ازْدِوَاجِيَّةُ مَوْقِفِ الْجَيْشِ مِن الرُبَاعِيَّةِ: قُبُولٌ لِلسَلَامِ وتَعْبِئةٌ لِلحَرْبِ

ازْدِوَاجِيَّةُ مَوْقِفِ الْجَيْشِ مِن الرُبَاعِيَّةِ: قُبُولٌ لِلسَلَامِ وتَعْبِئةٌ لِلحَرْبِ

The Army’s Duplicitous Stance on the Quartet: Acceptance of Peace and Mobilisation for War:

بروفيسور مكي مدني الشبلي
المدير التنفيذي لمركز الدراية للدراسات الاستراتيجية

تسير الجهود الدولية والإقليمية نحو التهدئة في السودان بخطوات دقيقة، تستند إلى خارطة طريق الرباعية (الولايات المتحدة، السعودية، مصر، والإمارات)، التي وضعت جدولاً زمنياً واقعياً يتكون من مرحلتين أساسيتين:

  • هدنة إنسانية لمدة ثلاثة أشهر،
  • وقف إطلاق نار شامل لمدة تسعة أشهر، تمهيداً لبدء الانتقال إلى الحكم المدني.

لكنّ كثيرين لا يزالون يخلطون بين الهدنة ووقف إطلاق النار، رغم اختلاف طبيعتهما وأهدافهما وآليات تنفيذهما، الأمر الذي يستوجب توضيح الفارق الجوهري بينهما في ضوء السياق السوداني ومتطلبات السلام العادل والدائم.

أولاً: الهدنة – استراحة إنسانية لبناء الثقة وتهيئة الأرض

الهدنة، كما حددتها خارطة طريق الرباعية، هي فترة إنسانية محدودة بثلاثة أشهر تهدف إلى وقف القتال في مناطق محددة لتسهيل وصول المساعدات الإنسانية وإعادة الخدمات الحيوية، وإخلاء الجرحى ودفن الموتى. وخلال هذه الفترة، يُسمح بانتشار فرق المراقبة الإنسانية واللوجستية، بدعم تقني من الأقمار الصناعية والطائرات المسيرة لتوثيق الالتزام بوقف القتال ومنع الخروقات.

الهدنة ليست اتفاقاً سياسياً بعد، لكنها تشكل فرصة للقوى المدنية المتشظية لإثبات قدرتها على إدارة الشأن الإنساني والإداري في المناطق الآمنة، وبناء الثقة مع المجتمع الدولي تمهيداً لتحمل مسؤولية المرحلة التالية.

ثانياً: وقف إطلاق النار – التزام سياسي وأمني واسع الأفق

أما مرحلة وقف إطلاق النار، فهي انتقال من الهدوء الإنساني المؤقت إلى اتفاق سياسي وأمني شامل يمتد لتسعة أشهر، تُعاد خلالها هيكلة القوات المسلحة وإعادة الانتشار، وتُنشأ آليات مراقبة ميدانية مشتركة بإشراف الرباعية والاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة.

وتتضمن هذه المرحلة إنشاء آلية مراقبة هجينة تجمع بين فرق المراقبة على الأرض والتقنيات الحديثة لرصد الخروقات، بما في ذلك صور الأقمار الصناعية والطائرات بدون طيار وتقارير المراقبين المحليين. وتصدر هذه الآلية تقريراً شهرياً مشتركاً يرفع إلى الأمانة العامة للرباعية لتقييم مدى التزام الجيش وقوات الدعم السريع ببنود الاتفاق.

ثالثاً: كيف يُفهَم قبول الجيش بالسلام مع استمرار التعبئة العسكرية؟

أثار تصريح وزير الدفاع السوداني، الذي أكد فيه “قبول السلام مع استمرار التعبئة العامة للحرب”، جدلاً واسعاً حول ما إذا كانت التعبئة العسكرية تتعارض مع شروط الهدنة التي طرحتها خارطة طريق الرباعية.

والحقيقة أن الهدنة، بحسب نصوص الخارطة، هي إجراء إنساني مؤقت يمتد لثلاثة أشهر، يهدف إلى وقف العمليات القتالية وفتح الممرات الإنسانية، ولا تلغي التعبئة الدفاعية من حيث المبدأ، لكنها تمنع استخدامها لشن هجمات أو لتغيير ميزان القوى على الأرض. وتُعهد مهمة التحقق من ذلك إلى آلية مراقبة هجينة تعتمد على صور الأقمار الصناعية والطائرات المسيّرة وتقارير ميدانية، لرصد أي تحركات أو استعدادات هجومية مخالفة.

أما في مرحلة وقف إطلاق النار الشامل التي تمتد لتسعة أشهر، فتُمنع التعبئة نهائياً، وتُعاد هيكلة القوات تحت إشراف مشترك بين المدنيين والآلية الدولية. فالمرحلة الحالية ما زالت تسمح بالتعبئة الدفاعية، لكنها لا تحتمل أبداً أي تحرك يهدد الهدنة أو يعرقل الانتقال نحو وقف إطلاق النار الشامل والسلام الدائم. فبحلول مرحلة وقف إطلاق النار بعد ثلاثة أشهر من الهدنة يمنع منعاً باتاً استدعاء المجندين الجدد، أو نقل وحدات قتالية دون إخطار، أو تنفيذ أي مناورات أو تدريبات ذات طابع هجومي. بل يتم تدريجياً تفكيك التعبئة وتحويل الطاقة العسكرية إلى مهام حماية مدنية ومراقبة أمنية بالتنسيق مع آليات الانتقال.

لذلك يجب أن يُفهم تصريح الوزير السوداني في سياق الاستهلاك السياسي الداخلي لتحييد أنصار الحرب، أكثر من كونه إعلاناً بتجاهل شروط هدنة الرباعية. ذلك أن هذه المناورة السياسية للجيش تفقد صلاحيتها بعد ثلاثة أشهر حين تبدأ مرحلة وقف إطلاق النار، وعندها تتوقف حتى التعبئة اللفظية للحرب، ناهيك عن التعبئة العسكرية.

رابعاً: الرقابة الاقتصادية كذراع تنفيذية للهدنة ووقف إطلاق النار

لتنفيذ مرحلتي الهدنة ووقف إطلاق النار، يَحسُن للرباعية إنشاء آلية اقتصادية–مؤسسية تسمى لجنة الرقابة على تجارة الموارد السودانية (S-RTOC)، تعمل على مراقبة صادرات الذهب والماشية والمحاصيل والوقود، وربط الامتثال العسكري خلال الهدنة ووقف إطلاق النار بالامتثال الاقتصادي. أي أن من يلتزم بالهدنة ووقف إطلاق النار يتمتع بحق التصدير والوصول إلى العملة الأجنبية، ومن يخرقها يُحرم من هذه الامتيازات.

وهكذا، تتحول الرقابة الاقتصادية إلى وسيلة ضغط سلمية لإجبار الأطراف على احترام الالتزامات دون اللجوء للعقوبات العسكرية التي ترصدها آلية المراقبة الهجينة التي تجمع بين فرق المراقبة على الأرض والتقنيات الحديثة لرصد الخروقات، بما في ذلك صور الأقمار الصناعية والطائرات بدون طيار وتقارير المراقبين المحليين.

خامساً: الدور المدني الموازي بناء البديل من الآن

الهدنة ووقف إطلاق النار ليستا غاية بحد ذاتهما، بل وسيلة لإعادة الدولة إلى مسارها المدني الطبيعي. وعلى القوى المدنية أن تستغل فترة الهدنة (3 أشهر) لتوحيد صفوفها وبناء مشروع وطني للانتقال الديمقراطي، على أن تعمل خلال فترة وقف إطلاق النار (9 أشهر)، ودون تدخل مباشر في مسارات الهدنة ووقف إطلاق النار، على ترسيخ مؤسسات إدارة مدنية فعالة، تهيئ البلاد لاستلام السلطة من العسكريين بعد انسحابهم من المشهدين السياسي والاقتصادي. ومن الضروري كذلك منع تسلل الموالين للنظام السابق أو الإسلاميين لإعادة السيطرة على مفاصل الدولة أو عرقلة مسار التحول الديمقراطي، وهو ما شددت عليه خارطة طريق الرباعية.

سادساً: تحذير وطني – مواجهة مساعي إفشال الهدنة

تواجه عملية السلام في السودان خطراً حقيقياً من شبكات مستفيدة تسعى لاستغلال أي فراغ أمني أو مؤسسي لتمويل وإشعال عمليات مسلحة. ولحماية الهدنة ووقف إطلاق النار، يجب تفعيل الآلية الرقابية الرباعية-الإفريقية مدعومة بمراقبة فضائية، وإجراءات مالية فورية تشمل مواجهة العمليات المشبوهة، وإطلاق فرق ميدانية للتحقق، وتنسيق عقوبات سريعة على الممولين. وهناك ضرورة لإشراك لجان المقاومة بالإبلاغ عن أي تحركات مريبة؛ كما يجب على السياسيين والقيادات العسكرية تحويل الخطاب السلمي إلى التزام عملي: فالهدنة ليست ذريعة للتعبئة الهجومية، وإنما فرصة لإعادة بناء السودان بعيداً عن لغة السلاح.

خاتمة: نحو فهم استحقاقات الهدنة ووقف إطلاق النار ومتطلبات الانتقال المدني

إنّ خارطة طريق الرباعية لم تأتِ لتمنح أيّ طرفٍ نصراً سياسيّاً أو عسكريّاً، بل لتوقف نزيف الوطن وتعيد توجيه طاقته نحو بناء الدولة على أسسٍ مدنية ومؤسسية. وقد حدّدت الخارطة بوضوح مرحلتين متكاملتين: الهدنة الإنسانية المؤقتة لثلاثة أشهر، تليها مرحلة وقف إطلاق النار الممتدة لتسعة أشهر، وصولاً إلى الترتيبات الانتقالية المدنية.

الفارق بين المرحلتين جوهري. فالهدنة ليست مرحلة سلام سياسي بعد، بل آلية إنسانية طارئة لوقف القتال، وحماية المدنيين، وفتح ممرات الإغاثة، مع بقاء الأطراف المسلحة في مواقعها الميدانية. أما وقف إطلاق النار، فهو اتفاق سياسي–أمني يهدف إلى تثبيت السلام والتهيئة للانتقال المدني، ويتطلّب إجراءات بناء ثقة، ونزع سلاح تدريجي، ومراقبة ميدانية مشتركة مدعومة بقدرات تقنية من الأقمار الصناعية والطائرات المسيرة.

في هذا السياق، لا يمكن تفسير تصريحات وزير الدفاع السوداني التي أكّد فيها ”مواصلة التعبئة العامة“ إلا كخطاب موجَّه للاستهلاك الداخلي، لامتصاص غضب الإسلاميين الداعين لاستمرار الحرب، لا كسياسة رسمية تناقض شروط الهدنة. فآلية الرقابة على الالتزام بالهدنة، وفق تصور الرباعية، تمنع عملياً أي حشدٍ عسكري هجومي أو نقلٍ للأسلحة والمقاتلين، وتخضع هذه التحركات لرصدٍ مباشر من المراقبين الدوليين وتقارير الأقمار الصناعية.

لكنّ التحدّي الحقيقي لن يكون عسكرياً فحسب، بل سياسياً ومدنياً. إذ تقع على عاتق القوى المدنية مسؤولية تاريخية خلال فترتي الهدنة ووقف إطلاق النار: توحيد الصف المدني، وإعادة بناء الجبهة الوطنية على أسس جديدة تضمن الكفاءة والنزاهة والتمثيل الواسع. كما أن هذه القوى مطالبة بإثبات جدارتها بالقيادة، والاستعداد لإدارة الدولة بعد انسحاب الجيش والدعم السريع من المشهد السياسي والاقتصادي.

وفي المقابل، يجب حماية مسار الانتقال المدني من اختراقات الإسلاميين الذين دأبوا على إفشال أي مسار يقود إلى إقصائهم من السلطة، حيث كانوا السبب المباشر في إشعال حرب أبريل لإفشال الاتفاق الإطاري. ومع بدء تنفيذ خارطة الطريق، يتوقّع أن يحاولوا عرقلة الهدنة أو تخريب وقف إطلاق النار عبر عمليات عسكرية متنكرة بزي الدعم السريع أو حتى زي الجيش عندما يشهر تخليه عن الإسلاميين. لذا تقتضي المسؤولية الوطنية أن تُفعّل الأجهزة الرقابية، ومبادرة الرباعية، وآليات المراقبة الميدانية، لمنع هذه الاختراقات ومحاسبة من يقف وراءها.

إنّ الفهم الصحيح لخارطة طريق الرباعية هو اعتبارها سُلَّماً تصاعدياً نحو السلام والانتقال المدني، لا كمجرد تفاهمٍ لوقف القتال. فالهدنة تفتح الباب لإنقاذ المدنيين، ووقف إطلاق النار يرسّخ الثقة بين الأطراف، والانتقال المدني يضع السودان أخيراً على عتبة الدولة الحديثة. ولا سبيل لذلك إلا عبر علاقة ذكية بين العسكريين الذين يلتزمون بالانسحاب من السياسة، والمدنيين الذين يثبتون أهليتهم للحكم الرشيد، والمجتمع الدولي الذي يضمن التزام الجميع بما اتُفق عليه.

melshibly@hotmail.com

عن بروفيسور/ مكي مدني الشبلي

بروفيسور/ مكي مدني الشبلي

شاهد أيضاً

مِنْ قَرَنْق إلىَ حِمِيدْتِي: فَشَلُ ”تَأسِيس“ السُوْدَانِ الجَدِيدِ بالسِلَاحِ

مِنْ قَرَنْق إلىَ حِمِيدْتِي: فَشَلُ ”تَأسِيس“ السُوْدَانِ الجَدِيدِ بالسِلَاحِ From Garang to Hemedti: The failure …