مُذَكِّرَاتُ مُغْتَرِبٍ في دُوَلِ الخَلِيجِ العَرَبي (٢٦)

 


 

 

إنتَظمتْ مسيرةُ الأيّام بالنسبةِ لي ولأبنائي بعد أكثرَ مِن شهرين من المُعاناةِ والآلامِ وحُزنِ الفِراقِ المُرِّ . عادَ عُمر إلى مدرستهِ القريبةِ مِن السَّكن وقد كانَ بالصَّفِ الثَّاني الابتدائي وعادَ أحمد إلى الرَّوضَة . عُدتُ إلى العَملِ بِنفسِ المدرسةِ التي كنتُ أعملُ بها قبلَ الحادِث . لمْ أنسَ مَوضُوعَ الماجِستير فَكتَبتُ إلى الجَامِعة والدُّكتور المُشرِف على رسالتي . اعْتَذرتُ عن تأخُّري وشَرَحتُ الظُّرُوفَ الصَّعبةَ التي مَرَرتُ بها وطلبتُ تَمدِيداً للمُدةِ التي كانتْ مُقرَّرة من قبلُ . قَبِلُوا اعتِذاري ووافَقُوا على الزَّمنِ الإضافي الذي طَلَبتُه بَلْ أرْسلُوا إلي عَزاءاً مُفعَماً بالمَشاعِر الإنسَانِية .
واصلتُ الدِّراسةَ والتَّدرِيس وسارتْ الأُمورُ سيراً حَثِيثاً باتِّجاهِ نهاية العام الدراسي ٢٠٠٢ - ٢٠٠٣ م . وبِفَضلِ اللهِ أكملتُ الدِّراسة بِمُناقشةِ مَشرُوعِ البَحثِ وحصلتُ على تقدير +A وبعد وقتٍ قصيرٍ من النَّتيجةِ وصَلتنِي شهاداتُ الماجستير بالبريدِ السَّرِيع FedEx في عِقرِ داري مُوثَقةً ومَختُومةً بأخْتَامِ وَزارةِ العَدلِ والخَارِجية ومُوقَّعةً بِقلَم Collin Powell شَخصِياً وقد كانَ وزِيراً للخارِجيةِ الأمَريكية آنذاك . ليسَ هذا فَحَسب ، بل أرفَقُوا معها بعضَ الهَدايا الصَّغيرَة والقَيِّمة .
شَرَعتُ قبلَ نهايةِ العامِ الدِّراسي وحُلولِ الإجازةِ الصَّيفيةِ في البَحثِ عن مَسكنٍ بَديلٍ حتى أتْرُكَ الدَّارَ التي غَمَرتْها أُم أُسامة بالحُبَّ والعطفِ والحَنَان وتَركَتْ في كُلِّ رُكنٍ عَبَقاً وعلى كُلِّ فَرْشٍ وطاوِلةٍ بَصمَةً من رُوحِها الشَّفيفةِ وظِلاً من بهائِها . وطُيفُ الزَّوجةِ الحَبِيبةِ جُزءٌ من الدَّار وأهلِها لا يُفارِقُهم ويَظلُّ يُهَوِّمُ في أجْنِحة الدَّار لا يُفارِقُها ليلاً واحداً حتى يُفارِقُونَها ، فآثرتُ أنْ أفَارِقَها - أي الدَّار . " وما حُبُّ الدِّيارِ شَغَفنَ قَلبي ولكنْ حُبَّ مَنْ سَكَنَ الدِّيارَ " .
الحَمدُ للهِ وجدتُ بيتاً كبيراً في حيٍ آخر به ثلاثُ غُرف ومَجلِسٌ واسِعٌ ( صالون ) وصالةٌ ومَطبَخ وحمَّامَين وأمامَه حُوش . وأمامَ مُربَّع البيتِ وماجاوَرهُ مِن بُيوتٍ أرضِيةٍ وليستْ عَمارَات مَيدَانٌ فسيحٌ خالٍ رُبَّما يكونُ مُخَطّطاً لِمُنتَزهٍ أو حديقةٍ . استَبشَرتُ خيراً بهذا البيتِ فاستَأجَرتُه بالرَّغم مِن غلاءِ الإيجار . ثُمَّ طَفِقتُ أُجَهزُه بالنَّظافةِ والسَّتائرِ لنَنقُل إليه متاعَ شُقتِنا قبل أنْ نُسافِرَ في الاجازةِ الصَّيفِية .
وجَدتْ الوالدةُ أثناءَ إقامَتِها بالجُبيل احتفاءً كبيراً مِن كُلِّ النِّساءِ رَبَّاتِ الأُسرِ السُّودانية في البلدةِ والبلداتِ المُجاوِرة . كُنَّ يَزُرنَها باستِمرارٍ وخاصَّةً في عُطلةِ نهايةِ كُلِّ أُسبُوع .
وقبلَ حُلولٍ امتحاناتِ نهايةِ العامِ الدِّراسي استًلمتُ خِطابَ شُكرٍ مَصحُوباً بإشعارِ إنهاءِ خِدمة مُعلِّم مُتعَاقِد مِن طَرفِ إدارةِ التَّعلِيم بالمَنطِقة الشَّرقِية بالدَّمام ، وكانَ السَّببُ إحْلالْ سَعودِي فقلتُ " جاءَ زمانُ السَّعودة " ! إحدى وعشرون عاماً في خِدمةِ التَّعليمِ والمَدارِس السَّعودية . ثُمَّ إنَّ المُصائبَ لا تأتي فُرادَى - أو كما قالُوا !!!

محمد عمر الشريف عبد الوهاب

m.omeralshrif114@gmail.com

 

آراء