أ. د. مصطفى زهير الحسن
- الجُندول … رحلة الحلم على أمواج أبولو
شهد الشعر العربي في مطلع القرن العشرين نهضة فكرية ووجدانية واسعة، إذ بدأ الشعراء يشعرون بأن القصيدة العربية بحاجة إلى روح جديدة تنبض بالحياة، وتتجاوز القوالب الموروثة والموضوعات التقليدية. فظهرت اتجاهات أدبية تسعى إلى تحرير اللغة من الجمود وإطلاق الخيال والعاطفة، وكان من أبرزها التيار الرومانسي الذي وجد في مدرسة أبولو منبراً يُعبر عن أحلامه وتطلعاته.
تأسست جماعة أبولو عام 1932م على يد الشاعر أحمد زكي أبو شادي، واتخذت من مجلة أبولو منبراً لنشر نتاج أعضائها وأفكارهم الشعرية. وقد ضمت الجماعة عدداً من الشعراء المجددين أمثال إبراهيم ناجي، وعلي محمود طه، ومحمود حسن إسماعيل، وغيرهم ممن آمنوا بأن الشعر ليس مجرد ألفاظ موزونة، بل هو وجدان إنساني صادق يترجم إحساس الشاعر بجمال الكون وألمه.
دعت مدرسة أبولو إلى التجديد في الشكل والمضمون معاً؛ فشجّعت على تنويع القوافي والأوزان، وعلى الاهتمام بالموسيقى الداخلية في القصيدة، كما عمقت حضور الطبيعة والمرأة والحب في الشعر بوصفها رموزاً للجمال والصفاء والحرية. وكان الشاعر في نظرهم إنساناً حساساً يحيا بعاطفته أكثر مما يحيا بعقله، يستمد إلهامه من الطبيعة والموسيقى والفن.
وفي ظل هذا الجو الرومانسي المفعم بالعاطفة والجمال، تألق اسم علي محمود طه، أحد أبرز شعراء مدرسة أبولو، الذي جمع في شعره بين النغمة الموسيقية العذبة والصور الفنية الرقيقة. فقد كان مهندساً في مهنته، وشاعراً في روحه، يمزج بين النظام والدقة من جهة، والخيال والوجدان من جهة أخرى.
ومن بين روائعه الخالدة تبرز قصيدة “الجُندول”، التي تُعد من أروع ما كُتب في الشعر الغنائي العربي الحديث، إذ صاغها كلوحة فنية تجمع بين سحر المكان في فينيسيا (البندقية)، وجمال الحب الإنساني، وفتنة الخيال.
والجُندول هو قارب إيطالي ضيق وطويل يُحرك بواسطة مجداف واحد، ويُعد من أبرز رموز مدينة البندقية الرومانسية، لما يوحي به من هدوء، وانسياب، وحلم عاطفي ساحر.
وقد زاد من شهرة القصيدة وخلودها أن لحنها موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب وغناها بصوت عذب يحمل كل ما في النص من عاطفة وشجن، ثم أعاد الفنان عبد الكريم الكابلي أداءها بروح جديدة، أضفت عليها بُعداً وجدانياً عميقاً وامتداداً عربياً واسعاً.
وهكذا تحوّلت “الجُندول” إلى عمل فني خالد يُجسد تلاقي الشعر والموسيقى في أبهى صوره، ويعكس روح مدرسة أبولو التي أرادت للشعر أن يكون غناء للحياة ورمزاً للجمال الإنساني.
