من بطون كتب
sanhooryazeem@hotmail.com
منبر بنيان – مقالات من بطون كتب
تمهيد: الإصلاح الإداري كقضية متجددة
شهد العالم العربي خلال العقود الماضية موجات متكررة من الإصلاح الإداري، بعضها جاء بدافع الأزمات المالية، وبعضها الآخر استجابةً لتحولات سياسية واقتصادية كبرى. إلا أن أغلب هذه المحاولات بقي حبيسًا لنظرة “تسييرية” تقليدية ترى في الإدارة وسيلة لتنفيذ التعليمات أكثر من كونها أداة للإبداع والتغيير. ومع التحولات الجذرية في بيئة العمل والمؤسسات، بات من الضروري إعادة تعريف مفهوم الإصلاح الإداري بما يجعله قادرًا على الانتقال من “إدارة القواعد” إلى “إدارة الأفكار”.
من التسيير إلى الإبداع المؤسسي
الإدارة العامة في جذورها الكلاسيكية كانت تركز على الانضباط، التسلسل الهرمي، والالتزام بالنصوص. غير أن الإدارة الحديثة تجاوزت هذه الرؤية لتُدخل مفاهيم المرونة التنظيمية، إدارة المعرفة، القيادة التشاركية، والتفويض الذكي.
فالتسيير — بمعناه الضيق — يعني تنفيذ الأعمال بكفاءة ضمن حدود اللوائح، بينما الإبداع المؤسسي يعني إعادة النظر في تلك اللوائح ذاتها كلما اقتضت المصلحة العامة.
لقد أدركت الأمم التي حققت نهضات إدارية أن المؤسسات التي لا تبتكر تموت تدريجيًا، وأن الإصلاح الحقيقي لا يُقاس بعدد القرارات بل بقدرة الجهاز الإداري على التعلّم والتجدد. فالإدارة الحديثة لا تكتفي بإصدار الأوامر، بل تُنتج أفكارًا وتتبنّى التجريب كقيمة أساسية.
مرتكزات الإبداع في الإدارة العامة
يمكن تحديد أبرز مرتكزات الإبداع المؤسسي في النقاط التالية:
- القيادة التحويلية: القائد الإداري المعاصر لم يعد مراقبًا للموظفين، بل محفزًا للعقول. يقيس نجاحه بمدى قدرته على تحويل الأفراد إلى فرق تبتكر وتتحمل المسؤولية.
- حوكمة الأداء: الانتقال من الرقابة الشكلية إلى تقييم المخرجات النوعية، بما يربط بين الأداء والنتائج الحقيقية.
- إدارة المعرفة: توثيق الخبرات المتراكمة ونقلها عبر نظم رقمية تضمن استدامة الكفاءة المؤسسية.
- التحفيز الذكي: تصميم نظم أجور ومكافآت تشجع على الإنجاز والإبداع لا على التكرار والامتثال.
- المساءلة المرنة: الجمع بين الصرامة في المحاسبة والرحمة في تقدير الظروف الإدارية، في توازن يضمن العدالة والاستمرارية.
الإصلاح الإداري في السياق العربي
واجهت مؤسسات الإدارة العامة العربية تحديات معقدة؛ من تضخم الجهاز البيروقراطي إلى ضعف أنظمة التقييم وتسييس الوظائف. كثير من برامج “الإصلاح” اكتفت بتغيير الهياكل دون مساسٍ بثقافة العمل ذاتها.
إن التحول من إدارة الأشخاص إلى إدارة النظم، ومن الخدمة العامة كوظيفة إلى الخدمة العامة كرسالة، هو ما يصنع الفارق بين دولة نامية وأخرى صاعدة.
تُظهر التجارب الناجحة — مثل المغرب، الإمارات، والأردن — أن الإصلاح المستدام لا يتحقق إلا عندما تُربط الإدارة بالتنمية، والتعليم بالكفاءة، والشفافية بالثقة العامة.
من الفاعلية إلى الإلهام
الإدارة العامة لا تقتصر على الكفاءة التقنية، بل تمتد إلى الفلسفة الإنسانية في العمل. فالإدارة التي تُعامل موظفيها كأرقام لا يمكن أن تُبدع. أما الإدارة التي تُوقظ فيهم الإحساس بالكرامة والمسؤولية، فهي التي تُنتج مؤسسات ملهِمة.
ولذلك فإن مستقبل الإدارة ليس في زيادة اللوائح، بل في إحياء المعنى الإنساني للعمل العام.
خاتمة: نحو ثقافة الإبداع الإداري
إن التحول من التسيير إلى الإبداع المؤسسي هو انتقال من الجمود إلى الحركة، ومن الامتثال إلى التفكير، ومن الإدارة إلى القيادة.
وحين تصبح المؤسسات بيئة تُكافئ الفكرة كما تُكافئ التنفيذ، نكون قد وضعنا أقدامنا على طريق الإصلاح الحقيقي. فالإدارة التي تُبدع تُصلِح ذاتها تلقائيًا، لأنها تُعيد باستمرار اكتشاف الإنسان العامل في داخلها.
المراجع
- Osborne, D. & Gaebler, T. (1992). Reinventing Government: How the Entrepreneurial Spirit is Transforming the Public Sector. Addison-Wesley.
- Drucker, P. (1999). Management Challenges for the 21st Century. HarperBusiness.
- Denhardt, J. & Denhardt, R. (2003). The New Public Service: Serving, Not Steering. M.E. Sharpe.
- Pollitt, C. & Bouckaert, G. (2017). Public Management Reform: A Comparative Analysis. Oxford University Press.
عبد العظيم الريح مدثر
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم