الخالة قمر الجيل

 


 

شوقي بدري
2 February, 2012

 

محاربات امدرمانيات


منذ فترة صرت مسئولاً عن طهي الطعام و تجهيز مائدة الغداء . و بالرغم من توفر كل شئ في السويد و توفر المعدات و كل ما يسهل العملية . إلّا ان الانسان يضيق و يتعب  في عملية اختيار الطعام . و عملية الشراء . و عملية نحت المخ لاستنباط اكلات متنوعة . و خمسة من الأولاد في سن المراهقة و بداية الشباب لا يمكن ارضاء الجميع . و لكل واحد رغباته و توقعاته .
و بدأت افكر في معانات الأم السودانية . و هنا في السويد في الصباح تكون هنالك مشاجرات و مشادات لأنه بالرغم من التشديد على الابناء ، و طلب تحضير كل شئ في المساء ، و يكون هنالك شيئاً ضائعاً . أو يتأخر احد الاولاد . و اضطر لتوصيله بالسيارة . و كنت اقارن حالنا بحال المحاربات في بلادنا . و النساء في امدرمان اسعد حظاً من نساء البادية . و تذكرت الخالة قمر الجيل . و قبل ثمانية سنوات كتبت عن حمودة ابن الخالة قمر الجيل الذي كان يصغرني سناً . و كان معقولاً و ذا خلق و تربية و كان مجتهداً في مدرسته .
جارتنا الخالة قمر الجيل كفلت بتربية ستة من ابنائها  بدون والدهم . و احسنت تربيتهم . و صاروا من الناجحين . رحم الله الميتين و الحيين . و طيب الله ثراها فلقد كانت امرأة عظيمة . هذه المحاربة العظيمة لم أرها إلّا نادراً خارج دارها . كرست كل حياتها لتربية و راحة ابنائها . لم يكن لها خادم او من يساعدها كحال اغلب الاسر الامدرمانية من الطبقات المتوسطة . و كان ابنائها يظهرون في ثياب نظيفة و منتظمة . و كانوا مهذبين و محبوبين . أكبرهم كانت اختنا احكام رحمة الله عليها و التي صارت مُدرسة . الاخ حافظ كان اكبر ابنائها . و كان جيداً في دراسته . و كانت له غرفة عند باب الدار في الجهة الشرقية التي تواجه بنك الصمغ في السردارية . و عرف في الحي بأسم ويبة . و كان جيداً في دراسته لدرجة انه عندما كان في الاعدادية ( الثانوية )  أن طلب منه الاخ رحمة الله عليه حمد ود حداد و الذي كان بنائاً ان يكتب له طلباً . فحرر له الاخ حافظ الطلب بسرعة باللغة الانجليزية . لأنها وقتها كانت لغة المكاتب قديماً . و أذكر ان الاخ حافظ قد اعتقل في مظاهرة في بداية دكتاتورية عبود . و ورد اسمه في الجرائد . و لم تجزع الخالة قمر الجيل . و لم تقرع ابنها بالرغم من أن خاله هو ياوران الرئيس عبود أو رئيس مكتبه و كان قائم مقام .
