مذكرات مغترب في دول الخليج العربي ( ٧ )

 


 

 

كانَ الأُستَاذ غَسَّان نُوح مُحمَّد أحدَ الاشْرَاقاتِ التي خَفَّفتْ عنَّا لأوَاءَ الغُربةِ في سَنَتِها الأولَى والثانِية ، كانَ مُدَرِّسَاً للاجْتِماعِيات . كانَ حَكِيماً على مَشَارِف الخَمسِين مِن عُمُرِه وكانَ ابنُه الوَحٍيد إياد تِلمِيذاً في المَرحَلةِ المُتوَسِّطة . كان أبو إياد السُّوري الوَحَيد في المدرسة وكنتُ السُّوداني الوّحِيد في بِدَاية العَام الدِّراسي . تَصَادَقْنا وكنَّا نَترَافقُ على المَشَاوِير بين بيشة وتثليث أو العَكْس مرةًّ بِسَيارَتِه وأُخْرى بِسَيارتي وقد أدْخلني إلى عَالَمِ الفَنَّانة اللُبنانِية فَيرُوز ذاتِ الصَّوتِ السُّوبرَانو المُتَفرِّد ( أعْلَى طَبقاتِ الصَّوت النِسَائِيّة ) وقدْ عَشِقْتُ وادْمَنتُ سَماعَ أغانِيها مُنذُ ذلك العَهد . تَصْدَحُ مِن أجْلِ القُدس : " يا قُدسُ يا زَهرَةَ المَدَائن - عُيُونُنا إليكِ تَرحَلُ كُلَّ يَوم - تَدُورُ في أرْوِقةِ المَعابِد - تُعَانِقُ الكَنَائِسَ القَدِيمة - تَمسَحُ الحُزنَ عن المَساجِد " . وكنتُ أقْتَني أشْرِطةَ الكاسِيت الغِنائية كُلَّما سافرتُ إلى الرِّياض العَاصِمة : اغاني مُحمد وَردِي، مُحمّد الأمِين ، الكَابلي ، أحمد المُصطَفي ، سَيِّد خَليفة ، إبراهيم عَوض.... وغيرِهم كُثر ، وكذلك تَسجِيلات أُم كُلثوم ، عَبد الحَليم حافِظ، وردة الجَزائِرية، شادْيَة، وعَبد الوَهَّاب الدُّوكالي. وقد تَجَمَّعتْ لدَي مِن هذه الأشْرِطة الكاسيت كَراتين في آخرِ المَطاف حيثُ تَقْبَعُ الآنَ في مخزنِ البَيتِ الكَبِير في الجَزِيرةِ الخَضْراءَ مِن السُّودانِ الأوْسَط تَلعنُ عَصرَ العَولَمةِ والحَضَارةِ الرَّقَمِية . وقد أسْمعتُ صَدَيقي أبو إياد الكَثيرَ مِن أغاني فَنانِينا ومُطرِبينا الرَّائِعين عندما كُنَّا نَعبرُ الفَيافي بين تثليث وبيشة أو العكس . يَصْدَحُ الكابلي بِأغنية " في عِزّ الليل " فًيَنتَشي غسَّان طَرَباً وتَعترِيني نَشْوةٌ وقَشْعَرِيرةٌ تَنقُلاني مِن جَوفِ الصَّحْراءِ إلى رُبُوع كُلية التَّربِية وكأنني أُشَاهِدُ ال video conference بِتاعَ الأيّام دِية : " في عِز اللَيل ساعةَ النَّسمَة تَرتاح على هَدَب الدَّغش وتَنُوم أنا مُساهر - هدَّ الحيل غَرامَك واجترارَ الذِّكرى وطيفَك في خَيالي يَحوم يا هاجِر ... أنا والليل ومُرّ جَفَاك مُساهْرِين نحْكي للأفْلاَك مُسَامْرِين ... لا خِلصَتْ حَكاوِينا ولا لقِينا ال بِداوِينا ... يا مُشَهِيني طَعمَ النَّوم وطَيفك في خيالي يَحوم يا آسر ...." عِندَها وعلى شَاشَة الذَّاكرةِ العَرِيضة ذاتِ ال 50 بوصة تَنتَقلُ إليك كُلُّ الوَقَفاتِ النَّبِيلةِ والجَلسَات الجَمِيلة على النَّجِيلةِ أو على مَقاعِد الكافتيريا أو البوفية وتحتَ ظِلال الأشْجَار أو حتى المَشاوِير الأنِيقَة بين الدَّاخِليات والكُليَّة وبينَها والمَكتبة ، وفي كلٍّ : رِفقَةٌ طَيِّبةٌ ومَوَدَّةٌ وجَمَالْ ** وحِسَانٌ زَفَّهُنَ شَرقٌ و شِمالْ ** و غَرْبٌ ودَلاَلْ ** ووَسَطٌ يَندَاحُ في ابْتِهالْ .
وتَنسَى نَفسَك في هذه الغَمَراتِ وعَيناكَ مَملُوءتان بألوانِ المَشْهَدِ على شَاشةٍ مُضِيئةٍ تَمَخَّضَتْ عن كُلِّ بَهاءِ السَّنَواتِ الأرْبَع . ثُمَّ فَجْأةً يَنقَطِعُ عَنكَ الإرسَالُ فَتعودَ إلى رُشْدِك هائِماً وَسطَ الرِّمَالْ تَمضُغُ الخَيبَة وسُوءَ المآلْ .
####
إنْضَمَّ إلىَّ مِن التَّربَويين فيزياء 82 الأستاذ الأخ بكري الحسين ومن ثمَّ انْضَمَّ إلى أُسْرةِ المُعَلِّمين في مدرسة تثليث المتوسطة والثانوية وكانَ انْضِمامُه في الفَتْرَة الثانيةِ مِن العامِ الدِّراسي . فكانَ نِعمَ الرَّفيق والصَّديق والمُعِين على الطَّريق وتَوأمَ العُشرَةِ النَّبيلةِ صِنْواٌ للأستاذ غسّان أبو إياد . سنتان وانتهى بِنا العَامُ في تثليث وكَتبَ اللهُ لنا انْتِقالاً إلى الدَّمام في المَنطِقةِ الشَّرقِية ، أمَّا البَكري فنُقِلَ إلى " صَبْيَا " وهي جُزْءٌ من جيزان التي يَنحَدرُ مِنها الخال شَرَاحِيل .

محمد عمر الشريف عبد الوهاب

m.omeralshrif114@gmail.com

 

آراء