التحول البيئي والهندسة المعمارية

التحول البيئي والهندسة المعمارية: نحو مبانٍ موفرة للطاقة ومستدامة اقتصادياً
منبر بنيان مقالات من بطون كتب
sanhooryazeem@hotmail.com

يشهد العالم في العقود الأخيرة تحوّلًا بيئيًا متسارعًا فرض نفسه على مختلف القطاعات، وفي مقدمتها قطاع الهندسة المعمارية الذي يمثل أحد أهم مؤشرات التنمية الحضرية والاقتصادية. لقد أصبح من الضروري أن تراعي المباني المعاصرة مبادئ الاستدامة، الترشيد في استهلاك الطاقة، والعزل الحراري، خاصة في ظل ارتفاع درجات الحرارة وتزايد التكاليف التشغيلية للطاقة.
تجربة فرنسا وعدد من الدول الأوروبية تُعد من النماذج الرائدة في إدماج الحلول البيئية ضمن التصاميم المعمارية، ما جعل منها مرجعًا عالميًا في مجال الهندسة الخضراء.

الهندسة البيئية ودورها في تصميم المباني

تقوم الهندسة البيئية المعمارية على مبدأ تحقيق التوازن بين الراحة الحرارية للسكان وتقليل الأثر البيئي. وتُعنى بتوظيف تقنيات التبريد الطبيعي، التهوية المتقاطعة، والعزل الحراري عبر مواد بناء صديقة للبيئة مثل الطوب الحراري والطين المعالج والألواح العاكسة للشمس.
ويُعد العزل الحراري من الركائز الأساسية، إذ تشير دراسات وكالة الطاقة الدولية إلى أن 40% من الطاقة المستهلكة في المباني تذهب للتبريد والتدفئة. ومن ثم، فإن تعزيز العزل في التصميم يمكن أن يخفض هذه النسبة بما لا يقل عن 30–50%.

التجربة الفرنسية في البناء المستدام

تُعد فرنسا من الدول التي وضعت تشريعات صارمة في مجال البناء المستدام، من خلال قوانين مثل RT 2012 وRE 2020 التي تلزم المباني الجديدة بتحقيق كفاءة طاقوية عالية واستخدام مصادر طاقة متجددة.
كما أن المعماري الفرنسي جان نوفيل أحد أبرز المهندسين الذين دمجوا الإبداع الجمالي بالبعد البيئي، مثل مشروعه معهد العالم العربي في باريس الذي اعتمد على واجهات ذكية تتحكم في دخول الضوء والحرارة.
تُظهر الإحصاءات الفرنسية أن تطبيق معايير العزل البيئي أدى إلى توفير سنوي يُقدّر بـ 25 مليار يورو على الاقتصاد الوطني من استهلاك الطاقة، إضافة إلى تقليص انبعاثات الكربون بنسبة تفوق 15% خلال عشر سنوات.

الأثر الاقتصادي للتصميم البيئي

لا يقتصر أثر العمارة البيئية على حماية البيئة، بل يمتد ليشمل البُعد الاقتصادي والاجتماعي.
فمن الناحية الاقتصادية، تُقلل المباني الخضراء من فاتورة الكهرباء والمياه، كما تُطيل من عمر المواد الإنشائية بفضل العزل الجيد وتقليل الرطوبة.
أما اجتماعيًا، فإن التصميمات البيئية تحقق جودة حياة أعلى من حيث الراحة الداخلية والإضاءة الطبيعية وتقليل الضجيج، مما يرفع من الإنتاجية والصحة النفسية للسكان.
وقد أظهرت دراسات البنك الدولي أن كل دولار يُستثمر في الكفاءة الطاقوية في البناء يعود بعائد اقتصادي يتراوح بين 3 إلى 5 دولارات على المدى المتوسط.

تجارب مقارنة: الشرق الأوسط والسودان

في دول الشرق الأوسط، بدأ الاتجاه نحو البناء المستدام يأخذ زخماً تدريجياً، خصوصًا مع ارتفاع درجات الحرارة إلى معدلات قياسية. فمدن مثل الرياض وأبوظبي والدوحة باتت تعتمد في تصاميمها الحديثة على نظم العزل المتقدمة والزجاج العاكس للشمس.
أما في السودان، ورغم التحديات الاقتصادية والبيئية، فإن العودة إلى المواد المحلية كالطوب الأحمر والطين المحسن تمثل خطوة في الاتجاه الصحيح، خاصة في القرى والمناطق الريفية. ويمكن أن تسهم هذه التجارب في إنشاء ورش وطنية لتصنيع مواد العزل محليًا، ما يخلق فرص عمل ويسهم في الحد من استيراد مواد البناء المكلفة.
ويُقترح أن تُدرج الجامعات والمعاهد الهندسية السودانية مقررات في العمارة المستدامة لتأهيل مهندسين قادرين على مواكبة التحولات البيئية المستقبلية.

انعكاسات التحول البيئي على الاقتصاد السوداني بعد الحرب

بعد الحرب التي خلفت دمارًا واسعًا في البنية التحتية السودانية، بات التحول نحو البناء البيئي المستدام ضرورة اقتصادية قبل أن يكون خيارًا هندسيًا.
إن إعادة الإعمار ستتطلب خططًا تعتمد على تقنيات العزل والتبريد الطبيعي لتقليل الاعتماد على الطاقة، خاصة مع ضعف الإمداد الكهربائي وارتفاع أسعار الوقود. ويمكن أن تصبح مشاريع إعادة البناء فرصة لتأسيس صناعة محلية في مجالات مواد البناء الصديقة للبيئة مثل الطوب المعزول والدهانات العاكسة.
كذلك، فإن الاعتماد على الطاقة الشمسية في المباني الحكومية والمستشفيات والمدارس سيسهم في خفض الإنفاق العام، ويعزز استقلالية المجتمعات المحلية في المناطق الريفية.
التحول البيئي هنا ليس مجرد استجابة لتغير المناخ، بل هو استراتيجية للتنمية الوطنية، تعيد للسودان قدرته على الإعمار الذاتي وبناء مدن أكثر قدرة على التكيّف مع المستقبل.

خاتمة

التحول البيئي في الهندسة المعمارية ليس ترفًا فكريًا أو اتجاهاً مؤقتاً، بل هو ضرورة وجودية واقتصادية تفرضها تحديات الطاقة والمناخ.
لقد أثبتت التجارب الفرنسية أن الاستثمار في العمارة البيئية يمكن أن يكون طريقًا لتحقيق نهضة اقتصادية خضراء، توازن بين كفاءة الموارد وجودة الحياة.
أما في دولنا النامية، فالمسار الأمثل يكمن في الجمع بين المعرفة التقنية الحديثة والموروث المعماري التقليدي الذي طالما تميز بتكيفه مع البيئة.
وعليه، فإن تبني نهج العمارة البيئية في السودان وسائر الدول العربية يمثل خطوة محورية نحو مستقبلٍ عمرانيٍّ مستدام ينسجم مع متطلبات التنمية الشاملة.

المراجع

  1. Jean Nouvel, Sustainable Architecture in the Modern World, Paris Architectural Press, 2019.
  2. International Energy Agency (IEA), Energy Efficiency 2023 Report, Paris, 2023.
  3. World Bank, Green Building and Economic Efficiency in Developing Countries, Washington D.C., 2022.
  4. Ministère de la Transition Écologique (France), Réglementation Thermique RT 2012 et RE 2020, Paris, 2021.
  5. Hassan Fathy, Architecture for the Poor: An Experiment in Rural Egypt, University of Chicago Press, 1989.
  6. United Nations Environment Programme (UNEP), Buildings and Climate Change: Status, Challenges, and Opportunities, Geneva, 2022.

عبد العظيم الريح مدثر

شاهد أيضاً

الذهب والدولار والنظام المالي الجديد: تحولات ما بعد الهيمنة

من بطون كتبsanhooryazeem@hotmail.comمنبر بنيان – مقالات من بطون الكتبمقدمة: في كل منعطف من منعطفات التاريخ …