الإدارة الاقتصادية في زمن الأزمات: من إدارة الموارد إلى إدارة المخاطر

من بطون كتب
sanhooryazeem@hotmail.com
منبر بنيان – مقالات من بطون كتب

تمهيد

منذ أن واجه العالم أزماته المتكررة — من الكساد الكبير إلى جائحة كورونا، ومن الحروب التجارية إلى أزمات الطاقة والمناخ — تغيّر مفهوم “الإدارة الاقتصادية” من كونه آلية لتوزيع الموارد إلى كونه فنًّا لإدارة المخاطر والتعامل مع المجهول.
لم يعد التوازن المالي وحده معيار النجاح، بل أصبحت القدرة على الصمود الاقتصادي والاستجابة السريعة مؤشراً على فاعلية الإدارة.

وتأتي أهمية هذا المقال استكمالًا لمقالنا السابق «إصلاح الإدارة العامة من التيسير إلى الإبداع المؤسسي»، حيث ننتقل هنا من المنظور الإداري العام إلى المنظور الاقتصادي الذي يختبر قدرة الدولة على مواجهة الأزمات عبر أدواتها المالية والنقدية والمؤسسية.

أولاً: التحول في فلسفة الإدارة الاقتصادية

كان الهدف في الماضي هو تحقيق النمو عبر إدارة الموارد المتاحة، لكن الأزمات المتلاحقة أرغمت الدول على التحول نحو إدارة المخاطر باعتبارها ركيزة للاستدامة.
في الفكر الاقتصادي الحديث، أصبحت الإدارة الاقتصادية تتضمن ثلاثة مستويات مترابطة:

  1. إدارة الموارد – التخصيص والكفاءة.
  2. إدارة المخاطر – الوقاية والمرونة.
  3. إدارة الأزمات – الاستجابة والتعافي.

هذا التحول لم يكن شكليًا، بل فكريًا؛ إذ تحوّل التركيز من “كم نملك؟” إلى “كيف نحافظ على ما نملك ونواجه التهديدات؟”.

ثانياً: مدارس الفكر في إدارة المخاطر الاقتصادية

تُقسم المدارس الاقتصادية الحديثة مقاربتها للمخاطر إلى اتجاهين رئيسيين:

المدرسة الكلاسيكية: ترى أن السوق قادر على تصحيح نفسه، وأن تدخل الدولة يجب أن يكون محدودًا.

المدرسة الكينزية وما بعدها: تؤكد على دور الدولة في توجيه الاقتصاد وضبطه وقت الأزمات، كما حدث في برامج التحفيز المالي بعد أزمة 2008.

وقد نشأت من رحم هذه المدارس نظريات مثل الاقتصاد السلوكي الذي يدرس كيف تتفاعل المجتمعات مع المخاطر نفسياً وسلوكياً، وهو ما أثبت فاعليته في فهم استجابات الأسواق للأزمات.

ثالثاً: من الإدارة المالية إلى إدارة المرونة الاقتصادية

أبرز دروس الأزمات المعاصرة أن الاستقرار المالي لا يعني الأمان الاقتصادي.
فالكثير من الدول التي بدت قوية مالياً انهارت مؤقتاً أمام صدمات سريعة، مما أعاد صياغة مفهوم “المرونة الاقتصادية”.

تعتمد المرونة على ثلاثة أبعاد رئيسية:
تنويع مصادر الدخل كما فعلت دول الخليج في خطط ما بعد النفط، وإدارة الدين بذكاء لا بالتقشف وحده، ثم تعزيز الإنتاج المحلي لتقليل الاعتماد على الخارج.
وفي هذا الإطار، تُعد التجربة الصينية نموذجاً لإدارة المخاطر عبر تخطيط طويل الأمد، بينما تُعد التجربة الأوروبية مثالاً في التكامل الاقتصادي الوقائي الذي يمنع الانهيار عبر الاتحاد المالي والنقدي.

رابعاً: التجربة العربية والسودانية

في العالم العربي، ما تزال الإدارة الاقتصادية تميل إلى رد الفعل أكثر من الاستباق.
وتواجه الدول العربية تحديات مشتركة، منها محدودية التنويع الاقتصادي، وضعف التنسيق بين السياسات المالية والنقدية، وغياب مراكز تحليل المخاطر الاقتصادية.

أما في السودان، فالوضع أكثر تعقيداً بسبب طول فترات الاضطراب الاقتصادي، إذ يُدار الاقتصاد غالباً تحت ضغوط آنية دون رؤية متكاملة.
ويُعد إنشاء مجلس وطني للمخاطر الاقتصادية خطوة ضرورية لربط السياسات المالية، المصرفية، والسلعية ضمن إطار واحد، مما يعزز الاستقرار في مواجهة الأزمات المتكررة.

خامساً: الإدارة الاقتصادية كأداة للحوكمة الوطنية

من المهم النظر إلى الإدارة الاقتصادية بوصفها جزءاً من منظومة الحوكمة، وليست شأناً مالياً صرفاً.
فالشفافية في إدارة الموارد، والإفصاح المالي، والمساءلة في الصرف العام، تشكّل ضمانات رئيسية لتقليل المخاطر.
وقد أكدت تقارير البنك الدولي وصندوق النقد أن الدول التي تبنّت حوكمة مالية صارمة استطاعت تجاوز الأزمات بسرعة أكبر بنسبة ٣٠٪ مقارنة بغيرها.

سادساً: نحو نموذج جديد للإدارة الاقتصادية

يتشكل النموذج الجديد للإدارة الاقتصادية حول ثلاثة محاور مترابطة:
أولها الاستباق، عبر إنشاء وحدات متخصصة لرصد المخاطر وتحليلها لضمان سرعة اتخاذ القرار.
وثانيها الاستجابة، من خلال سياسات مالية مرنة وتدخلات موجهة تقلل من الخسائر المباشرة.
وثالثها التعافي، عبر برامج تحفيز وإصلاح هيكلي مستدام تعيد الثقة إلى الاقتصاد وتضمن نموه المتوازن.

سابعاً: ملامح من الفكر الاقتصادي الحديث

تشير أعمال كبار المفكرين مثل جوزيف ستيغلتز وأمارتيا سن إلى أن النمو الاقتصادي الحقيقي لا يُقاس بالأرقام وحدها، بل بمدى قدرة الدولة على حماية الإنسان وتمكينه من مواجهة التقلبات.
وهذا هو جوهر الإدارة الاقتصادية الإنسانية — الجمع بين الكفاءة والعدالة.

خاتمة

إن التحول من إدارة الموارد إلى إدارة المخاطر ليس ترفاً فكرياً، بل ضرورة وجودية في عالم تتقاطع فيه الأزمات بسرعة غير مسبوقة.
والدول التي تُدرك هذا التحول وتبني مؤسساتها على أسسه، تضمن لنفسها استدامة اقتصادية وأماناً اجتماعياً في آنٍ واحد.

يبقى السؤال الجوهري:
هل نملك في عالمنا العربي الشجاعة لتأسيس نظم إدارة اقتصادية تتجاوز رد الفعل إلى الفعل ذاته؟
ذلك هو التحدي الذي تنتظره الأجيال القادمة.

المراجع

  1. Joseph Stiglitz, Globalization and Its Discontents Revisited, Norton, 2017.
  2. Amartya Sen, Development as Freedom, Oxford University Press, 1999.
  3. World Bank, World Development Report 2022: Finance for an Equitable Recovery.
  4. IMF, Fiscal Policy in the Post-Pandemic World, 2023.
  5. OECD, Governance and Resilience in Economic Management, 2022.

عبد العظيم الريح مدثر

عن عبد العظيم الريح مدثر

عبد العظيم الريح مدثر

شاهد أيضاً

حين انطفأت الأخلاق… أُطفئت المصابيح: هل تنهض الأمم بلا ضمير؟

من بطون كتبsanhooryazeem@hotmail.comحين انطفأت الأخلاق… أُطفئت المصابيح: هل تنهض الأمم بلا ضمير؟منبر بنيان ،، مقالات …