الخالة قمر الجيل رحمة الله عليها ، كانت دائماً في حركة داخل منزلها ، تشقى لكي يرتاح ابنائها . و عندما اتضايق من ابنائي اتذكر الخالة قمر الجيل ، التي لم تتوفر لها الغسلات و النشافات و ماكينات الكي الكهربائية و الأفران الحديثة . و كنت اتذكر ان والدة الخالة قمر الجيل كانت تسكن معها ، و كانت قد حرمت من نعمة البصر . و الخالة قمر الجيل كانت تعطيها كثير من اهتمامها . و كانت تلاعبها حتى تسليها بلعبة المنقلة . و هي لعبة مكونة من عشرين حفرة و في كل حفرة خمسة حجارة . و الآن عندما استرجع هذه الافكار احس بالاعجاب و الحب نحو الخالة قمر الجيل . و يعطيني هذا دفعة قوية . فالخالة قمر الجيل لم تكن تشتكي ابداً . كانت تبدو دائما متماسكة و كأنسان يسيطر على حياته . و لم أرها ابداً رافعة صوتها شاتمة أو لاعنة أو نادمة على حظها ككثير من النساء. و بعضهم كان يتفنن في الدعاء ( يضربك الضريب كسار عناقريب ) ، ( يدسوك تمنية و عشرين يفرم مصارينك ) . و تمنية و عشرين هو الترام القديم الذي كان يمشي من المحطة الوسطى لأبروف و يقوده العم منور .
الابن الثالث كان بدر الدين ، الذي كان فردتي و رفيقي . و كأغلب ابناء امدرمان كان له لقب و لقبه كان ( كرّاج ) . و هنالك حمودة و الذي بسببه كتبت موضوع درس امدرماني قدوم زعلان . ثم بكري و شقيقتهم الصغرى .
بدر الدين صديق الطفولة و الصبا و بداية الشباب ، اختفى و لم يعرف مصيره إلى الآن . سمعت بخبر اختفائه و انا في تشسلوفاكيا. تقبلت الخالة قمر الجيل الأمر بصلابة و قوة و ثبات . و واصلت نضالها كأحدى محاربات امدرمان . لم يبخعها الحزن و لم تحطمها المصيبة . واصلت رسالتها و نجحت في تربية بناتها و ابنائها و كانوا من الناجحين .
شقيقتي الهام بدري ، و التي تدير مدرسة الاحفاد للاساس بشارع الموردة ، و التي تواجه دار حزب الأمه اليوم . كانت تغضب من الطفلة و التلميذة قمر الجيل و لكنها تقول لها : (انا خليتك عشان اسمك قمر الجيل) . و لقد كانت تحمل اسم جدتها و هي ابنة حمودة الذي يعمل الآن في السعودية مع شقيقه حافظ . و منزلهم كان على  بعد خطوات من المدرسة . و الآن قد شيدوا داراً جديدة في نفس الحي .و الذي من المؤكد ان اهله و انا منهم قد تأثروا بروح المحاربة الامدرمانية المناضلة  قمر الجيل رحمة الله عليها .

اقتباس
درس امدرماني ......قدوم زعلان

الاخ احمد عبدالفراج المعروف بقدوم زعلان كان قويا بصوره ملحوظه يبدو و كانه مصفحه صغيره . و يقال انه الوحيد في الشله الذي كان يعمل له كبس الجبه حسابا كند له .
شلة كبس الجبه تكونت من كبس و قدوم زعلان و دغماس و راس الميت و اخرين ارتبطوا بالشله في اوقات مختلفه و لكن هؤلاء كانوا الاعضاء الدائمين . كبس عرف بكبس الجبه لانهم عندما كانوا صبيان في الجيش (نص تعيين ) كانت له شهيه مفتوحه و ساعدت التمارين العسكريه في جعله قويا ممتلئا و عندما عين كجندي كامل صرفت له الجبه التي كانت هي الزي الرسمي للجنود و تصرف عاده واسعه و يقوم الجندي بتقييفها عند الخياط . و لكن كبس كبس الجبه و لم تحتاج الي تقييف .
و في اثناء تمارين الملاكمه التي كانت عاديه في الجيش قديما كان المدرب شاويشا انجليزيا ضخما . و بضربه واحده اغمي علي الشاويش البريطاني . كبس و المجموعه حاربوا في الحرب العالميه الثانيه و في فلسطين . و قتل في عرس ال خاطر رميا بالرصاص . فلقد كان من العاده ان يفركش الفتوات الحفلات . و لهذا كان لكل حي فتواته للدفاع عن شرف الحي .فعندما حضر العم النعيم ( حطب ) خال مامون عوض ابوذيد لزيارتي في المنزل قال خالي اسماعيل ( حطب ده زمان كان بفركش كل حفلات بيت المال ) . ابوالدفاع كان متخصصا في فرتقة حفلات حي السوق و كان ضخما و لكن علاجه كان شخص نحيف لا استحضر اسمه الان . يحضرونه للحفلات و يعطونه نص عرقي و ما ان يراه ابوالدفاع حتي ينصرف فزعا 
قدوم زعلان هو خال الفنانه حنان بلوبلو و شقيقته دايه مشهوره في بداية شارع السيد الفيل . و شقيقه خضر كرموش كان ضئيل الجسم بطريقه ملفته النظر خاصه بالمقارنه مع شقيقه احمد .
في سنة 1963 اتي قدوم زعلان عابرا شارع السيد الفيل لصديقي عثمان ناصر الميكانيكي . لان سيارته المورس و التي هي بوكس لنقل العمال الي النقل الميكانيكي في بحري مقابل 150 قرش في الشهر عطبت . و بعد عبور كبري امدرمان لاحظ قدوم زعلان صوتا في العجل الخلفي اليسار . 
و لان المورس موديل قديم فلقد تخوف صديقي عثمان بان السبب قد يكون البلي و خوفه الاكبر ان يكون البلي ( بلح ) لانه لا يتواجد بسهوله .
و ذهب قدوم زعلان (احمد) للاستلقاء لا ن الوقت كان بعد الغذاء و قمت بمساعدة عثمان في رفع السياره و نزع العجل لنكتشف ان البلي ( بلح ) و مكسور فنادينا علي احمد من فوق الحائط لانه يستلقي تحت شجرة اللالوب . و عندما شاهد البلي المكسور جلس علي الارض واضعا يديه علي راسه و هو يئن و يشكو و يتسائل ماذا سيعمل مع العمال و هم عشره و التاكسي يساوي خمسه قروش طرحه للخرطوم و قرشين و نص لبحري اي ان الموضوع سيكلف 150 قرش في اليوم .
و فجاه يظهر حموده الصغير الذي كان قد بدأ دراسته في الصف الاول في مدرسة المؤتمر الثانويه . و والدته قمر الجيل هي جارتنا المباشره في السيرداليه لاننا قديما كنا نستاجر منزل خاله القائم مقام مصطفي الكمالي . حموده كان في طريقه من الترزي المشهور عبدالمحمود ابوصالح في المورده حاملا اثنين من البنطلونات الجديده في سرج العجله الخلفي . فانزلقت البنطلونات و شبكت في فرويل العجله و قام الجنزير بفرمها . فتركنا السياره و ساعدنا حموده في فك العجل و الجنزير الا ان البنطلونات كانت في حاله يرثي لها . و ضحك حموده بهدوئه و طيبته وادبه المعروف و قال ( يعني الواحد اول مره في حياته داير يلبس ليه بنطلون يحصل ليهو كده ! ؟) .
فانتفض قدوم زعلان من الارض و شد العراقي البلدي قائلا ( الود الصغير ده بناطلينو بي تسعه و لا عشره جنيه و يضحك . انا قدوم زعلان قاعد متفن في الواطه ) .
و اخيرا وجدنا البلي عند اسطي يحي صاحب الشنب الضخم في فريق فلاته و هو كذلك ميكانيكي . و بالرغم من انه جشع كالعاده و طالب بمبلغ كبير الا ان قدوم زعلان كان سعيدا و يردد ( بالله شوف الشافع ده ! و الله راجل ، ده لو ولد تاني كان بكي ، و الله في رجال بتجرسوا من دي ) . و كلما تضيق الامور و تكثر المشاكل اتذكر درس حموده الصغير لقدوم زعلان الفتوه .
شوقي

Shawgi Badri [shawgibadri@hotmail.com]
///////////



 

آراء