراطورية للتوحش تتعدد عثراتها وهزائمها ؛بدءاً بالعراق ، فسوريا ، مرورا بفلسطين ثم افغانستان وانتهاء باوكرانيا. إحدى خطايا أميركا رهانُها الخاسر على إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية بالقوة .
*****
كذلك يتجاهل أقطاب حربنا الخاسرة على سواء مع اميركا (قوةالضعف) الكامنة لدى الشعب .كلهم يتقاتلون ويقاتلون متجاهلين حقوق الشعب وحقوق مجتمعه المدني. نلك إحدى خصائص الأنظمة الاستبدادية وطبائعها. فمدى عدالة القضية ورسوخ الإيمان بها في القلوب يشكلان مصدر اً يعزز صعود قوة الضعف الماثلة لدى القوى الضعيفة مقابل موازين غلبة السلاح وكثرة الجنود. فترجيح الغلبة والكثرة لا يوفر شرط امتلاك القوة مثلما لا يعني الضعف فقدان التفوق . غاندي ثبّت وجهه في مرايا التاريخ بتجسيده للعالم معنى (قوة الضعف).الخوف هو جوهر الضعف ومظهره التردد. فأي جيش تقليدي لا ترهبه مواجهة جيش مماثل قدر ما ترهقه حرب العصابات.
*****
لو أن القوة تستند فقط إلى التفوق في نوعية السلاح و الوفرة في أعداد الجنود لما أرهقت المقاومةُ الفلسطينية جنرالات الترسانة الإسرائلية .و لما قهرت خلايا النساءِ النحيلات ورجالُ الغابات المعروقين في فيتنام حمم النابالم الأميركية.ولولا عمق الايمان بعدالة القضية ما هزم قبل ذلك مدرسُ التاريخ فون جوين جياب الضباطَ خريجي الأكاديمية العسكرية الفرنسية في ديان بيان فو.اسرائيل ترفض التسليم بخيار الدولتين لا لأنها تخشى تفوق الدولة الفلسطينية عسكريا . بل لأنها مسكونة برعب الغلبة الديموغرافية .فموازين القوى ليست وقفاً على الترسانة العسكرية فقط ،بل توجد أثقالٌ متباينة؛منها ماهو مادي ومنها المعنوي.
*****
مشعلو حربنا الكارثية يتجاهلون عمداً أو جهلا أثقال القوى ،بما في ذلك العتاد الحربي نفسه. فهم بالإضافة إلى كثرة المقاتلين يغلّبون عنترياتٍ حماسيةً جوفاءَ محشوةً ببشرياتٍ كذوبة وأمنيات خادعة ووعود رغائبية.ففي أُتون هذه الحرب الخرقاء تغيب الموضوعية ،المصداقية والأمانة.فلا طرف يعلن عدد ضحاياه أو حجم خسائره.إنها حربٌ الكذب على الذات مثلما هي على الشعب.في خضم هذا الإفك يجفل أطراف القتال عن التحديق في الغد عمداً إذ أنهم على قناعة بأن المنتصر منهم سيواجه حتماً حرباً لا يعتمد القتال فيها على العتاد العسكري. جنودها أُريد لهم النحر أو الانتحار لكن إراداتهم أكثرُ صلابةً من القوة الصلبة التقليدية.
*****
فعندما تسكن المدافع والطائرات ينفتح الأفق على حرب سياسية وقودها الفكر والمنطق؛ المعارك تدار فيها بالقلم واللسان . إنها حرب قادتها وجنودها أهل قوة الضعف غير القابلة للانكسار .هي حرب قوامها تتظيمات مدنية ليست عسكرية وكذلك تكتيكاتها ومناوراتها.من الثابت المؤكد ألّا موطئ قدم وفتذاك لأي قائد أو ضابط متورط في هذه الحرب القذرة.فمع نهاية هذه المأساة الملهاة غير الوطنية سيحفر شباب الثورة قبورا(لأبطالها). رياح الحرب الحتمية المقبلة تجرفهم حتماّ إلى مهاوي النسيان.فمتى وكيفما تضع هذه الحرب الخاسرة أثقالها يبدأ الشعب صناعة تاريخ جديد لا مساحة فيه لدهاقنة الكذب ، الفساد،الخداع ،التعصب والنرجسية. المعذبون في الملاذات المؤقتة في الداخل والخارج عائدون بقلوب وأدمغة ملؤها حب الدار والعلم .تلك هي الأسلحة الغائبة عن أركان حرب الفوضى المدمِّرة الراهنة.ماركس لم يكن يقرأ في المستقبل ( حينما قال التاريخ يعيد نفسه).
aloomar@gmail.com