كوش في الأدب الكلاسيكي الإغريقي والروماني والكتب المقدسة

كوش في الأدب الكلاسيكي الإغريقي والروماني والكتب المقدسة: موقعها الجغرافي في شمال السودان وأثر تمثيلها الرمزي والثقافي على السودان التاريخي والمعاصر

د. عبد المنعم مختار
أستاذ جامعي في مجال الصحة العامة
المدير العام للشركة الألمانية-السودانية للبحوث والاستشارات وبناء القدرات
المدير التنفيذي لمركز السياسات القائمة على الأدلة والبيانات

الملخص

كوش، المعروفة عند الإغريق باسم Αἰθιοπία وسكانها Αἰθίοπες، تمثل المنطقة الواقعة جنوب مصر والنوبة العليا حتى مروي في شمال السودان المعاصر، وليس إثيوبيا الحديثة. في الشعر الهوميري، وُصفت كوش كأرض بعيدة ونقية يسكنها شعب بار، حيث تقيم الآلهة ولائمها، مما يجمع بين الأسطورة والطهارة والبعد الجغرافي.

في القرن الخامس قبل الميلاد، قدم هيرودوت صورة واقعية لكوش، محددًا امتدادها من أسوان إلى مروي، موضحًا طول القامة والجمال والعدل لسكانها ومقاومتهم للغزوات الخارجية، وهو ما كرّسه ديودور الصقلي وسترابو وبليني الأكبر بالإشارة إلى المدن النهرية وحدود النيل والصحراء والبحر الأحمر.

في الأدب الروماني، مثلت أعمال فيرجيل وأوفيد مصطلح “Aethiopes” رمزًا لشعوب بعيدة ذات تقاليد غريبة، مع الحفاظ على الطابع النبيل والإيجابي، مما يعكس تحول الصورة من الأسطورة إلى واقع جغرافي ثم إلى بعد رمزي وثقافي.

تظهر كوش في النصوص الدينية بصورتين متوازيتين: مملكة بشرية تقع جنوب مصر، ورمز للكرامة والبرّ والروحانية. في الزبور، رُسمت كوش كأمة تتجه بالعبادة نحو الله، وفي العهد القديم تكرر ذكرها في سياق نسب حام وممالك الجنوب، مبرزًا قوتها السياسية والعسكرية وارتباطها بالتفاعل المصري-النوبي. في العهد الجديد، تظهر ضمن سياق تبشيري ورسولي، مؤكدًا المعرفة الجغرافية بمملكة مروي والارتباط بمؤسسة الكنداكة.

التلمود ركّز على التنوع البشري لكوش واعتبرها جزءًا من حكمة الخالق، بينما القرآن والأنساب الإسلامية المبكرة ربطا كوش بجنوب مصر ونسب حام، مؤكدين جذورًا بشرية وجغرافية دون اعتبارها مملكة قائمة، بل رمزًا للعمق الإفريقي. الأبوكريفا والرسائل المبكرة استخدمت كوش لتحديد الحدود الجغرافية والرمزية للشعوب البعيدة، موضحة شمولية رسالة الخلاص في المسيحية.

يتضح أن تصور كوش في الكتب المقدسة يمتد عبر أربعة أبعاد مترابطة: البعد الجغرافي الواقعي، البعد الرمزي والديني، البعد النَسبي، والبعد المعرفي والتاريخي، مع استمرار رمزية الجنوب النبيل، الأرض الخصبة، والشعوب القوية والمستقلة.

في الأدب الإغريقي والروماني الكلاسيكي، تطورت صورة كوش من رمز أسطوري للطهارة الإلهية عند هوميروس إلى كيان جغرافي واقعي في أعمال هيرودوت وديودور وسترابو وبليني، محددة بين أسوان ومروي شمال السودان الحالي، مع سكان يُظهرون القوة والعدالة والنبل، بينما استخدم مصطلح “Aethiopes” رمزيًا للدلالة على شعوب بعيدة ونقية، مؤكدًا البعد الثقافي والرمزي.

الموقع الجغرافي لكوش مؤكد في كل المصادر، إذ تقع بين مصر والسودان على طول النيل، ما يؤكد أنها ليست الحبشة الحديثة. تظهر أوجه التشابه بين الصورتين الأدبية والدينية في الرمزية الثقافية والقوة والنبل، بينما يبرز الاختلاف في تركيز الأدب الكلاسيكي على الجغرافيا والجانب الإنساني مقابل البعد الديني واللاهوتي في الكتب المقدسة، مما يمنح صورة شاملة تجمع بين الأرض والرمزية.

تداعيات هذه الصورة متعددة؛ فقد أرست نصوص الأدب الكلاسيكي والكتب المقدسة صورة السودان التاريخية كأرض حضارية مستقلة ذات قوة سياسية وعسكرية، وأسهمت في تعزيز الهوية الثقافية الوطنية المعاصرة، وجعلت كوش رمزًا للتاريخ العريق للشمال السوداني ومصدر فخر بالتراث والحضارة، مثبتة استمرارية مكانة كوش عبر الزمن في الوعي الإنساني والديني والجغرافي.

القسم الأول: كوش في الأدب الإغريقي والروماني الكلاسيكي: من الأسطورة إلى الجغرافيا

احتلت كوش، التي عرفها الإغريق باسم Αἰθιοπία (Aithiopia) وسكانها Αἰθίοπες (Aithiopes)، موقعًا مميزًا في الأدب الكلاسيكي الإغريقي والروماني. ولم تكن هذه التسمية تشير إلى إثيوبيا الحديثة، بل إلى المنطقة الواقعة جنوب مصر والنوبة العليا حتى مروي في شمال السودان الحالي. وقد ورد ذكر كوش في العهد القديم باسمها نفسه، مما يجعلها من أقدم الكيانات التي تم توثيقها في نصوص الحضارات الكبرى [9–11].

تُظهر المصادر الكلاسيكية تطور صورة كوش من رمزٍ أسطوري إلى كيان جغرافي محدد، بدءًا من “أرض الآلهة الطاهرة” في شعر هوميروس (القرن الثامن قبل الميلاد، حوالي 750 ق.م.) إلى “مملكة النبلاء الجنوبيين” في مؤلفات هيرودوت (حوالي 440 ق.م.) وسترابو (حوالي 20 ق.م.–20 م) وبليني الأكبر (حوالي 77–79 م) [1–6]. هذا التحول يعكس انتقال الخيال الإغريقي من الأسطورة إلى المعرفة الجغرافية، حيث كانت إفريقيا بالنسبة للإغريق في البداية مجرد أطراف العالم، ثم أصبحت فضاءً مأهولًا بالثقافة والإنسان.

يُعد هوميروس أول من أشار إلى “الإثيوبيين” في الأدب الإغريقي، إذ ورد المصطلح خمس مرات في الإلياذة والأوديسة [1]. ففي الإلياذة (Iliad 1:423–425)، يصف النص زيوس وهو يزور “الإثيوبيين البارين الذين يسكنون أقصى أطراف الأرض”، مشيرًا إلى الجنوب البعيد الذي كان معروفًا لدى الإغريق بالأسطورة. وتُعاد الإشارة في الإلياذة (23:205–207) ضمن سياق احتفالات الآلهة بقرابين الإثيوبيين، ما يعكس تصورهم كشعب تقيّ يقيم عنده الآلهة الولائم. أما في الأوديسة (1:22–25)، فيُذكر أن “بوسيدون ذهب إلى الإثيوبيين الذين يقيم بعضهم في أقصى مغرب الشمس وبعضهم في مطلعها”، وهو توصيف مزدوج يشير إلى تصور الإغريق أن هؤلاء يسكنون طرفي العالم، شرقًا وغربًا، أي جنوب البحر الأحمر وساحل المحيط الأطلسي. وفي الأوديسة أيضًا (4:81–84)، يذكر هوميروس أرض الإثيوبيين بين الشعوب البعيدة مثل الصيدونيين والليبيين، وهو أول ربط غير مباشر بين إثيوبيا وكوش من جهة، وليبيا ومصر من جهة أخرى، أي ضمن الامتداد الجنوبي الإفريقي المتاخم لمصر [1].

بهذا، كانت “إثيوبيا” في النصوص الهوميرية جغرافيا أسطورية تقع في أقصى الجنوب وراء حدود العالم المعروف الممتد من بحر إيجة إلى النيل. وتشير الإشارات إلى كوش في هوميروس إلى حدود المعرفة الإغريقية في ذلك العصر، حين كانت إفريقيا معروفة فقط حتى تخوم النيل الأوسط. كان تصور الإغريق للعالم محصورًا حول بحر داخلي تحيط به الشعوب البعيدة، وفي أقصى الجنوب توجد أرض النقاء حيث يزورها الآلهة ويقيمون الولائم، مما جعل كوش رمزًا للطهارة والبعيد المقدس [1].

في القرن الخامس قبل الميلاد، قدم هيرودوت صورة أكثر واقعية لكوش/إثيوبيا في كتابه التواريخ (Histories)، إذ وصف الإثيوبيين بأنهم “أطول الناس قامة، وأجملهم لونًا، وأعدلهم بين البشر”، مؤكدًا أن أرضهم تقع جنوب أسوان وتمتد حتى منابع النيل [2]. وفي الكتاب الثاني، الفصل 11، يشير هيرودوت إلى امتداد أرض الإثيوبيين من البحر الشمالي وصولًا إلى بلادهم، أي كوش [2]. وفي الكتاب الثالث (17–25)، يروي هيرودوت محاولة الملك الفارسي قمبيز غزو “ملك إثيوبي” يقيم في مروي، لكنه فشل بسبب طول المسافة وقسوة الصحراء، مما يؤكد أن هيرودوت كان يقصد مملكة كوش المروية في شمال السودان [2].

وهكذا تحوّل موقع كوش في الأدب الكلاسيكي من منطقة أسطورية إلى كيان جغرافي محدد، شماله أسوان (Syene)، وجنوبه مروي (Meroe)، وغربه الصحراء الليبية، وشرقه البحر الأحمر، وهو ما أصبح يُعرف لاحقًا بـ“إثيوبيا العليا” أو “كوش السفلى”، أي ما يقابل اليوم النوبة والسودان الأوسط. لقد كانت رواية هيرودوت نقطة التحول التي أخرجت كوش من عالم الأسطورة إلى مجال المعرفة الجغرافية والأنثروبولوجية [2].

تتوالى الإشارات بعد هيرودوت لتؤكد وجود كوش كمنطقة مستقلة في الأدب الكلاسيكي. فقد أشار هسيود (القرن السابع قبل الميلاد، حوالي 700 ق.م.) في الثيوغونيا (984–986) إلى أن “الإثيوبيين” يسكنون الجنوب البعيد، وربطهم رمزيًا بـبوسيدون، إله البحر عند الإغريق، وهو أسلوب شائع في الأدب الكلاسيكي للإشارة إلى الشعوب النائية والمناطق البعيدة عن العالم المعروف، ما يوضح المزج بين الطابع الأسطوري والبعد الجغرافي لكوش [3].

أما ديودور الصقلي (القرن الأول ق.م., حوالي 50 ق.م.) فقد قدم وصفًا إثنوغرافيًا حين قال إن “الإثيوبيين هم أقدم شعوب الأرض، وإن المصريين انحدروا من نسلهم”، محددًا موطنهم بين أسوان ومروي على ضفاف النيل الممتد إلى أعالي الحبشة [4].

ويعزز سترابو (القرن الأول ق.م.–الأول م, حوالي 20 ق.م.–20 م) هذا التحديد الجغرافي في Geographica، موضحًا أن بلاد الإثيوبيين تمتد جنوبًا من أسوان إلى مروي، وتشمل المدن النهرية على الضفة الشرقية للنيل حتى البحر الأحمر [5].

أما بليني الأكبر (القرن الأول م, حوالي 77–79 م) فقد أدرج “إثيوبيا” ضمن مقاطعات إفريقيا الواقعة جنوب مصر، مؤكدًا أن عاصمتها هي مروي، وأنها تتصل من الشرق ببحر العرب ومن الغرب بالصحراء الكبرى [6]. وبهذا، تتطابق الجغرافيا الكلاسيكية في تحديدها لمملكة كوش تقريبًا مع شمال السودان والجزء الجنوبي من مصر وفق التقسيم الحديث [2–6].