أين من عينيَّ هاتيك المجالي؟
يا عروسَ البحرِ، يا حُلْمَ الخيالِ
أين عشاقُك سُمَّارُ الليالي؟
أين من واديك، يا مهدَ الجمالِ؟
موكبُ الغيد وعيدُ الكرنفالِ
وسرَى الجندولِ في عُرض القنالِ
بين كأسٍ يتشهَّى الكرمُ خمرَهْ
وحبيبِ يتمَنَّى الكأْسُ ثغرَهْ
التقتْ عيني بهِ أوَّلَ مرَّهْ
فعرفتُ الحبَّ من أوَّلِ نظرَهْ
أينَ من عينيَّ هاتيكَ المجالي؟
يا عروسَ البحرِ، يا حُلْمَ الخيالِ
- الشاعر المهندس: رحلة علي محمود طه في سماء أبولو
وُلد الشاعر علي محمود طه في مدينة المنصورة بمصر عام 1901م، فكان منذ طفولته ميالاً إلى التأمل وحب الجمال والطبيعة. التحق بمدرسة المهندسخانة (كلية الهندسة حالياً) وتخرج منها عام 1924م مهندساً معمارياً، فزاوج في شخصيته بين دقة المهندس وخيال الشاعر، وهو ما انعكس بوضوح في بناء قصيدته التي تجمع بين النظام الموسيقي الصارم والتصوير الفني البديع.
بدأ علي محمود طه نظم الشعر في وقت مبكر، لكنه لم يبرز على الساحة الأدبية إلا في ثلاثينيات القرن العشرين، حين التحق بجماعة أبولو، التي كانت منبراً للرومانسية الجديدة في الشعر العربي. انضمامه إلى هذه الجماعة كان نقطة تحول في مسيرته الأدبية، إذ وجد فيها بيئة تحتضن خياله المرهف ونزعته الجمالية، فشارك بقوة في إثراء إنتاجها الشعري، وأصبح من أبرز رموزها.
تميّز شعر علي محمود طه بخصائص جعلته صوتاً فريداً في حركة الشعر الحديث؛ فقد جمع بين الموسيقى الهادئة والخيال الحالم والصور الشفافة التي تمزج بين الطبيعة والإنسان. كان يؤمن بأن الشعر رسالة جمال وإنسانية، لا وسيلة للوعظ أو السياسة، ولذلك طغت على قصائده نزعة وجدانية صافية، كما في ديوانه الشهير “الملاح التائه” الصادر عام 1934م، الذي كرس شهرته الأدبية وعرفه لدى جمهور الشعراء والنقاد.
إلى جانب قصيدته الخالدة “الجُندول” التي نظمها عام 1941م وأصبحت من علامات الشعر الغنائي العربي الحديث، قدم خلال مسيرته عدداً من الدواوين المميزة مثل:
- الملاح التائه (1934م).
- ليالي الملاح التائه (1940م).
- ارواح واشباح (1942م).
- أغنية الرياح الأربع (1943م).
- زهر وخمر (1943م).
- الشوق العائد (1945م).
- شرق وغرب (1947م).
عُرف علي محمود طه بين معاصريه بلقب “الشاعر المهندس”، لقدرته على صياغة القصيدة بمنهج فني مُتقن، وكأنها بناء هندسي مًشيد على أسس من التوازن والانسجام. وقد وافته المنية في عام 1949م عن عمر لم يتجاوز الثامنة والأربعين، بعد أن ترك إرثاً شعرياً خالداً ما زال يُدرس ويُستشهد به بوصفه من أرقى ما أبدعته مدرسة أبولو في الشعر العربي الحديث.
مرَّ بي مُستضحكاً في قربِ سَاقي
يَمزُجُ الراحَ بأقداحٍ رِقاقِ
قد قصدناهُ على غيرِ اتفاقِ
فنظرنا، وابتسمنا للتَّلاقي
وهوَ يَستهدِي على المَفْرِقِ زَهرَهْ
ويُسوِّي بيدِ الفتنةِ شعرَهْ
حينَ مسَّتْ شَفَتِي أوَّلُ قطرَهْ
خِلْتُهُ ذوَّبَ في كاسيَ عِطْرَهْ
أينَ من عينيَّ هاتيكَ المجالِي؟
يا عروسَ البحرِ، يا حُلْمَ الخيالِ
- أبولو الأدبية: جسر بين الكلاسيكية والحداثة
في عام 1932م بزغت في مصر مدرسة أبولو الأدبية، لتصبح منارة للتجديد الشعري والرومانسية الحديثة في الشعر العربي. هدفت هذه المدرسة إلى تحرير الشعر من قيود التقليدية الصارمة، وفتح آفاق جديدة للتعبير عن الذات والعاطفة والخيال، مع التركيز على الجماليات الفنية واللغة الموسيقية التي تجعل من الشعر تجربة حسية متكاملة، تتجاوز مجرد سرد الأحداث.
ويحتفظ التاريخ بأن مصر شهدت نشأة مدرسة أبولو، المأخوذ اسمها من أبولون، إله الشمس والموسيقى والجمال عند الإغريق، لتكون رمزاً للجمال والابتكار الفني. نشأت هذه المدرسة متأثرة بالثقافات الأجنبية، في ظل الصراع الأدبي الحاد الذي دار بين الإحيائيين والديوانيين، وقد تجسّد هذا الصراع في المواجهات الفكرية بين العقاد والمازني من جهة، وشوقي من جهة أخرى، كما ظهر ذلك في كتاب العقاد والمازني الديوان.
الديوان لم يكن مجرد كتاب؛ بل كان محاولة لتجديد الشعر العربي من خلال مقالات نقدية وشعرية، تتجاوز القافية التقليدية وتعالج القضايا الإنسانية والمصرية والعربية. لكن الصراعات الأدبية داخل الديوانيين أنفسهم أدت إلى انقسام شعراء مدرسة الديوان، وحتى العقاد، عمود المدرسة، الذي ظل مدافعاً عنها لفترة طويلة بعد انفضاض جل روادها المؤسسين، توقف أخيراً عن كتابة الشعر وتفرغ للمقال والقصة، فانتهت مدرسة الديوان كليةً، تاركة فراغاً أدبياً واسعاً.
وفي هذا الفراغ، ظهرت مدرسة أبولو كفرصة جديدة لمستقبل الشعر العربي، مستفيدة من نزعة خليل مطران الرومانسية، وباحثة عن رائد يوجهها، فوجدوا في مطران أباً روحياً ورائد تجديد. ثم جاء جبران خليل جبران، رائد أدب المهجر، ليُلهمهم بشعره، موجهاً طاقاتهم نحو الجانب الذي ميزهم في الأدب وما أضافوه من تجديد في أساليب التعبير.
لم يقتصر تأثير أبولو على الشعر فقط، بل تأثر أعضاؤها أيضاً بما مرّوا به من أحداث، أبرزها ثورة 1919م في مصر، التي غرست فيهم شعور الحرية الفردية. كما أثر الاطلاع الكثيف على الأدب الإنجليزي في توجيههم نحو الرومانسية الإنجليزية.
وكلُّ ذلك تزامن مع ظهور مجلة أبولو عام 1932م، التي أصبحت المنصة الفعلية لظهور هذه المدرسة الأدبية الجديدة، جامعةً بين التجديد الفني والروح الرومانسية والانفتاح على الثقافة العالمية.
تميزت أبولو بخصائص واضحة انعكست على أسلوب شعرائها ومضامين أعمالهم:
- الموسيقى الداخلية للكلمة: اعتبر شعراء أبولو الموسيقى جزءاً أساسياً من الإيقاع الشعري، فكان الوزن والإيقاع الداخلي للكلمة عنصراً جمالياً متكاملاً يضيف عمقاً للصورة الشعرية.
- التغني بالطبيعة والجمال والإنسان: لم يقتصر الشعر على التعبير عن المشاعر وحدها، بل أصبح للصور الفنية دور محوري في خلق تجربة شعرية حسية، حيث تتفاعل الطبيعة والوجدان في انسجام رائع.
- التجديد في اللغة والأسلوب: حافظت المدرسة على روح اللغة العربية الفصحى، لكنها أضافت لمسات معاصرة وحيوية، مبتعدة عن الركود الأسلوبي، وسعت لتجديد مفردات الشعر وصوره.
- التركيز على الذات والوجدانية: انطلق شعراء أبولو من التجربة الشخصية والعاطفة الصادقة، مما منح النصوص بُعداً إنسانياً صادقاً وجعل الشعر انعكاساً للروح الداخلية للإنسان.
إن مؤسسي أبولو هم أصحاب الفضل في نقل الشعر العربي إلى مرحلة أكثر حيوية ورومانسية، مزجت بين الخيال الفني والوجدان الموسيقي. وتميز شعرهم بالقدرة على دمج الصور الفنية بالموسيقى الداخلية للكلمة، مما ساهم في إرساء أسس الشعر الغنائي الحديث.
ولم يقتصر تأثير مدرسة أبولو على مصر فحسب، بل امتد إلى سائر الأقطار العربية، حيث غدا شعرها مرجعاً أساسياً للجيل الجديد من الشعراء الذين سعوا إلى الجمع بين الأصالة والتجديد، وبين الكلاسيكية والحداثة، وبين الانفعالات الإنسانية والتعبيرات الفنية الدقيقة.
لقد أرست أبولو بذلك جسراً أدبياً بين الشعر الكلاسيكي التقليدي والشعر الحديث، وأطلقت مرحلة جديدة من التجريب الفني والرومانسي، لم يقتصر أثرها على الشعر المكتوب فحسب، بل شمل أيضاً الشعر الغنائي والموسيقي، ليغدو حضورها ملموساً في مختلف المجالات الثقافية والفنية.
ذَهَبِيُّ الشَّعر، شَرقيُّ السِّماتِ
مَرِحُ الأعطاف، حلوُ اللَّفتاتِ
كُلَّما قلتُ له: خذْ. قال: هاتِ
يا حبيبَ الرُّوحِ، يا أُنْسَ الحياةِ
أَنا مَنْ ضيَّعَ في الأوهامِ عُمْرَهْ
نَسيَ التاريخَ أو أُنْسيَ ذكْرَهْ
غيرَ يومٍ لم يَعُدْ يَذكُرُ غيرَهْ
يومَ أنْ قابَلتُه أوَّلَ مَرَّهْ
أينَ من عينيَّ هاتيكَ المجالي؟
يا عروسَ البحرِ، يا حُلْمَ الخيالِ
قالَ: من أينَ؟ وأصغى، ورَنَا
قلتُ: من مصرَ، غريبٌ ها هُنَا
قالَ: إن كنتَ غريباً فأنَا
لم تكنْ فينيسيا لي مَوْطنَا
أينَ منِّي الآن أحلامُ البُحَيْرَهْ
وسماءٌ كَسَتِ الشطآنَ نَضْرَهْ
منزلي منها على قمّةِ صَخرَهْ
ذات عينٍ من مَعينِ الماء ثَرَّهْ
أينَ من فارسوفيا تلكَ المجالي؟
يا عروسَ البحر، يا حُلْمَ الخيالِ
قلتُ، والنشوةُ تسري في لساني:
هاجتِ الذكرى، فأينَ الهرَمانِ؟
أين وادي السِّحرِ صدَّاحُ المغاني؟
أينَ ماءُ النيل؟ أين الضِّفَّتَانِ؟
آه لو كنتَ معي نختالُ عَبْرَهْ
بشراعٍ تَسْبَحُ الأنجمُ إثرَهْ
حيثُ يَروي الموجُ في أرخم نَبْرَهْ
حُلْمُ ليل من ليالي كليوبترَهْ
أينَ من عينيَّ هاتيكَ المجالي؟
يا عروسَ البحر، يا حُلْمَ الخيالِ
أَيُّها الملَّاحُ، قِفْ بينَ الجسورِ
فتنةِ الدنيا، وأَحلامِ الدهورِ
صفَّق الموجُ لولدانٍ وحورِ
يُغرقون الليلَ في يَنبوع نورِ
ما ترى الأغْيَدَ وضَّاء الأسِرَّهْ؟
دقَّ بالساق وقد أسْلَمَ صدْرَهْ
لمُحبٍّ لفَّ بالساعد خَصْرَهْ؟
ليتَ هذا الليلَ لا يُطْلِعُ فجرَهْ!
أينَ من عينيَّ هاتيكَ المجالي؟
يا عروسَ البحرِ، يا حُلْمَ الخيالِ
- الجُندول في رحلة النهاوند والبياتي: من الأهرام إلى كايروفون
عندما ينساب القارب “الجُندول” بهدوء في قنوات البندقية، تتجلى أمام العين لوحة من الحب والجمال، يتراءى فيها الشعر والموسيقى ككيان واحد يتنفس. هذا ما تفعله قصيدة “الجُندول” لعلي محمود طه، التي تمثل نموذجاً رائعاً للشعر الغنائي الحديث، حيث تتجلى فيها مقومات المدرسة الرومانسية وأسلوب أبولو الفني في أبهى صوره. وتعكس القصيدة قدرة الشاعر على مزج الخيال الموسيقي بالصور الفنية الرفيعة، لتصبح تجربة شعرية متكاملة تستثير الحواس والمشاعر معاً.
تميزت القصيدة بالإيقاع الداخلي الدقيق، حيث اعتمد الشاعر على التكرار الإيقاعي والوزن الموسيقي للكلمات بما يجعل النص غنائياً بطبعه. هذا الأسلوب سمح بتحويلها لاحقاً إلى عمل موسيقي خالص عند تلحينها من قبل الموسيقار محمد عبد الوهاب، فبرهنت على قدرة الشعر العربي الحديث على الانسجام مع الصوت والموسيقى.
تفيض القصيدة بالصور الشعرية الرقيقة التي تصور فينيسيا والقنوات المائية والجُندول المتمايل، فتخلق في ذهن القارئ لوحة متحركة تمزج بين الحركة والسكينة. ويبرز الشاعر قدرة خارقة على دمج الطبيعة بالوجدان الإنساني، فكل انعكاس للقمر على الماء وكل حركة للجُندول تُصبح مرآة للعاطفة والحب.
تعكس “الجُندول” نزعة وجدانية صافية، إذ يركز علي محمود طه على التجربة العاطفية الداخلية للإنسان، ويحول الحب والمكان إلى خيال حي يتنفس في النص. وهذا يتوافق مع فلسفة أبولو التي تجعل من الشعر وسيلة للتعبير عن الذات والجمال، لا مجرد نقل أحداث أو سرد واقعي.
لم تقتصر قوة القصيدة على النص الشعري فقط، بل تجلت أيضاً في تحولها إلى أغنية خالدة، حيث أدخل الموسيقار محمد عبد الوهاب عناصر الصوت العربي التقليدي، بينما أضفى الفنان السوداني عبد الكريم الكابلي بُعداً آخر بصوته المرهف، ما جعل القصيدة تجربة حسية متكاملة بين النظر والسمع.
تمثل الجُندول” قمة الانسجام بين الإيقاع والموسيقى والخيال، وتجسد روح مدرسة أبولو في الحرية الأسلوبية، والموسيقى الداخلية، والجمال الوجداني. وبذلك تصبح القصيدة مرجعاً أساسياً لدراسة الشعر الغنائي الحديث، ونموذجاً حياً لكيفية تحويل الشعر إلى تجربة فنية متعددة الحواس، تجمع بين اللغة والصورة والموسيقى.
كما تُعد أغنية “الجُندول” لمحمد عبد الوهاب تحفة فنية خالدة، تتجلى فيها قدرة الملحن على المزج بين الشعر العربي الغنائي والموسيقى الشرقية التقليدية، عبر تنقلات دقيقة بين المقامات العربية التي تمنح النص الشعري بُعداً سحرياً وروحاً موسيقية متدفقة.
ومن حاشية القول أن المقام في الموسيقى العربية يمثل الإطار اللحني الذي يُبنى عليه اللحن، ويحدد نغمة البداية والدرجة الأساسية والاتجاهات الصوتية التي يمكن التحرك فيها. لكل مقام طابعه الخاص ومزاجه العاطفي، فهو يعكس مشاعر محددة مثل الفرح أو الحزن أو الرومانسية أو الحنين، ويضفي على اللحن روحاً مميزة. ويتكون المقام عادة من الدرجة الرئيسية، وهي النغمة التي يبدأ عليها المقام وغالباً ما ينتهي عندها، إلى جانب مجموعة الدرجات الصوتية التي تشكل سلم المقام، مع الطابع النفسي والعاطفي الذي يميزه ويجعله فريداً.
ومن أشهر المقامات العربية: البياتي، الذي يمنح شعوراً دافئاً ورومانسياً؛ الراست، الذي يعكس الوقار والثقة؛ السيكاه، الذي يمتاز بالحزن والعاطفة؛ الحجاز، الذي يوحي بالغربة والشوق؛ الصبا، الذي ينقل الحنين والرقة؛ النهاوند، المشابه للمقام الغربي الصغير المعروف لدى الموسيقيين بالسلم الصغير؛ والركاه، الذي يحمل طابعاً مرحاً وخفيفاً يناسب الأغاني الشعبية. لذلك يبدأ المغني أداءه من نغمة المقام الأساسية، فيما يتحرك العازف بين الدرجات بطريقة تمنح اللحن طابعه المميز، مع إدخال الزخارف والنغمات الإضافية التي تضفي على العمل الموسيقي الحيوية والثراء.
عليه وتأسيسًا على ما سبق من توضيحات حول المقام في الموسيقى العربية، يبدأ عبد الوهاب الأغنية بمقدمة موسيقية متقنة، يسطع فيها مقام النهاوند، الذي يمنح المطلع شعوراً بالسكينة والهدوء، كأن القارب (الجُندول) ينساب في قنوات البندقية بهدوء وأناقة. ثم يتحول في بعض المقاطع إلى مقام البياتي، حيث تتفتح نغماته الحنونة لتعكس المشاعر العاطفية العميقة، وتضيف لمسة درامية للشوق والوجد. في القسم الثاني من الأغنية، يظهر أيضاً مقام الراست، مُقدماً شعوراً بالاستقرار والوقار، قبل أن يعود النهاوند ليحتضن النص مرة أخرى في دائرة موسيقية متناغمة.
هذه التنقلات بين النهاوند والبياتي والراست ليست مجرد تغيير في الصوت، بل هي رحلة عاطفية متدرجة، تنسجم مع الصور الشعرية للقصيدة، فتجعل المستمع يعيش تجربة حسية متكاملة، بين النظر إلى قنوات البندقية وسماع انعكاسات الحب والحنين في الموسيقى والكلمة.
إن براعة عبد الوهاب تكمن في قدرته على تلوين النص الشعري بالمقام المناسب لكل شعور، فتحولت الكلمات إلى موسيقى حية، والأحاسيس إلى ألوان صوتية تتراقص بين الحنين والرومانسية والجمال، مؤكدة بذلك أن الغناء والشعر في “الجُندول” رحلة واحدة لا تنفصل بين القلب والعين والأذن.
وللدقة، فحين التقط محمد عبد الوهاب قصيدة علي محمود طه من صحيفة الأهرام دون علم مسبق من الشاعر، لم يكن يدرك أنه على وشك تحويل نص مكتوب إلى تحفة فنية خالدة. الأغنية لم تكن مجرد تلحين كلمات، بل رحلة حسية تأخذ المستمع إلى قنوات البندقية المتلألئة، حيث ينساب القارب برقة، ويغدو الشعر والموسيقى كياناً واحداً يتنفس.
وتتفق المصادر على أنه عند تسجيل الأغنية على أسطوانات شركة كايروفون بالقاهرة، أعد محمد عبد الوهاب نسخة خاصة أهداها إلى النحاس باشا، رئيس الوزراء وصديقه، أملاً في نيل رضاه وتقديره الفني. غير أن المفاجأة كانت أن النحاس باشا رفض الاستماع للأغنية بعد سماع الأسطوانة، ما شكل صدمة كبيرة لعبد الوهاب، خاصة وأن النقد جاء من صديق مُقرب.
لكن مجرى الأحداث تغير بفضل زوجة النحاس باشا، التي استمعت إلى الأسطوانة وأعجبت بالأغنية، فقلبت موقف زوجها من الرفض إلى القبول. هذا التحول لم يكن مجرد تغيير رأي، بل أعاد لعبد الوهاب مزاجه الجميل بعد صدمة الرفض الأولى، ومنحه شعوراً بالفخر والاطمئنان إلى قوة وتأثير عمله الفني.
رَقَصَ الجُندولُ كالنجم الوضيِّ
فاشْدُ، يا ملَّاحُ، بالصوت الشجيِّ
وتَرَنَّمْ بالنشيدِ الوثنيِّ
هذه الليلةُ حُلْمُ العَبقريِّ
شاعتِ الفرحةُ فيها والمَسَرَّهْ
وجَلا الحُبُّ على العُشَّاقِ سرَّهْ
يَمْنةً مِلْ بي، على الماء، ويَسْرَهْ
إنَّ للجندول تحت الليل سحرَهْ
- الجُندول: أيقونة تتجاوز الزمن بين الشعر والموسيقى
في مصر، تركت قصيدة “الجُندول” صدىً واسعاً ومتعدد الألوان، حيث تحوّل النص الشعري إلى ظاهرة فنية تثير الإعجاب والنقاش في آنٍ واحد. فقد رأى الناقد أحمد درويش أن شعر علي محمود طه لم يكن هروباً من الواقع، بل احتواؤه بذكاء وحسّ شاعري رفيع، مؤكداً أن جناح القصيدة الرومانسي الممتد لم يغفل عمق الواقعية.
ومن ناحية أخرى، دافع الناقد أحمد الصاوي محمد عن “الجُندول” من الانتقادات التي اتهمتها بالكتابة عن محاسن أوروبا، مشيراً إلى أن الشاعر في قصيدته يدعو صاحبته إلى زيارة النيل، مشهداً فريداً لم يسبق أن رسمه شاعر مصري من قبل، ليحوّل الشعر إلى تجربة حسية تجمع بين المكان والوجدان.
كما تناولت المقالات المصرية حياة علي محمود طه ومكانته في حركة التجديد الشعري؛ إذ ذكرت جريدة “المصري اليوم” أنه عُيّن وكيلاً لدار الكتب المصرية، وتوفي في أواخر الأربعينيات من عمره تقريباً. وأشارت كذلك إلى أن “الجُندول” منحته لقب “شاعر الجُندول”، وهو اللقب الذي ارتبط به إلى الأبد، وأصبح شاهداً على قُدرة الشعر على ترك بصمة تتجاوز حدود العمر.
وفي السودان، يؤكد عبد الكريم الكابلي أن أغنية “الجُندول” تظل علامة بارزة في تاريخ الموسيقى السودانية، شاهدة على قدرة الفن على التكيف والتجدد عبر الزمن. فقد بدأت رحلتها مع النكهة السودانية اللحنية على يد السيد صالح إبراهيم العبد، مدير المصرف العثماني، ثم امتدت إلى الإذاعة السودانية بصوت المحامي “ود الشاطي” عبد الرحمن بشير، قبل أن يضيف الكابلي بصمته الفريدة، مانحاً الأغنية أبعاداً جديدة من الأداء الموسيقي الشعوري الغني.
ما يميز هذه التحفة الفنية هو قدرتها على الاستمرار في النفوس عبر الأجيال، فهي لا تزال تُستمع وتُعاد وتُلهم الفنانين الشباب في السودان وخارجه، مؤكدةً أن الجمال الفني ليس مجرد لحظة عابرة، بل إرث حي يتجدّد مع كل أداء جديد.
بهذه الروح، تواصل “الجُندول” رحلتها، محافظة على أصالتها، ومتجددة في الوقت ذاته، لتظل رمزاً حيّاً للفن السوداني والعربي، متجسدةً في الشعر والموسيقى، أيقونة تواكب العصر دون أن تفقد جذورها.
أين، يا فينيسيا، تلك المجالي؟
أَينَ عُشاقُك سُمَّار الليالي؟
أَينَ من عينيَّ أطيافُ الجمالِ؟
مَوْكبُ الغيد وعيدُ الكرنفالِ؟
يا عروسَ البحر، يا حُلْمَ الخَيالِ!!
(النهاية)
للتواصل عبر خدمة البريد الإلكتروني
(m.alhassen2018@gmail.com)
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم