habusin@yahoo.com
حاتم أبوسن
عدد كبير من السودانيين في الخارج لا يبحث عن إعانات أو مساعدات عند عودته إلى الوطن بل يتطلّع إلى بيئة اقتصادية مستقرة تشريعات مشجعة وتعامل إداري راقٍ يوفّر له كرامة العيش وسهولة الاستثمار أو العمل أو الاستقرار. هؤلاء لا يشكّلون عبئاً على الدولة بل فرصة عظيمة لإعادة تدوير رأس المال السوداني الخارجي داخل البلاد ونقل الخبرات والتكنولوجيا والأنماط الحديثة في الإدارة والتعليم والصناعة والزراعة.
ولجذب هؤلاء يمكن للحكومة السودانية تبنّي حزمة سياسات اقتصادية ذكية ومحددة تُحدث أثراً مباشراً وملموساً وتبث رسالة واضحة بأن الدولة ترحّب بالعودة لا بالشعارات بل بالأفعال.
أولاً إصدار قانون خاص بعنوان قانون التيسير الاقتصادي للعائدين من المهجر يمنح مزايا حصرية لكل سوداني يعود للإقامة والعمل أو الاستثمار في البلاد خلال فترة زمنية محددة مثلاً خمس سنوات من صدور القانون. هذا القانون يشمل إعفاءات جمركية كاملة على الأمتعة الشخصية والمعدات المهنية والسيارات الخاصة من طراز معين دون الحاجة لتعقيدات الإجراءات أو الوسطاء.
ثانياً فتح نافذة إلكترونية موحّدة للعائدين تتيح لهم تسجيل عودتهم واختيار مجال اهتمامهم سكن استثمار تعليم خدمات زراعة تقنية مهن حرة بحيث يحصلون على مسار واضح للإجراءات دون الركض بين المكاتب. يتم من خلال هذه المنصة ربط العائد بالمؤسسات ذات الصلة وتزويده بدليل رقمي تفاعلي يشرح القوانين الضرائب الحقوق والتسهيلات في كل قطاع.
ثالثاً منح العائدين الأولوية في تملّك الأراضي أو الوحدات السكنية أو الزراعية أو الاستثمارية بأسعار رمزية أو بالتقسيط المباشر دون فوائد بشرط أن تُستخدم خلال فترة معينة ولا تبقى معطّلة. كذلك يمكن تخصيص مجمعات سكنية ذكية أو مدن العودة في ضواحي العاصمة والمدن الكبرى تكون مؤهّلة بالبنية التحتية الذكية وتدار بأسلوب شفاف حديث ويُعطى فيها العائدون أدواراً قيادية إدارية لضمان ثقتهم في المشروع.
رابعاً تبسيط الإجراءات البنكية وتحرير القيود على الحسابات بالعملات الأجنبية للمواطنين العائدين مع إمكانية فتح حسابات دولارية حقيقية والسماح بتحويل الأموال داخلياً وخارجياً دون قيود مرهقة بشرط الشفافية والامتثال للأنظمة المصرفية. كما يمكن تشجيع إنشاء بنك العائدين أو صندوق استثمار السودانيين بالخارج يكون أداة استثمارية جماعية مرخّصة تشارك فيها الدولة برأسمال رمزي.
خامساً تقديم امتيازات ضريبية للعائدين الذين يؤسسون مشروعات إنتاجية خلال ثلاث سنوات من عودتهم مثل الإعفاء من الضرائب لثلاث أو خمس سنوات والتخفيض على رسوم التراخيص وتسهيل تسجيل الشركات باسم شخص واحد مع اعتماد التوقيع الرقمي وتسهيل استخدام العملات الرقمية المعترف بها.
سادساً إعادة هيكلة النظام التعليمي والمهني بحيث يُعترف تلقائياً بالشهادات والتراخيص المهنية من الدول التي أقام فيها العائد دون الحاجة لإجراءات معقدة أو إعادة تأهيل بيروقراطي ما يتيح للطبيب أو المهندس أو المبرمج أو المعلم أن يبدأ فوراً في العطاء والإنتاج.
سابعاً إنشاء مكتب رعاية المستثمر العائد داخل وزارة الاستثمار يكون متخصصاً في استقبال السودانيين العائدين الذين يرغبون في الاستثمار ويقدّم لهم دراسات جدوى جاهزة وحلولاً قانونية وربطاً مباشراً مع السوق المحلي ومع الشركاء المحتملين من الداخل.
أخيراً التركيز في الخطاب الرسمي والإعلامي على تقدير العائدين وإبرازهم كنماذج وطنية ملهمة وليس فقط كأرقام في الإحصاءات لأن البيئة النفسية تلعب دوراً جوهرياً في قرار العودة. فحين يشعر الإنسان أن الدولة تحترمه تحميه وتقدّر جهده فإنه لن يتردد في أن يعود ويستثمر عمره وخبرته في تراب الوطن.
هذه الخطة لا تتطلب أموالاً طائلة بل تتطلب عقل دولة وجرأة قيادة واحترام إنسان
ومن المحاور الجوهرية التي لا بد أن تتكامل مع هذه السياسات هو التحوّل الرقمي الكامل في تقديم كل هذه الخدمات والتسهيلات، إذ أن السودانيين العائدين اعتادوا على أنظمة إلكترونية متقدمة في بلدان المهجر، ولا يمكن أن تُقنعهم بالعودة إلى بيئة تغيب عنها الشفافية وسرعة الإجراءات. لذلك يجب أن يكون كل ما ذُكر من خطوات مشمولاً في منصة إلكترونية واحدة ذكية ومترابطة، تبدأ من لحظة تسجيل الرغبة في العودة، مروراً باختيار نوع التسهيلات المطلوبة، وحتى إصدار التصاريح والعقود والمعاملات البنكية والضريبية رقمياً بالكامل. هذه المنصة يجب أن تكون متاحة بعدة لغات، ومربوطة بالسفارات والقنصليات السودانية حول العالم، وتحتوي على أدوات تفاعلية للمساعدة القانونية، وخدمات الدعم الفني، وتقييم الأداء الحكومي من قبل المستخدمين أنفسهم. إن التحول الرقمي ليس ترفاً بل ضرورة، وهو ما سيمنح العائد شعوراً بالثقة والجدية والاحترام، ويزيل عنه الخوف من التعطيل والفساد والروتين.