نحن و هُم : أزمة الضمير في السودان (2)

 


 

جبير بولاد
6 August, 2024

 

• جبير بولاد

( ما دام ثمة أغنياء و فقراء بالولادة، فأنه لا يمكن أن يوجد عقد عادل، و لا توزيع عادل للشروط الإجتماعية )
إميل دوركايم

.. نستمر في هذه السلسلة في حلقتها رقم (2) الي السير في تتبع البنيات الأولية لأزمة الضمير في السودان، و بدأنا ببنيات الوعي الأولي للنشأة داخل حواف الأسرة ثم المحيط المسؤولان عن تشكلات تصوراتنا عن الآخر ، و كانت بأستمرار تُغذي هذه التصورات عن الآخر في المخيال حول الاختلافات و التمايزات، بالرغم من أن الناظر الي مجتمعات السودانيين من الخارج فأنه لا يري فروقات كبيرة في طبائع حياتهم و أمثالهم و نشاطاتهم و قوانينهم الإجتماعية و في مواسم الزراعة و ما يتبعها من علاقات الأرض او سير الرعي في احزمته الممتدة او طرائق الزي شمالا أو وسطا او شرقا او غربا مع اختلافات طفيفة هنا و هناك اقتضتها اختلافات المناخ و تواريخ تطور الأزياء نفسها .
.. ايضا قلنا ان المجاورة في السكن التي فرضتها المدن حظيت بمزاحمة و شيئا فشيئا نبتت فكرة المعايشة من غير ان يتبعها مشروع ثقافي/ اجتماعي ترعاه الدولة و لكن في نهاية المطاف، قانون الصدفة و الذي يلعب دورا كبيرا في الحياة السودانية، لعب دوره و نبتت الوشائج في المدن و الاحياء الشعبية و أقصد بقانون الصدفة هو الأمر الذي يقود الي أشكال جديدة في الحياة دون التخطيط لها، و كان يلزمنا هذا التخطيط في مجتمعات حديثة التكوين تتخلق لتكون فكرة و صُرة لُحمة الشعب فيما بعد ، و كما هو معلوم أن المجتمعات قديمة و لكن فكرة الشعب نفسها حديثة نوعا ما في تاريخ العالم (مقارنة مع تاريخ الدولة الحديثة) ناهيك عن تاريخنا كسودانيين ، إذ أن فكرة الشعب و العمل علي خلق مركزية لها هي عمل منظم و مخطط يقوم به آباء التأسيس (السياسي و الثقافي و الاجتماعي ) من مكونات المجتمعات ككل و بالذات في المجتمعات ذات التعدد اللغوي و الثقافي و الآثني كمثل ما عندنا في السودان .
.. أول نخبة حاولت صياغة مضمون فكرة الشعب كانت في النصف الثاني من حكم المستعمر الإنجليزي ( جمعية اللواء الابيض ) لذلك طبيعيا ان يحدث هذا التساؤل و الذي ما زال مُشتعل حتي الآن حول الهوية، و عدد من المثقفين السودانيين يرونه سؤالا جدليا انصرافيا، أخذ من وقت السودانيين الكثير دون طائل و لكنهم لم يستصحبوا معهم ضرورات نشأته المنطقية، و لا العقبات السياسية و السلطوية التي حالت دون حسمه من وقت مبكر، و لذلك تفجّر فيما بعد السؤال بقوة لتقوم عليه ايدولوجيات سياسية (قومية) و كيانات مقاتلة ( حركات التمرد) .
.. عندما نتحدث عن الوطن، فلكل ذات تولد ( الفرد أو المجموعة) تصورها عن الوطن بطبيعة الحال، هذا التصور يتمرحل مع سنوات العمر و تفتحات الوعي المستمرة، و لكنه يأخذ معناه الاسمي في الوطن الكبير ، الذي يمثل الشراكة في الأرض التي تجمع بين مجتمعاتها فكرة المواطنة و حقوقها و شعور الذات بتمثل كل ذلك عن رضا و قناعة و وشيجة محبة و هذه التوليفة لا تأتي مجانا، بل يلزمها عمل دؤوب من قادة الدولة و مثقفيها و سياسيها و رموز مجتمعاتها و ينطوي كل ذلك تحت مشروع ثقافي/ اجتماعي يعلي بأستمرار من الشعور تجاه الوطن و ينمي روح الإنتماء إليه بدءا من الاسرة كأول نواة للذات ، حينها يكون الشعب له دلالته الحية في رحم دالة الوطن و هذا بطبيعة الحال لم يحدث عندنا بهذا النسق الذي أشرنا إليه، فقد كان دوما الوطن مفصّل علي شاكلة و عقلية من قادوا الدولة السودانية في حقبها المتلاحقة و صغروا و قزموا صورة الوطن منذ تقسيمة ال(نحن) و ال(هُم) والتي ظلت توسع الفجوة بأستمرار في مخيال الذات في أولي تشكلاتها و هذا الأمر تمظهر لاحقا في خلق تراتبية اولاد البلد و الآخرون التُبّع مما أسفر عن ظاهرة حركات التمرد كحركات حركتها مخاوف المستقبل من المستعمر المحلي الجديد ، لذلك كانت أولي دفوعات تمردها هي تحرير السودان! و هنا يأتي السؤال الذي يازور عنه العقل السوداني الصفوي الذي تحّكم و تسّيد المشهد السياسي و الثقافي و الاجتماعي السوداني، ممن يكون التحرير الذي ينادي به شركاء الوطن ؟ و لماذا التمرد لم يكن شعاره التغيير فقط، أي تغيير السلطة و دلف مباشرة الي مفردة التحرير ؟!
.. للإجابة علي هذه الاسئلة تلزم شجاعة قوية لم تسعف توليفة السلطة(سياسية / ثقافية/ اجتماعية ) حيث جِبن الضمير لديهم عن الإجابة و اختاروا البقاء في حضن الامتيازات التي تمثلت في حق التمثيل الثقافي و الرأسمال الإجتماعي و ضمان الوظائف المتعلقة بأحتكار السلطة من خلال ضمير أضمر أبعاد الآخرين من شركاء الوطن و قليلي الحيلة في تلك الأوقات المبكرة من عمر الدولة السودانية و كان الذي يتمشق عناء الإجابة من هذه الصفوة، تأتي إجابته مثل افعي تتلوي في الاحراش لا تكاد تستبين رأسها من ذيلها .
نواصل

jebeerb@yahoo.com
//////////////////////

 

آراء