في محيطه العربي، سبق الشعب السُّوداني الشعوب العربية الأخرى “الربيع العربي”، والتجارب الأفريقية، بتحقيقيه لثورتين/انتفاضتين شعبيَّتين أسقطتا نظامين عسكريَّين استبداديَّين، في الستينات (1964) والثمانيات (1985) من القرن المنصرم. فرضت الثورتان، بقدر كبير من التشابه، انتقالا سلميا للسلطة وتحولا ديمقراطيا من نظاميين عسكريين استبداديين إلي نظام برلماني منتخب خلال فترة لم تتجاوز العام في كلا الحالتين. وها هو الشعب السوداني يفاجئ محيطيه العربي والأفريقي، بل وبهر العالم بأجمعه، بالثورة "الثالثة"، في ديسمبر 2018، بعد انتظام حراك شعبي واسع ومتفرد، قوامه الشباب وعماده المرأة السودانية، دام لأكثر من أربعة أشهر ليطيح بنظام مستبد احتكر سلطة الدولة وتمكن في مؤسساتها لثلاثين عاما.
لا شك، أن ثورة ديسمبر تختلف عن سابقتيها في 1964 و1985 من نواحي طبيعة نظام الإنقاذ وتطاول بقائه على سدة الحكم، وطبيعة المعارضة السياسية المدنية والعسكرية، وطول أمد الحراك الجماهيري، والمشاركة النوعية للشباب والنساء ومضامين شعارات الثوار، ودرجة ومدى تعقيد عملية انتقال السلطة وترتيبات الانتقال، في سياق ظروف داخلية واقليمية ودولية بالغة الاختلاف. ومع ذلك، يظل القاسم المشترك للثورات الثلاث هو انحياز القوات المسلحة لخيار الشعب، أن الاتتقال يتم عن طريق حكومة انتقالية، ولو اختلفت فترة تكليفها، تتوافق على تشكيلها القوى السياسية والنقابية، يرأسها أحد التكنوقراط من غير المنتمين حزبيا، ومهمتها الرئيس هي الاعداد وتهيئة المناخ لقيام لانتخابات حرة ونزيهة.
وبالرغم من نجاح التجربتين، أكتوبر 1964 وأبريل 1985، في عملية الانتقال السلمي للسلطة إلي حكومة منتخبة، إلا أن الثورة لم تبلغ هدفها الرئيس في تأسيس واستدامة نظام حكم ديمقراطي حقيقي، يلبِّي طموحات قوى التغيير. فقد ارتدَّت على أعقابها، ليعود حُكمُ الفرد أو الحزب الواحد، ويتعثَّر بناء دولة المواطنة والديمقراطية، المستوعبة لتعدُّد وتنوُّع مكوِّنات السُّودان السياسيَّة والإثنيَّة والدينيَّة والثقافيَّة. وبالطبع، لم يحن الوقت بعد لمعرفة نتائج انتقال السلطة الذي فرضته ثورة ديسمبر المتفردة ومدى التحول الديمقراطي الذي ستحققه وآفاق استدامته.
حفزني ذلك لمحاولة قراءة تجربة الانتقال الراهنة ومالآتها المستقبلية في سياق مقارن مع تجارب التحول الديمقراطي في القارة الأفريقية، عوضا عن الاستغراق في المحلية السودانية، عسي أن أتعرف على حالات انتقال مشابهة مما يصلح للمقاربة والمقارنة، واستلهام الدروس واستخلاص العبر من التجارب المختلفة والاستتفادة منها لصالح تحقيق أهداف الثورة. ذلك، خاصة وقد كنت مهتما ومهموما بقضية الانتقال وتحدياته منذ سنوات مضت حينما لم تكن هذه المفردة واردة في حسابات الكثيرين، بل انصب جل الاهتمام واقتصر على الحراك لإسقاط النظام.
بعد طواف سريع على الكتابات والدراسات حول موضوع الانتقال السياسي، لا تخطئ العين أن الغالبية العظمى من حالات التحول الديمقراطي في أفريقيا تأخذ أنماطا ومسارات مختلفة من الانتقال المتدرج نحو الديمقراطية. ذلك، بمعنى أن تكون الدولة قد مرت بحكم عسكري شمولي، أو اقتتال أهلي، ومن ثم ينتقل إلى نظام استبدادي-انتخابي، تفرضه الاحتجاجات المطلبية والشعبية والعمل السياسي المعارض والضغوط الخارجية، ويكون قابل للتغيير الدستوري عن طريق الانتخابات، بحيث تتمكن الأحزاب المعارضة من هزيمة الحزب الحاكم والوصول إلي السلطة (مثلا: غانا، نيجريا، زامبيا، زمبباوي، السنغال، تنوانيت، ليبريا، كينيا، مالي، توقو، أنقولا). ومع ذلك، تحتلف درجات النجاح في التحول الديمقراطي الحقيقي، بمعيار الانتقال إلي نظام حكم تعددي يتم تداول السلطة فيه لأكثر من دورة انتخابية وفقا للدستور، بين تجربة وأخرى. بينما هناك دول حققت نجاحا ملحوظا، بمعيار استدامة التداول السلمي للسلطة عن طريق الانتخابات الدورية لفترة طويلة لم تتخللها انقلابات عسكرية أو حكم شمولي استبدادي، كما تشهد، على وجه المثال، تجارب بوتسوانا وناميبيا وكيب فيردي وموريشس.
وعلى نمط مغاير، تجدر الإشارة هنا إلى تجربة الجارة إثيوبيا في مشوارها الطويل نحو انتقال السلطة والتحول الديمقراطي. فلم تشهد البلاد في تاريخها السياسي انتخابات ديمقراطية متعددة حقيقية يعتد بها إلا في مايو 2005، بالرغم من استمرار الهيمنة السياسية لحكم تحالف الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا بعد إطاحتها، عسكريا، بنظام مانغيستو هايلي مريام في مطلع التسعينات من القرن الماضي. ومع ذلك، فإنه نتيجة لتصاعد الاحتجاجات الشعبية والمطلبية والمطالبة بالحريات السياسية والدعوة إلى التغيير، وللصراعات الداخلية بين مكونات التحالف الحاكم، آلت قيادة الحكومة إلى أبي أحمد في فبراير 2018. لم يتردد رئيس الوزراء الجديد في اتخاذ خطوات جادة وحاسمة نحو تحول ديمقراطي حقيقي، شملت: رفع الحظر على الأحزاب السياسية، الإفراج عن عشرات الآلاف من السجناء السياسيين، رفع بعض القيود عن الحريات، محاكمة المسؤولين المتهمين بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، الترحيب بالمجموعات المحظورة سابقًا في إثيوبيا، والتوصل إلى سلام مع الجارة إريتريا، واتخذت خطوات أولى إيجابية لضمان إجراء انتخابات حرة ومستقلة. فهل ستقوم الانتخابات في مواعيدها المقررة في 2020، ليتمكن رئيس الوزراء من استدامه ما ابتدره من تحول ديمقراطي مذهل في فترة وجيزة؟
ربما تكون بوركينا فاسو هي الاستثناء الوحيد في دول أفريقيا جنوب الصحراء التي شهدت تجربة مماثلة لانتفاضتي الشعب السوداني في 1964 و1985 وثورة ديسمبر 2018 الماثلة، حيث يتم انتقال السلطة فيها من نظام استبداي-انتخابي إلي حكومة انتقالية تشكلها قوى التغيير السياسية والنقابية تفضي إلى انتخابات ونظام ديمقراطي تعددي. وتعد تجربة بوركينا فاسو في التحول الديمقراطي من التجارب الناجحة بامتياز. فبعد تراكم من المقاومة السياسية والشبابية والشعبية تمت الإطاحة بنظام الرئيس كومباوري الحاكم لسبعة وعشرين عاما، في نهاية أكتوبر 2014، وتحقق هدفها المعلن لتشكيل حكومة مدنية تقود فترة انتقالية لمدة عام واحد. مع ذلك، لم ينجح انقلاب نفذته مجموعة من الحرس الجمهوري، من الموالين للرئيس المخلوع، على مشارف نهاية الفترة الانتقالية في تعطيل عملية التحول الديمقراطي. فاندلعت موجة ثانية من الحراك الشعبي احتل خلاله الشباب الساحات العامة في العاصمة وتدفقت الحشود إلي ثكنات الجيش، ووضعوا المتاريس في الشوارع الرئيسة (كما حدث في الخرطوم بالضبط). فلم يمض اسبوع واحد حتى عاد الرئيس ورئيس الوزراء الانتقاليين إلي السلطة واجريت الانتخابات في مواعيدها لتأتي برئيس منتخب في نهاية نوفمبر 2015. وبالرغم ما يواجه يوركينا فاسو من تحديات اقتصادية وأمنية، وتهديدات المليشيات الإسلامية المسلحة، احتجاجات شعبية متواصلة، إلا أن توافق القوى السياسية والمجتمعية مصممة على إجراء استفتاء على دستور جديد تمهيدا للانتخابات القادمة في 2020.
وخلافا لمسارات التحول الديمقراطي السائدة في غرب وجنوب وشرق القارة، يبدو أن ثورات الربيع العربي، في شمال أفريقيا هي أقرب التجارب للنموذج السوداني في عملية انتقال السلطة، خاصة مصر وتونس، وذلك بغض النظر عن اختلاف النتائج والخصائص النوعية التي تميز كل تجربة عن الأخرى. وبتدقيق النظر، تكاد التجربة المصرية أن تتطابق مع تجربة الانتقال الثالثة التى تشهدها البلاد الآن، من ناحية طبيعة وشكل حكومة الانتقال. ففي أعقاب ثورة/انقلاب 30 يونيو توافقت قوى "جبهة الانقاذ الوطني" مع قادة الجيش على خارطة الطريق/المستقبل، التي بموجبها تم تشكيل حكومة من الكفاءات الوطنية المصرية، برئاسة د. حازم الببلاوي، ولو بمشاركة بعض الرموز من السياسيين من الجبهة في يوليو 2013، وهو مفكر واقتصادي مرموق شغل لفترة منصب السكرتير التنفيذي للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لغرب آسيا. ورث رئيس الوزراء الانتقالي تركة مثقلة من تدهور اقتصادي واضرابات عمالية وفئوية واضطراب سياسي بعد الإطاحة بحكومة الأخوان المسلمون. تلقت حكومة الببلاوي دعما ماليا كبيرا من الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، للمفارقة، بلغت قيمته 8 مليار دولار أمريكي التي طالب بها رئيس الوزراء السوداني لتغطية الواردات والمساعدة في إعادة بناء الاقتصاد. مع ذلك، وبالرغم من توفر بعض التأييد الشعبي ومناصرة من الجيش للببلاوي، لم تنجح حكومتة في إنجاز أهم أهداف الفترة الانتقالية، فقدم استقالته بعد أقل من ثمانية أشهر، في فبراير 2014. بينما يرجع هذا الفشل، جزئيا، إلى الأزمة الاقتصادية من غلاء في الأسعار وتردي في الخدمات العامة، إلا أن السبب الأساس هو فشل رئيس الوزراء في تحقيق القدر المطلوب من التوافق السياسي. فمع تصدع تحالف جبهة الإنقاذ الوطني المشارك في الحكومة، عجز الببلاوي عن الحفاظ على تماسك التحالف العريض المكون من غالبية الشعب والجيش والأحزاب السياسية والقوى المدنية. بينما كان هذا التماسك هو كلمة السر وراء نجاح التجربة التونسية في الانتقال والتحول الديمقراطي. فلم يتمكن رئيس الوزراء من تشكيل اللجنة العليا للمصالحة الوطنية، أهم مستحقات خارطة الطريق/المستقبل، مما فاقم الانقسام السياسي والمجتمعي في البلاد.
*كلمة المرور للعبور!* وبذلك، يدلل هذا الطواف على تجارب انتقال السلطة والتحول الديمقراطي في أفريقيا على أن كلمة المرور للعبور بالبلاد إلى بر آمن، وهو الهدف الرئيس الذي حدده رئيس الوزراء، د، عبد الله حمدوك، تكمن في خلق أكبر قدر من التوافق السياسي-المجتمعي. ومن ناحية أخرى، التوصل إلى هذا التوافق هو الطريق الوحيد لضمان وحدة وتماسك القوات المسلحة السودانية لتتفرغ إلى القيام بدورها الدستوري في حماية تراب الوطن والنظام الديمقراطي في البلاد. فعلى رئيس الوزراء أن يوفر قيادة حقيقية لعملية الانتقال السلمي للسلطة، تتضمن خارطة طريق واضحة، وإبتداع آلية تضمن التفاف غالب القوى والسياسية والمجتمعية حول برنامج حكومته، حتى ترسو سفنها على هذا البر الآمن. فمن المهم أن تجد القوى السياسية والمجتمعية، التي تشعر بالإقصاء عن المشهد السياسي، نفسها في إدارة الانتقال حتى وإن لم تشارك في السلطة مما يحفزها لدعم الحكومة في تحقيق أهدافها. فقد تعهد حمدوك، في أول مؤتمر صحفي له بعد أداء القسم، بأنه سيكون "رئيس وزراء كل السودان"، ولو أن قوى الحرية والتغيير هي التي أتت به لهذا الموقع. فعلى حد تعبيره *"دعونا نعمل مع بعض من أجل وطن ونظام ديمقراطي تعددي نحترم فيه اختلافاتنا.. نرغب في العبور ببلادنا إلى رحاب أفضل".* ومن الأفضل أن لا يقتصر تمثيل هذه القوى في المجلس التشريعي وأن يتم اشراكهم في المفوضيات القومية المستقلة، التي يعد تشكيلها أحد اختصاصات مجلس الوزراء كما نصت عليه الوثيقة الدستورية.
بذلك، لا أدعو رئيس الوزراء، ولا ينبغي لي، للقطيعة مع التحالف السياسي التي أتى به إلى هذا الموقع، ولكن الإدارة الفالحة لانتقال السلطة لها شروطها. فبالاستعارة من لغة أهل كرة القدم، يحتاج رئيس الوزراء إلى ظهيرين سياسيين، أحدهما في خانة الشمال والثاني على اليمين، وإلى ثالث فى الوسط في خانة الستوبر! بل أن تحالف قوى الحرية نفسه مطالب بتوسيع مواعينه وقاعدته السياسية وأن يمد أيديه للقوى السياسية الأخرى التي استثناها التحالف نفسه من تحمل وزر المشاركة في النظام البائد حتى لحظة سقوطه. تشمل هذه القوى؛ الحركات المسلحة الموقعة على اتفاقيات السلام مع النظام السابق، والإسلاميين الذين نفضوا إيديهم عن النظام البائد قبل سقوطه، بل وساهموا في هذا السقوط، بالإضافة إلي القوى الاجتماعية الأخرى من الطرق الصوفية ورجال الدين والإدارات الأهلية. في رأيي أن عزل هذه القوى من المشاركة في إدارة الانتقال سيدفعها إلى اللجؤ للمعارضة من داخل البرلمان وخارجه مما يضع العصي في دواليب الحكومة ويعرقل عملية الانتقال السلمي برمتها. حقيقة، إن الفترة الانتقالية لا تتحمل مثل هذه المعارضة. وقبل ذلك كله، على قوى الحرية والتغيير أن تحافظ على تماسكها وتتجاوز ما وقع من شرخ بين مكوناتها المدنية والمسلحة، بسبب هذه المشاركة في الفترة الانتقالية، وضرورة توفير قيادة ورؤية واضحة تعزز من ثقة الثوار والشعب السوداني بأجمعها في التحالف، لكي تتفادى مصير جبهة الانقاذ الوطني في مصر. وهذا، يستدعي أن تكون مكونات تحالف قوى الحرية والتغيبر أيضا متماسكه تنظيميا وتمتلك قاعدة شعبية، فإن نجاح أي تحالف سياسي في تحقيق أهدافه مرهون بقوة هذه المكونات كل واحدة على حدة، بمعنى أن لا يقوم على علاقات "أفقية" بين القيادات فحسب. فمع أن وحدة التحالف ضروريَّة ولازمة في كُلِّ الأحوال، إلا أنه إذا لم تُخاطِب الأحزاب مشكلاتها الداخليَّة وتُؤسِّس كياناتٍ متماسكة، تقوم على العلاقة الشفَّافة بين القيادة والقواعد، فكيف لها أن تقود وتعزز عملية التحول الديمقراطي عبر انتخابات قادمة، لا محالة؟
ومع ذلك، فلن يكتمل عقد التوافق السياسي-المجتمعي المطلوب بحصره فقط على توافق الأحزاب والتنظيمات السياسية واغفال الشباب والمرأة، والقوى الاجتماعية الصاعدة في مناطق النزاع المسلح، في جنوب كردفان ودارفور والنيل الأزرق، والشرائح الفئوية من مهنيين وعمال ومزارعين. أولا، فإنه من الضروري استيعاب الشباب، وهم من فجر الثورة، والاستماع لكلمتهم، والاستجابة لتطلعاتهم ومطالبهم، وابتداع الآليات المناسبة لدمجهم وتمكينهم في مؤسسات الدولة ليكونوا شركاء في صناعة القرار السياسي في مواقع السلطة التنفيذية المختلفة. ثانيا، هناك حاجة ملحة لصياغة عقد اجتماعي ينظم العلاقة بين الحكومة والحركة النقابية، وذلك وفق قانون جديد ينظم العمل النقابي بما يدعم عملية التحول الديمقراطي بدلا عن وضع المتاريس في طريق الحكومة الانتقالية. فقد أسهمنا نحن في التجمع النقابي، في أبريل 1985، نتيجة لخلطنا ل"السياسة" ب"النقابة"، في وضع العراقيل في طريق الحكومة المنتخبة بتصعيد المطالب الفئوية مما أضعفها في وجهة معارضة الإسلاميين الشرسة لها حتى تمكنوا من الإنقلاب عليها وعكس مسار التحول الديمقراطي في 30 يونيو 1988. ولذلك، ف"تجمع المهنيين" مطالب باستدعاء تجربتي "جبهة الهئيات" في أكتوبر 1964 و"التجمع النقابي" في أبريل 1985، واستذكار الدروس واستخلاص العبر منهما.
ثالثا، وفوق ذلك كله، يمثل السلام الشامل والعادل الباب الأوسع لتحقيق التوافق السياسي الشامل. حقا، فلقد وضعه رئيس الوزراء على رأس اولويات حكومته، ولكن كيف نتوصل إلى السلام المستدام، الذي ظل هدفا معلنا، تروج له كل حكومات ما بعد الاستقلال، المدنية منها والعسكرية؟ بل، وألم تتوصل كل هذه الحكومات إلى اتفاقيات سلام مع حركات المقاومة المسلحة قادت آخرها إلى تقسيم البلاد؟ فتحدي السلام هذه المرة أضحى الآن أكثر تعقيدا كونه مرادفا لعملية تحول سياسي واجتماعي عميق لم يتوفر لثورتي أكتوبر وأبريل، وذلك على أنقاض نظام استبدادي دام لثلاثين عاما، تبدلت فيه الأوضاع الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية، خاصة في أعقاب ترتيبات اتفاقية السلام الشامل التي أفضت إلي ذلك الانقسام. وهكذا، فإن ما تبع انفصال الجنوب من ثورات مسلحة في جنوبه البلاد وغربها وشرقها (الجنوب الجديد) يفرض نفس الأجندة التي تضمنهتا الاتفاقية من قضايا تتصل بإعادة هيكلة الدولة السودانية بما في ذلك ترتيبات أمنية شاملة نحو بناء جيش وطني كامل الدسم، والوحدة الطوعية وفصل الدين عن الدولة. ما سيتم طرحه على طاولة مفاوضات السلام هي نفس قضايا المؤتمر الدستوري التي ظل مطلبا لقوى المقاومة المسلحة تتمسك بقيامه منذ أن دعى له جون قرنق في النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي. فقد كانت هذه القضية هي العقدة الرئيسة التي حالت دون انخراط حركات المقاومة المسلحة في العملية السياسية القومية والمشاركة المتكافئة في التقرير بشأن مستقبل السودان، قبل الثورة عبر حوار "الوثبة".
وبذلك، فقد تكون "مفوضية السلام"، التي أقرتها الوثيقة الدستورية كآلية للتوصل إلى سلام شامل، بمثابة مؤتمر دستوري مصغر أو تمرين ساخن يسبق المؤتمر، طالما ستضمن مخرجاته في الوثيقة الدستورية، بحكم نصوصها. ومع ذلك، فكيفية تفصيل مهام المفوضية وتشكيلها وعلاقتها بالمؤتمر الدستوري، ما تزال أمور عالقة ويشوبها بعض الغموض. فالوثيقة تنص على أن يكون "العمل على إيقاف الحروبات والنزاعات وبناء السلام" على رأس اختصاصات مجلس الوزراء، مع ترك أمر تعيين رئيسي مفوضيتي "السلام" و"صناعة الدستور والمؤتمر الدستوري" لمجلس السيادة، إضافة إلى رعايته لعملية السلام، دون تصور أو تحديد لدور كل من مجلسي السيادة والوزراء. بينما خلت الوثيقة الدستورية من أي ذكر للمؤتمر الدستوري غير الإشارة إليه عبر أمر تشكيل المفوضية ووضع المؤتمر كإحدى مهام الفترة الانتقالية، على أن يتم عقده في نهايتها، ولو بدون سقف زمني محدد. هذه الفجوات قد تفضي إلى نشوب نزاع حول الاختصاصات في داخل مجلس السيادة، بحكم تكوينه، من جهة، وبينه وبين مجلس الوزراء، من جهة أخرى، بما قد يعرقل العملية السلمية. في رأيي، وبغض النظر عن نصوص الوثيقة، لن تجدي صناعة السلام إن لم يكن هدفها النهائي هو ضمان تحول حركات المقاومة المسلحة إلى تنظيمات سياسية مدنية ومشاركتها في الانتخابات العامة بعد انقضاء الفترة الانتقالية، وإلا فسوف حتما نعود إلى مربعنا القديم، إن لم نسقط إلى الهاوية! أفليس من الممكن سياسيا الجمع بين صناعة السلام والمؤتمر الدستوري في مفوضية واحدة؟ وذلك، بحيث يشرع في التفاوض حول الترتيبات الأمنية الشاملة بالتوازي والتزامن مع الحوار حول القضايا الدستورية القومية، وفق تقسيم للمهام بين مجلس السيادة ومجلس للوزراء بما يتناغم مع طبيعتهما. أفلم تتوافق كل القوى السياسية المدنية، والمسلحة حينئذ (الحركة الشعبية)، على إنهاء الحرب الأهلية باتفاقية سلام عبر مؤتمر قومي دستوري يعقد في 18 سبتمبر 1989، لولا أن انقلبت الجبهة الإسلامية القومية، الجهة الوحيدة الناشزة عن التوافق، على النظام الديمقراطي وحكومته المنتخبة؟
في الختام، لا ينكر إلا مكابر أن ما نعيشه من ظرف يتسم بشروخ في المجتمع السياسي والمدني، وما يزال السلاح مرفوعا من قبل قوى المقاومة المسلحة، مع تعدد مكونات القوات المسلحة "الرسمية"، بينما النسيج الاجتماعي يتمزق نتيجة للاستقطابات الجهوية والمناطقية، وفي ظل تنازعات إقليمية قد تتخذ البلاد مسرحا لها. ومع ذلك، فقد تحررت البلاد من سلطة الاستبداد ومنحت ثورة ديسمبر العظيمة الأمل للسودانيين في حاضر أفضل ومستقبل مشرق، في ظل حكومة كفاءات قلوبهم على البلد. كلمة المرور إلى رئيس الوزراء لمخاطبة هذه الآمال، وللعبور فوق هذه التحديات الجسام، تكمن في احداث اختراق يحقق أكبر قدر من التوافق السياسي-المجتمعي في التاريخ السوداني المعاصر في الانتقال إلى دولة المواطنة والديمقراطية.