بقلم: م. جعفر منصور حمد المجذوب
Gaafar.hamad@gmail.com
مقدمة: شعارات بلا محتوى
منذ فجر الاستقلال، ظل السودان يدور في حلقة مفرغة من الانقلابات والتجارب الديمقراطية المجهضة.
وعلى مدى أكثر من سبعين عامًا، تحوّلت الديمقراطية عند النخب السياسية إلى شعار للاستهلاك، لا إلى ثقافة مؤسسية أو سلوك وطني.
وكما جعل الإسلاميون من الإسلام وسيلة للسلطة والثروة، جعلت الأحزاب السودانية من الديمقراطية وسيلة للتمكين والمناصب، ففقدت معناها وقيمتها.
البداية: المجلس التشريعي 1953
كانت أولى التجارب الديمقراطية في السودان عام 1953، حين أُنشئ المجلس التشريعي في ظل الحكم الذاتي.
لكن التجربة قامت على أساس هش من الصراع بين احزاب الأمة والوطني الاتحادي والطائفه الختمية، بين الولاء لبريطانيا اومصر.
تحوّل المجلس إلى ساحة تنافس طائفي بين بيت المهدي وبيت الميرغني، وغابت القضايا الوطنية الكبرى عن النقاش، فزرع ذلك الانقسام بذور الفشل المبكر.
الديمقراطية الأولى (1956–1958): حرية بلا وعي
مع إعلان الاستقلال عام 1956، بدأت أول تجربة ديمقراطية حقيقية ببرلمان منتخب.
غير أن الأحزاب الكبرى كانت طائفية الهوى، تفتقر إلى الرؤية والبرنامج.
تحوّلت الساحة إلى مزايدات وخلافات حول الحقائب الوزارية، بينما كانت قضايا التنمية والوحدة الوطنية مؤجلة.
انتهت التجربة سريعًا بانقلاب الفريق إبراهيم عبود عام 1958، لتبدأ أولى حلقات الحكم العسكري في السودان.
الديمقراطية الثانية (1964–1969): الحرية بلا مؤسسات
أعادت ثورة أكتوبر 1964 الأمل في التغيير، وأثبت الشعب السوداني نضجه وقدرته على المقاومة السلمية.
لكن بعد سقوط عبود، تكررت الأخطاء ذاتها.
الأحزاب التقليدية عادت بخطابها الطائفي، وبدأ الإخوان المسلمون في التمدد داخل الجامعات والنقابات، مستخدمين الدين كوسيلة للنفوذ. واندمج الحزب الوطني الاتحادي مع حزب الشعب الديمقراطى حزب الطائفة الختمية وتم طرد الحزب الشيوعى من البرلمان التحكم الطائفية تماما فى فرض ديمقراطية تتماشى مع مصالحها
انشغل الجميع بالصراعات الحزبية الضيقة، فكانت النتيجة انقلاب جعفر نميري عام 1969 الذي أغلق باب الديمقراطية الثانية.
الديمقراطية الثالثة (1985–1989): صراع الأحزاب والإسلاميين
بعد سقوط نميري في انتفاضة أبريل 1985، عاد الأمل مجددًا.
لكن انتخابات 1986 أفرزت الخريطة القديمة نفسها: حزب الأمة، الاتحادي الديمقراطي، والجبهة الإسلامية القومية.
انقسمت القوى السياسية على نفسها، وضعفت الحكومة أمام أزمات الجنوب والاقتصاد، بينما كان الإسلاميون يخترقون مؤسسات الدولة والجيش استعدادًا للانقضاض.
وفي يونيو 1989، نفذوا انقلابهم تحت شعار “ثورة الإنقاذ الوطني”، فأسدلوا الستار على الديمقراطية الثالثة باسم “الإسلام السياسي” وتم تحويل حرب الجنوب إلى حرب دينية وعربية أدت فى خاتمة المطاف إلى انفصاله .
الديمقراطية الرابعة (2019–2021): الثورة التي أكلتها الصراعات
جاء سقوط نظام البشير في أبريل 2019 كثمرة نضال طويل، وفتحت الثورة الباب لمرحلة جديدة من الأمل.
لكن قوى “الحرية والتغيير” وقعت سريعًا في فخ المحاصصة والأنانية السياسية.
تحولت السلطة الانتقالية إلى ساحة تنازع بين المدنيين والعسكريين، وبين التيارات اليسارية والإسلامية، فضعفت الحكومة وانقسم الشارع.
ثم جاء انقلاب 25 أكتوبر 2021 ليقضي على الديمقراطية الرابعة، ويعيد البلاد إلى نقطة الصفر.
تشابه المصير: الإسلام عند الإخوان… والديمقراطية عند الساسة
الإسلام والديمقراطية قيمتان ساميتان في جوهرهما، لكن في السودان تم تسييسهما وتشويههما:
جعل الإسلاميون من الإسلام وسيلة للتمكين التنظيمي والسيطرة على الدولة.
وجعلت الأحزاب من الديمقراطية وسيلة لتوزيع المناصب وتقاسم السلطة.
كلا الفريقين رفع الشعارات وتحدث باسم القيم العليا، لكنه مارس السلطوية، والمحسوبية، والأنانية.
فضاعت قداسة الدين، وسقط احترام الديمقراطية.
الدرس المستفاد: لا ديمقراطية بلا أخلاق
إن فشل الديمقراطيات المتعاقبة في السودان لا يعني فشل النظام الديمقراطي نفسه، بل فشل من مارسوه بعقلية ما قبل الدولة.
الديمقراطية ليست صناديق اقتراع فقط، بل هي ثقافة قانون، وشفافية، ومسؤولية.
وحين تغيب هذه الأخلاق، تصبح الديمقراطية مجرد واجهة، كما أصبح الدين عند الإخوان شعارًا بلا جوهر.
هل تكون الديمقراطية الخامسة ممكنة بعد الحرب؟
منذ اندلاع الحرب المأساوية عام 2023 بين الجيش والدعم السريع، يعيش السودان انهيارًا شاملًا في الدولة والمجتمع.
لكن من رحم هذه المأساة، قد تولد فرصة مختلفة — ديمقراطية خامسة مبنية على الوعي لا الولاء، وعلى المواطنة لا الطائفة.
لقد اكتشف السودانيون أن الحرب ليست بين فصيلين، بل بين ثقافتين: ثقافة التسلط والولاء الشخصي، وثقافة الدولة المدنية.
فإذا استطاع الجيل الجديد تجاوز ذهنية “الغنيمة السياسية”، فقد تتحول المأساة إلى نقطة انطلاق لمستقبل جديد.
لكن هذه الديمقراطية لن تُهدى من أحد، بل تُنتزع بالوعي، والمسؤولية، والصدق مع الذات — تمامًا كما أن الدين لا يُرفع شعارًا، بل يُعاش سلوكًا.
خاتمة
سقوط الديمقراطيات الأربع في السودان لم يكن سقوط أنظمة، بل سقوط قيم وسلوك سياسي.
ولن ينجح أي نظام مدني قادم ما لم يُبنَ على قاعدة جديدة من العدالة، والتعليم، والشفافية، والمواطنة.
فالديمقراطية ليست طريقًا إلى الحكم، بل أسلوب حياة وضمير وطن.
وحين يفهم السودانيون ذلك، يمكن للتاريخ أن يبدأ من جديد — لا من الصفر، بل من الوعي.
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم