تجري الخيوط في المشهد السوداني كما لو أنّ البلاد تُطارد ظلّها الأخير.
في الميدان، الرصاص ما يزال يُملي شروطه. وفي الكواليس، تتناسل اللقاءات كأشباحٍ تبحث عن معجزة.
يقول الميدان إن الدم لا ينام، وتقول الدبلوماسية إن القاهرة تستعدّ ربما للقاءٍ هو الأغرب منذ قيام الحرب: برهان وحميدتي وجهاً لوجه. لقاءٌ، كما كتبت أماني الطويل، قد يوازي في رمزيته سقوط جبلٍ من الأحقاد المتراكمة.
غير أن الخرطوم ما تزال تتكلم بلغتين: لسانٍ يصرخ في الداخل “لا تفاوض مع القتلة”، ولسانٍ آخر يهمس في الخارج عن هدنةٍ ترعاها الرباعية، تُعيد اسم عبدالله حمدوك إلى الواجهة، كمهندسٍ محتملٍ لانتقالٍ جديد يخرج من تحت الركام.
واشنطن تتحرك ببرودٍ مدروس، كمن يقود رقصة تانغو على مزالق من الجماجم. أعلن مسعد بوليس، كبير مستشاري الرئيس الأميركي، عن أن الطرفين وافقا على هدنةٍ إنسانيةٍ لثلاثة أشهر، قد تُمدّد إلى تسعة.
وحين سُئل عن ازدواجية المواقف (الإمارات التي تدعم الدعم السريع، وإيران التي تزوّد الجيش بالسلاح) أجاب ببرودِ من يرشّ الماء على النار: “دعونا نركّز على السلام في هذه اللحظة”. سلامٌ مؤقت في عالمٍ تعلّم كيف يعيش على مؤقتاته.
وفيما تتفاوض الوفود في واشنطن، خرج عثمان ميرغني من عباءة الكيزان كمن استعاد نفسه من غيبوبةٍ طويلة وأعاد خاصية “ضبط المصنع”، وقال للجزيرة مباشر: “هناك شعبان في المعادلة: شعبٌ يعيش في إسطنبول يدير الحرب بالكلام، وشعبٌ آخر يموت في السودان”. الأول يسكن ضجيج البيانات، والثاني يسكن مقابر الصمت.
أما الكيزان الذين بدأ ميرغني يتبرأ من ظلالهم، فقد وجدوا في فوضى الفاشر منجماً جديداً للمتاجرة بالدم. يحوّلون صور المأساة إلى وقودٍ لابتزاز البرهان، ويؤجّلون كل هدنة تُطرح، حتى لا يُطردوا من مسرحٍ صنعوه من رمادٍ وأسماءٍ مستعارة. لم يكن يعنيهم أن تُحرق المدن أو يُيتم الأطفال، ما دام البكاء يُخفي سرقاتهم وإجرامهم.
هرب كثيرٌ من قادتهم إلى المنافي، وتركو أبناء الفقراء في خطوط الموت. يدرسون في أوروبا وآسيا، بينما السوداني البسيط يدفن أبناءه بيديه. أحمد هارون، المطلوب للجنائية، صار رمزاً للاستنفار، وعلي كرتي يخرج من الظلال لينفخ في نار الكراهية.
ومع ذلك، فإن الهدنة المنتظرة، إن وُقعت، لن تكون مجرّد توقفٍ للرصاص، بل دفناً لزمنٍ بكامله. ستكون إعلاناً بانتهاء مشروعٍ عاش على الدم، ومات حين صمت المدفع.
وحين تعود الجيوش إلى ثكناتها، ويُستدعى اللصوص إلى المحاكم، سيسقط خطاب الحرب كما يسقط القناع الأخير. وسيفهم الكيزان، متأخرين كعادتهم، أن الخراب الذي غذّوه، سيبتلعهم بالكامل.
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم