من بطون كتب
sanhooryazeem@hotmail.com
الاقتصاد الغذائي بين المائدة والسوق
منبر بنيان مقالات من بطون كتب
اقتصاد المائدة: كيف تغيّر الغذاء من سلعة إلى صناعة
أولاً: مدخل إلى المفهوم
لم تعد المائدة مجرد رمزٍ للأسرة والعطاء، بل أصبحت مرآةً لاقتصادٍ عالميٍّ متشابك تحكمه سلاسل الإمداد، والمضاربات، والذكاء الاصطناعي في الزراعة والتوزيع.
لقد انتقل الغذاء من كونه سلعةً تُنتج وتُستهلك محليًا إلى صناعةٍ ضخمة تحددها الشركات الكبرى، والمؤشرات العالمية، وأزمات المناخ والسياسة.
فما يُوضع على المائدة اليوم يمر عبر منظومة اقتصادية تمتد من الحقل إلى المصنع، ومن السوق إلى سياسات الأمن الغذائي.
ثانيًا: من الزراعة إلى الصناعة
في منتصف القرن العشرين، كانت الزراعة تمثل قلب الاقتصاد الريفي، والمائدة تعتمد على الإنتاج المحلي الموسمي.
لكن مع العولمة، تغير المشهد:
ظهرت الزراعة الصناعية المعتمدة على الكيميائيات والبذور المعدلة.
انتشر النقل المبرد والتخزين الذكي مما فصل الإنتاج عن المواسم.
أصبح الطعام يُقاس بالكفاءة والربحية لا بالنكهة والقيمة الغذائية.
هكذا، تحوّل الغذاء إلى صناعةٍ رأسمالية تقودها شركات متعددة الجنسيات، حتى أن عشر شركات فقط تتحكم في أكثر من 70% من تجارة الغذاء العالمية.
ثالثًا: الأمن الغذائي وتحدي الندرة
تواجه دول العالم النامي، خاصة بعد الحروب والأزمات الاقتصادية، معضلة “الطعام أم السلاح”.
فالأمن الغذائي لم يعد مسألة إنتاجٍ فقط، بل سيادة قرارٍ اقتصادي.
في السودان مثلاً، كانت المائدة تعتمد على القمح والذرة المنتجة محليًا، لكن تراجع الزراعة وضعف البنية التحتية جعلاها رهينة للاستيراد وتقلبات الأسعار العالمية.
ويُضاف إلى ذلك ضعف سلاسل التبريد، وهدر الطعام الذي يتجاوز 25% في بعض الدول العربية.
رابعًا: التحول نحو اقتصاد المائدة المحلي
اقتصاد المائدة لا يعني فقط الزراعة أو الاستهلاك، بل هو إعادة ربط الإنسان بالأرض والغذاء.
إن دعم المزارع الصغير، وتشجيع الصناعات الغذائية الريفية، وإنشاء أسواق محلية للمنتجات الموسمية، تمثل ركائز لتحويل المائدة إلى رافعةٍ اقتصادية.
في هذا الإطار، يبرز نموذج “الاقتصاد التعاوني الغذائي” في دول مثل كينيا والبرازيل، حيث تُدار الجمعيات التعاونية ليس فقط للإنتاج، بل أيضًا للمعالجة والتسويق المحلي، ما أعاد التوازن بين المائدة والسوق.
خامسًا: المائدة الرقمية
التكنولوجيا دخلت المطبخ والمزرعة معًا.
من التطبيقات التي توصل الخضروات مباشرة من المزارع إلى البيوت، إلى خوارزميات الذكاء الاصطناعي التي تتنبأ بالطلب على أنواع الأطعمة.
حتى “الطاهي الافتراضي” أصبح مفهومًا حقيقيًا في سلاسل المطاعم الكبرى التي تستخدم البيانات لتصميم قوائم الطعام.
لكن السؤال الأخلاقي يظل حاضرًا:
هل سيظل الإنسان صاحب القرار في غذائه، أم ستحدده الخوارزميات؟
سادسًا: نحو رؤية إنسانية للغذاء
العودة إلى “اقتصاد المائدة” ليست حنينًا إلى الماضي، بل تصحيحٌ لمسار الاقتصاد الحديث.
فالغذاء في جوهره ليس سلعة، بل حقٌّ أساسي ووسيلة لبناء الصحة والاستقرار الاجتماعي.
ولهذا، فإن الدول التي استثمرت في الزراعة المستدامة، والابتكار المحلي في التغذية، نجحت في تحقيق أمنٍ غذائيٍّ متين دون ارتهانٍ للخارج.
سابعًا: خاتمة
“اقتصاد المائدة” دعوة لاقتصادٍ إنساني يضع الغذاء في مركز التنمية، لا في هامشها.
إنها عودة الوعي إلى علاقة الإنسان بالتراب والماء، وبقيم الاعتدال والتكافل التي دعا إليها الإسلام
فمن يملك مائدته، يملك قراره، ومن يفهم اقتصادها، يحمي مستقبل أمّته.
المراجع والمصادر:
- Food and Agriculture Organization (FAO), The State of Food Security and Nutrition in the World, 2023.
- Ellen MacArthur Foundation, Circular Economy and Food Systems, 2021.
- World Bank, Transforming Agri-Food Systems, 2022.
- عبد الحميد الغزالي، الاقتصاد الإسلامي ومشكلة الفقر، دار الشروق، 1995.
- المنتدى الاقتصادي العربي الإفريقي، تقرير الأمن الغذائي العربي، الخرطوم، 2022.
- محمد يونس، عالم بلا فقر، القاهرة: نهضة مصر، 2010.
عبد العظيم الريح مدثر
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم