التعليم (2)

فلسفة التعليم (2/7)
د. أبوبكر الصديق على أحمد مهدي
سنحاول أن نستعرض هنا، بإيجاز، الأفكار التربوية أو التعليمية الأساسية والرئيسية لهما، لسقراط ولأفلاطون. ونقول بأن معظم الأفكار التالية هي أفكار أفلاطون، مع أنه استعان بسقراط أو بلسان سقراط للتعبير عنها، وهل السبب مجهول؟!
وحتى اليوم والي حياة هذه الساعة الماثلة فينا، لا يزال العلماء غير متأكدين مما هي الأفكار التي طرحها سقراط في كتابات أفلاطون أو ما هي أفكاره تلك الموجودة بين حروف افلاطون؟! وأيها هي أفكار أفلاطون الخاصة، وكيف نميز بين هذه وبين تلك؟ وفيما يلي سنشير إلى أفلاطون وسنتحدث عن افلاطون لأنها كتاباته هو لا أكثر من ذلك، ولا غرض وراء ذلك.
لم يكتفِ أفلاطون (Plato) باستكشاف الأسئلة الحساسة ولا تلك المعقدة حول علاقات المواطنين بدولتهم وعلاقاتهم بجميع وظائفها، ولكنه ومن أجل القيام بذلك، أنشأ وأسس دولة طوباوية وسماها، الجمهورية، (المدينة الفاضلة)، وذلك في سبيل توضيح معتقداته ولتفسير مبادئه ومن أجل عرضها. وكان قد تناول جزء كبير من “الجمهورية” مشاكل التعليم.
لقد اعتقد أفلاطون أنه يجب تعليم الطلاب بما يتوافق وما يتناسب مع قدراتهم – وأنه لا ينبغي أن يحصلوا أو أن ينالوا جميعاً وكلهم نفس التعليم بالضبط. وفي هذا القرن، القرن الماضي، تحدث الفيلسوف الأمريكي العظيم “جون ديوي” ببعض الإعجاب عن ملاحظة أفلاطون الثاقبة بأن التعليم يجب أن يكون مصمماً للطفل، لقدراته، فطفل عن طفل يختلف ولا يتشابهان تطابقاً.
ومع ذلك، نجده قد انتقد أفلاطون لافتراضه أن البشر يقعون بالضرورة في ثلاث فئات تماماً. وقد أراد الفيلسوف جون ديوي أن يكون التعليم ملائماً لكل طفل من الأطفال على حدة. اضافة الي ذلك، رفض ديوي الفئات الهرمية للبرامج التعليمية الافلاطونية. وعلى عكس أفلاطون، لم يصنف فئة واحدة أفضل أو أعلى من الفئة الأخرى أو من الفئات الأخريات.
وقد تضمنت خطة أفلاطون التعليمية على تعليم خاص للعمال والحرفيين، وآخر مختلف للحراس (الجنود)، وتعليم مميز للحكام (الطبقة العليا). وكان من المقرر أن يتم تدريب المجموعة الأولى تدريباً جيداً في مهن معينة، بحيث تقوم بصنع أحذيتنا جيداً وتُعتنى بمحاصيلنا جيداً وهكذا، كما يقول أفلاطون على لسان سقراط طبعاً، ولا نجزم، من فيهما هو صاحب الفكرة أو من فيهما هو القائل أصلاً، ولكن ما يهمنا هو الفكرة بالتأكيد.
أما المجموعة الثانية، التي تُميّزها القوة البدنية وتلك الروح المعنوية الطبيعية، فكانت تتلقى تدريباً بدنياً وتدريباً أخلاقياً عالي المستوى. وقد وصف سقراط المساعد النبيل أو الحارس الشهم بأنه مُدرّب جيداً في الفلسفة وفي الروح المعنوية وفي السرعة وفي القوة. وأخيراً، كان من المقرر أن يتم تعليم الحكام المُحتملون بعناية فائقة في الفلسفة وفي الرياضيات وفي الأدب وفي التاريخ، وأن يستمر تعليمهم لما بعد سنوات الدراسة الاعتيادية.
ويعتبر نموذج أفلاطون للتعليم “وظيفي” -نموذج مُصمم لإنتاج أشخاص بالغين أكفاء لتلبية احتياجات الدولة المتعددة-. وقد طوّر أفلاطون فكره في التعليم في سياق وصف الدولة المثالية أو المدينة الفاضلة أو المدينة (الجنة)، وكان بإمكانه القول -كما فعل جون ديوي فيما بعد- إنه لا يوجد صراع جوهري بين الفرد وبين الدولة. أي أن المدرسين أو المعلمين يمكنهم ويستطيعون العمل على إنتاج أفراد مُحققين لذواتهم وفي نفس الوقت مفيدين للدولة.
مع ذلك، كانت لدى أفلاطون أفكار معينة للغاية حول الحياة الجيدة أو تلك المثالية، وما نُسميه اليوم “تحقيق الذات”. فقط أولئك الذين لديهم وقت فراغ للتفكير طويلاً وعميقاً، لمواصلة الدراسة مدى الحياة، يمكنهم المشاركة في الحياة الجيدة الحقيقية، وقد ارتبطت الحياة التأملية ارتباطاً وثيقاً بالحياة الجيدة. ولأن قلة مختارة فقط من السكان كانت تُعتبر هي القادرة على التأمل الحقيقي، ولأن العمل اليدوي للمجتمع يجب ولا بد أن يتم، فقد قضت العدالة بإعداد الطلاب للعمل الذي يتوافق مع قدراتهم والذي يتناغم مع مهاراتهم.
لم يُجادل أفلاطون، كما فعل ديوي فيما بعد، بأن الناس في مهنٍ متباينة تماماً يُمكنهم ويستطيعون تجسيد الإنسانية الحقة. ولقد كانت هذه المكانة مُخصصةً لقلةٍ قليلة، لكن القلة اكتسبت حقّها ونالته في مكانتها الرفيعة بفضل براعتها وبفضل جدارتها. ولكن، كان يجب منح جميع الأطفال، كلهم، فرصاً للكشف عن قدراتهم. وقد كان أفلاطون يُعتَبر هذا الترتيب عادلاً ونزيهاً (من أي زاوية، هذا هو السؤال)، ولا يزال هذا النهج الفكري راسخاً جداً في صنع السياسات التعليمية في عصرنا الحاضر وفي حاضرنا المعاصر.
لقد كان يؤمن ويُعتقد أن أسلوب حياةٍ مُعيّن -أسلوبٌ يتّسم براتبٍ عالٍ وبمكانةٍ مرموقة- هو الأفضل وهو الأمثل، ولا بد من منح جميع الأطفال فرصاً لتعلّم الموادّ التي تُهيئهم لمثل هذه الحياة. وإذا لم ينجحوا أو إذا لم يوفقوا في استغلال هذه الفرص، فإنّ فشلهم لا يُعتبر انتهاكاً للعدالة.
وهناك ثلاث طرق على الأقل لمعارضة مفهوم أفلاطون للعدالة التعليمية. إحداها وهو طرح نماذج متنوعة للحياة الفاضلة، وبمعني آخر إنكار نموذج أفلاطون الوحيد أو أي مثال أعلى آخر يشابهه أو يماثله. أما الثانية، فهي الإصرار على أن العدالة لا تنجز بتكافؤ الفرص؛ بل يجب أن تُفضي بطريقة ما إلى نتائج متساوية. وهناك طريقة أخرى، شائعة جداً في زماننا، وهي إنكار وجود فروق تعليمية جوهرية بين الأطفال، وبمعنى آخر الإصرار على أن “جميع الأطفال يستطيعون تعلم” أي شيء تُحدده المدرسة لهم، أي شيء، نعم أي شيء.
تُثير “جين رولاند مارتن” (Jane Roland Martin) حجة -تبدو مُقنعةً لدرجة كبيرة- أخرى ضد أفلاطون عندما تتهمه أو تقول بأنه تجاهل، عن عمد أو دون قصد، المهام الإنجابية لمجتمعه. وترى مارتن أن العمليات “الإنجابية” هي تلك التي انخرطت فيها النساء تقليدياً.. كتربية الأطفال، وكتدبير المنزل، وكرعاية المرضى والمسنين، وما شابه ذلك من أعمال أو من عمليات أو من مهام. ويُكثر أفلاطون من الحديث عن تعليم الأطفال، ولكنه لا يُكثر من الحديث عن مسألة رعايتهم اليومية.
ومع ذلك، فهو يقول إن أعضاء الطبقة الحاكمة يجب أن يكونوا مُتحررين من جميع هذه المهام ومن كل هذه الأعمال -بل لا بد ألا تكون لديهم أسرٌ ولا يمتلكون عوائل على الإطلاق، على الاطلاق، بل زواجٌ جماعي، يُنتج ذريةً صالحةً، يقوم بتربيتها الناس الآخرون، أيضاً بطريقة جماعية، أي تربية جماعية. فبدون ارتباطهم بالعائلة وبالممتلكات الشخصية، يجب أن يكونوا (الأوصياء) أكثر قدرةً على تكريس طاقتهم وحكمتهم لواجباتهم تجاه الدولة.
وتكمن شكوى “مارتن” في أنه على الرغم من أن أفلاطون (من خلال سقراط كمتحدث باسمه أو بلسانه) اقترح منح أو السماح للإناث بأن يكنّ وصيات (وهذا يعتبر اقتراح مذهل في زمانه)، فإن النساء اللواتي يتم اختيارهن لمثل هذه الأدوار يصبحن بلا جنس في الأساس. ويجب أن يتلقين تعليمهن بنفس الطريقة تماماً كالذكور. لا شيء في تعليم أي منهما مُستمد من مراعاة الحياة المنزلية وتلك العائلية؛ كل شيء يأتي من مراعاة الحياة العامة -نموذج ذكوري تقليدي بحت-.
إذا كان التعليم هو نفسه للذكور وللإناث، كما تجادل جين مارتن، فيجب أن يتضمن أفضل وأهم سمات كل التقليدين. ويتطلب تطوير مثل هذا النموذج دراسة وتحليل وتقييم كل التقليدين، وعلى الأرجح، أن يكون هناك تحولاً جذرياً في التعليم.
فعلاً، يستحق أفلاطون الثناء على إصراره وعلى الحاحه على عدم أهمية الجنس في اختيار الأوصياء، لكن نموذجه التعليمي يفترض تفوق الحياة الذكورية ومرغوبتها.
وقد ظلت المكونات الأساسية للتعليم، تلك التي وصفها أفلاطون، هي جوهر التعليم الليبرالي لأكثر من ألفي عام. ولا يزال الأدب والتاريخ والرياضيات وكذلك الفلسفة (التي شملت العلوم الطبيعية في عصر أفلاطون كمكون أقل أهمية) تُشكل العمود الفقري والأساس للمنهج الأكاديمي. ويتساءل الكثير والكثيرون من فلاسفة التعليم المعاصرين عن حكمة استعمال التخصصات التقليدية كنواة لمنهج المرحلة الثانوية.
أما الآن، فقد يكفينا النظر في الكيفية التي بدأ بها فلاسفة التعليم نقد منهج أفلاطون. أولاً، قد نشكك في ملاءمة توصياته للتعليم الحالي، وهل هي مناسبة أم لا؟
ثانياً، قد نتساءل عما إذا كانت وصفات أفلاطون سليمة وملائمة ومناسبة حتى في زمانه الماضي؟ فقد استند الكثير مما أوصى به إلى تمجيد الحرب والمحاربين. ولو لم يكن الأثينيين مولعين بالحرب، ولو لم يكونوا ضيقي الأفق في حبهم لأثينا، هل كانت دولتهم ستدوم أطول؟ أيٌّ من توصياته كانت موجهةً تحديداً نحو إدارة حملات عسكرية ناجحة وتخريج محاربين؟ هل هناك عناصر في منهجنا الدراسي مُصمَّمةٌ للغرض نفسه؟ هل الهدف صريحٌ أم هل هو ضمني؟
لموضوع هذه المناقشة الموجزة لأفلاطون ولسقراط أهدافٌ وغايات عديدة ومتعددة. لقد رأينا أن بعض الأسئلة في فلسفة التعليم لا تزال تُثير فضول الفلاسفة وأيضاً فضول المعلمين، كما فعلت مع أفلاطون ومع سقراط. وقد ذُكِّرنا بأن المعلمين المتميزين المتفردين الذين يلحون أو الذين يُصرّون على طرح أسئلة حساسة قد تُتَّهمهم السلطات بإفساد الشباب بسببها، هكذا هي العادة يا سادة.
لقد قادنا أفلاطون وأيضاً سقراط إلى طرح مجموعة من الأسئلة حول دور الدولة في التعليم، وأهدافه، والطبيعة الجنادرية للمناهج التقليدية، وحكمة المنهج التقليدي لطلاب اليوم، وإمكانية استخدام (أو تكييف) منهج سقراطي.
ومن المرجح أن تبقى جميع أو كل هذه الأسئلة معنا دائماً في فلسفة التعليم. ومثل سقراط، لن ندّعي المعرفة، ولكن يجب علينا أن نكون قادرين على تحديد الهراء وقادرين على رفضه بشكل أفضل عندما نسمعه، ونعمل على تقديم توصيات متوافقة مع التحليل السليم.
…….. نواصل
bakoor501@yahoo.com

شاهد أيضاً

الحوار

د. أبوبكر الصديق على أحمد مهدييرتجى الناس أن يقوم امامناطق في الكتيبة الخرساءكذب الظن، لا …