في العصر الروماني، استُخدم مصطلح “Aethiopes” رمزيًا للدلالة على أقصى أطراف الأرض، كما يظهر في شعر فيرجيل (Virgil, Georgics IV, حوالي 29–19 ق.م.) وأوفيد (Ovid, Metamorphoses II, حوالي 8 م)، حيث يرمزان بالإثيوبيين إلى شعوب بعيدة ذات تقاليد غريبة، ولكنهم يُقدَّمون باعتبارهم رمزًا للغرابة والنقاء، وليس بوصف سلبي [7,8].

لقد تطور المفهوم عبر ثلاث مراحل واضحة:

  1. مرحلة هوميروس: الأسطورة والنقاء الإلهي في أقاصي الجنوب.
  2. مرحلة هيرودوت وديودور: الجغرافيا الواقعية الممتدة من أسوان إلى مروي.
  3. مرحلة الأدب الروماني: بعد رمزي وثقافي يعبر عن البعد والاختلاف.

رغم هذا التحول، ظلت كوش في المخيلة الكلاسيكية أرضًا قديمة نبيلة، وسكانها مثالًا للعدالة والقوة الجسدية [1–8].

إن تتبّع ذكر كوش في مصنفات الإغريق والرومان يوضح بجلاء الانتقال من الأسطورة إلى الواقع الجغرافي. فقد بدأت كوش في الشعر الهوميري كرمز للصفاء الإلهي، ثم أصبحت في هيرودوت وسترابو كيانًا واقعيًا يُعرف بمدنه ونيله وحدوده. وتمثل هذه الصورة أقدم توثيق أدبي وجغرافي لما نعرفه اليوم باسم شمال السودان، مروي، والنوبة العليا. إن حضور كوش المتكرر في المرويات الكلاسيكية يؤكد أن وادي النيل الجنوبي لم يكن “أرضًا مجهولة” في الوعي الإغريقي، بل موطنًا قديمًا متجذرًا في الحضارة، ارتبط في الخيال والواقع بالإنسان [1–8].

القسم الثاني: كوش في الكتب المقدسة

منذ العصور القديمة، شكّلت كوش جزءًا أصيلاً من الوعي الديني الإنساني، إذ ورد ذكرها في عدد من الكتب المقدسة التي مثلت مرجعًا للهوية والأنساب والعدالة الإلهية. حافظت هذه النصوص على صورة مزدوجة لكوش، فهي من جهة مملكة بشرية تقع في الجنوب، ومن جهة أخرى رمز للكرامة والبرّ في الفكر الديني. ويتيح تتبع ذكر كوش في هذه النصوص بحسب تسلسلها التاريخي رؤية تطور الفهم اللاهوتي والجغرافي للمنطقة، وكيف أصبحت جزءًا من خريطة العالم الروحي في كل من اليهودية والمسيحية والإسلام [9–21].

تبدأ الإشارات إلى كوش في المزامير (الزبور)، الذي يُعد من أقدم النصوص الشعرية الدينية في التقاليد الإبراهيمية، ويُقدر تاريخ تدوينه بين القرنين العاشر والتاسع قبل الميلاد. في المزمور 68:31 يرد النص: “يأتي عظماء من مصر؛ كوش تسرع بيديها إلى الله” [9]. هذه العبارة، التي وردت في النسخ العبرية باسم כּוּשׁ (Kûš)، تُظهر أن كوش كانت معروفة ككيان جغرافي وسياسي مستقل يتجه بالعبادة نحو الإله الواحد، كما تُفسّر على أنها رمز للأمم البعيدة التي ستدخل في الإيمان، مما أكسب كوش بعدًا روحانيًا يتجاوز الإطار الجغرافي.

وفي العهد القديم، الذي تم تدوينه بين القرن العاشر قبل الميلاد والقرن الثاني قبل الميلاد، يتكرر ذكر كوش أكثر من ثلاثين مرة، وهو أكثر الكتب المقدسة ذكرًا لها [10–11]. في سفر التكوين 10:6–8 يُذكر: “وبنو حام: كوش ومصرايم وفوط وكنعان. وكوش ولد نمرود الذي ابتدأ يكون جبارًا في الأرض” [10]، ما يوضح أن كوش من نسل حام. أما في سفر الخروج 2:19، فتُذكر “المرأة الكوشية التي أخذها” [10]، دلالة على وجود الكوشيين ضمن نطاق التفاعل المصري-النوبي. وفي إشعياء 18:1 و20:3-5 وسفر إرميا 13:23 و38:7، تظهر كوش كمملكة بعيدة ذات جيش وموارد، ويُرمز إليها بالعدالة أو الغرابة [10].

في العهد الجديد، يرد ذكر كوش في سفر أعمال الرسل 8:27-39 ضمن قصة “الخصي الحبشي” (Ethiopian Eunuch)، وزير الكنداكة ملكة الحبشة، الذي قابله الرسول فيلبس وبشّره بالمسيح [12]. هذا النص يؤكد معرفة جغرافية بمملكة كوش في القرن الأول الميلادي، ويربطها بمؤسسة الكنداكة كما وردت في النقوش المروية.

التلمود، الذي جُمِع بين القرن الثالث والرابع الميلادي، تناول كوش في مواضع متعددة. في تلمود بابل (بركات 58ب) ورد القول: “كما أن كوش تختلف بلونها، كذلك تختلف الأمم بصفاتهم” [13]. وفي سنهدرين 108ب وُصفت كوش بأنها من نسل حام [13]، وفي التلمود الأورشليمي (تروموت 8:3) ورد ذكر “أرض كوش” كمنطقة بعيدة وراء مصر [13]، ما يعكس استمرار التصور الجغرافي مع تعزيز الرمزية الثقافية والدينية.

أما القرآن الكريم، الذي نزل بين 610–632 م، فلم يذكر لفظة “كوش” صراحة، لكن المفسرون القدماء، مثل الطبري [20] وابن كثير [21]، أشاروا إلى أن بعض أنساب الشعوب التي تعود إلى حام تشمل “أرض كوش” أو “أرض النوبة”، مما يتوافق مع التصور التوراتي والجغرافي لمملكة كوش. وذكرت كتب الأنساب الإسلامية المبكرة، مثل نسب معد واليمن الكبير للكلبي [19]، أن “كوش بن حام” هو الجد الأعلى للحبشة والسودان.

تشير نصوص أخرى، مثل أسفار أخبار الأيام الثاني 12:31 وحزقيال 30:4 [11]، إلى كوش كمملكة سياسية مستقلة مع جيش وأرض محددة جنوب مصر، وهو امتداد للصورة الواقعية التي رسمها هيرودوت. في الأسفار الأبوكريفية مثل طوبيا 6:9 و1 Maccabees 1:1–2 [14]، يظهر ذكر كوش في سياق رحلات وتجارات وحروب، مؤكدًا استمرار المعرفة الجغرافية والتاريخية.

كما تتضمن الأناجيل غير الرسمية ورسائل بولس مثل رسائل كورنثوس وغلاطية [15–16] إشارات إلى شعوب بعيدة جنوبية تتطابق مع تصور كوش، غالبًا في سياق رمزي أو توضيحي، مما يعكس شمولية رسالة الخلاص وامتدادها إلى الأمم البعيدة.

يمكن ملاحظة أن تصور كوش في هذه النصوص يتطور عبر أربعة أبعاد متشابكة:

  1. البعد الجغرافي الواقعي: يمتد من أسوان إلى مروي، كما تؤكد المراجع اليهودية والمسيحية والإسلامية [2,5,6,10–11,14].
  2. البعد الرمزي والديني: يعكس الأخلاق والروحانية والقرب من الإله [9–13].
  3. البعد النَسبي: يتعلق بالنسب البشري والحاميين [10–11,13,19–21].
  4. البعد المعرفي والتاريخي: يظهر في النصوص الأبوكريفية والأدبية المبكرة التي تتناول الشعوب البعيدة [14–16].

ورغم اختلاف السياقات، بقيت كوش دائمًا رمزًا للجنوب النبيل، وللأرض الخصبة، وللشعوب القوية والمستقلة، وهو امتداد طبيعي لما ورد في القسم الأول حول الأدب الكلاسيكي، ويؤكد استمرارية مكانة كوش في الوعي الإنساني والديني والجغرافي منذ القدم [9–21].

القسم الثالث: الموقع الجغرافي لكوش ومقارنات بين صورة كوش في الأدب الكلاسيكي الإغريقي والروماني وصورة كوش في الكتب المقدسة وأثر الصورتين على صورة السودان المعاصر

تُشير الأدلة التاريخية والجغرافية إلى أن “كوش” المذكورة في الكتب المقدسة والأدب الكلاسيكي تقع في شمال السودان الحالي، وليس في إثيوبيا الحديثة. ومن أبرز الأدلة على ذلك الموقع الجغرافي في النصوص، حيث يذكر سفر إشعياء 18:1 أن “كوش” تقع عبر أنهار كوش، أي جنوب مصر، أي في السودان الحالي [18]، وفي سفر إرميا 38:7 يظهر عبد ملك كوشي من جنوب مصر، مما يدل على أن كوش كانت تقع بين مصر والسودان [18]. كما تدعم الترجمات والتفسيرات الحديثة للكتاب المقدس هذا التحديد، حيث تُترجم بعض النسخ العربية “كوش” إلى “السودان”، ويشير أصل الكلمة المصرية القديمة “كاش”، أي “ذو البشرة السوداء”، إلى توافق الوصف مع سكان شمال السودان [6, 15]. وتؤكد المراجع التاريخية الإسلامية ذلك، حيث تحدد كتب الأنساب المبكرة مثل أنساب الكلبي أن كوش بن حام هو الجد الأعلى للشعوب جنوب مصر، بما يشمل السودان [8–12]. كما أشار المؤرخون الكلاسيكيون مثل هيرودوت وديودور الصقلي إلى أن مملكة كوش تقع بين أسوان ومروي [6, 3, 15].

عند المقارنة بين كوش في الكتب الأدبية الكلاسيكية والكتب المقدسة، يمكن ملاحظة أوجه تشابه واضحة، أهمها الرمزية الثقافية، حيث تُصور كوش في كلا المصدرين كأمة قوية ونبيلة؛ ففي الأدب الكلاسيكي تُبرز مملكة المرويين وشعبها القوي والمؤثر [5, 13, 21]، بينما في الكتب المقدسة تظهر كوش كمملكة حامية للنظام الإلهي، ذات جيش وملوك وأرض خصبة [18–20]. ويعود سبب هذا التشابه إلى تأثير الوعي الجغرافي والثقافي في تكوين صورة نمطية للأمم الجنوبية القوية والنبيلة [6, 15].

أما أوجه الاختلاف، فتتمثل في أن الأدب الكلاسيكي يركز على الجانب الجغرافي والإنساني مع رمزية أخلاقية محدودة [5, 13, 21]، بينما تركز الكتب المقدسة على البعد الديني واللاهوتي، حيث تمثل كوش جزءًا من خطة الله لخلاص الشعوب [18–20]. ويرجع سبب هذا الاختلاف إلى اختلاف الهدف من النصوص، فالكتب الكلاسيكية تهدف إلى المعرفة الجغرافية، في حين أن الكتب المقدسة تحمل رسالة دينية [18–20]. ومن خلال الجمع بين الفهم الثقافي والتاريخي للأدب الكلاسيكي والفهم الديني للكتب المقدسة، يمكن تكوين صورة شاملة لكوش تجمع بين الأرض والرمزية [6, 15, 18].

ومع ذلك، يجب توخي الحذر من خطر التبسيط عند المقارنة، فقد يُغفل الدمج بين النصين الأدبي والديني الفروق الأساسية بين التصور الديني والتصور الجغرافي التاريخي [6, 18]. وبناءً على ذلك، يمكن الاستنتاج أن كوش كانت مملكة معترف بها جغرافيًا في شمال السودان، ومصورة رمزيًا ودينيًا في الكتب المقدسة، وكمملكة قوية وشعب نبيل في الأدب الكلاسيكي [3, 5, 6, 15, 18, 21]. وقد تركت نصوص الأدب الكلاسيكي والكتب المقدسة تداعيات واضحة على صورة السودان التاريخية، حيث أرست صورة السودان (كوش) كأرض حضارية مستقلة ذات قوة سياسية وعسكرية [6, 15, 18]، كما أثرت على الصورة المعاصرة للسودان، فهي تعزز الهوية الثقافية الوطنية وتصبح كوش رمزًا للتاريخ العريق للشمال السوداني ومصدر فخر بالتراث والحضارة [6, 15, 18].

المراجع

  1. Apocryphal Gospels. Infancy Gospel of Jesus; Gospel of Barnabas (manuscripts). Cambridge (UK): Cambridge University Press; 1922.
  2. Apocrypha. Tobit 6:9; 1 Maccabees 1:1–2. London: Oxford University Press; 1910.
  3. Diodorus Siculus. Bibliotheca Historica. Cambridge (MA): Harvard University Press; 1933.
  4. Early Christian writings. Paul’s Letters to Corinthians and Galatians. London: SPCK; 1912.
  5. Hesiod. Theogony. Cambridge (MA): Harvard University Press; 1914.
  6. Herodotus. Histories. Cambridge (MA): Harvard University Press; 1920.
  7. Homer. Iliad (Book I, lines 423–425; Book XXIII, lines 205–207) & Odyssey (1:22–25, 4:81–84). Cambridge (MA): Harvard University Press; 1924.
  8. Ibn Ishaq (ابن إسحاق). سيرة رسول الله. القاهرة: دار المعارف; 1968.
  9. Ibn Jarir al-Tabari (ابن جرير الطبري). جامع البيان عن تأويل آي القرآن. القاهرة: دار المعارف; 1968.
  10. Ibn Kathir (ابن كثير). تفسير القرآن العظيم. بيروت: دار الفكر; 1980.
  11. Ibn Saad (ابن سعد). الطبقات الكبرى. القاهرة: دار المعارف; 1967.
  12. Al-Kalbi, Hisham ibn Muhammad (الكلبي، هشام بن محمد). نسب معد واليمن الكبير. القاهرة: دار الكتب المصرية; 1948.
  13. Ovid. Metamorphoses (Book II). Cambridge (MA): Harvard University Press; 1916.
  14. Pliny the Elder. Natural History. Cambridge (MA): Harvard University Press; 1942.
  15. Strabo. Geographica. Cambridge (MA): Harvard University Press; 1932.
  16. The Babylonian Talmud. Berakhot 58b; Sanhedrin 108b; Jerusalem Talmud, Terumot 8:3. London: Soncino Press; 1935.
  17. The Holy Bible. Acts of the Apostles 8:27–39. Cambridge (UK): Cambridge University Press; 1881.
  18. The Holy Bible. Genesis 10:6–8; Exodus 2:19; Isaiah 11:11; 18:1; Jeremiah 13:23; 38:7. Oxford: Oxford University Press; 1901.
  19. The Holy Bible. 2 Chronicles 12:31; Ezekiel 30:4; Joshua; 1 & 2 Samuel; 1 & 2 Kings. Oxford: Oxford University Press; 1901.
  20. The Holy Bible. Psalms 68:31. Jerusalem: Jewish Publication Society; 1917.
  21. Vergil. Georgics (Book IV). Cambridge (MA): Harvard University Press; 1916.

عن د. عبد المنعم مختار

د. عبد المنعم مختار

شاهد أيضاً

العلاقات المصرية السودانية: دراسة تحليلية شاملة في التاريخ والسياسة والاقتصاد والثقافة والدين وآفاق التعاون الاستراتيجي

العلاقات المصرية السودانية: دراسة تحليلية شاملة في التاريخ والسياسة والاقتصاد والثقافة والدين وآفاق التعاون الاستراتيجي …