مقدمة: في لحظةٍ فارقة من تاريخ السودان، تبدو الأسئلة التي كانت تُطرح بهدوء داخل أروقة البحث الأكاديمي والسياسي قد خرجت إلى العلن بعنفٍ مفرط: هل نحن أمام موتٍ بطيء للدولة؟ أم أمام انتحارٍ واعٍ، تقوده المؤسسة العسكرية والنخب، صوب مصيرٍ مجهول؟ بين الفوضى المستشرية والانهيار المتسارع، لم يعُد السؤال عن “من يحكم السودان؟
السودان: موت الدولة أم انتحارها؟ تحليل في انهيار الدولة، وسطوة العسكر، وتفكك النخبة
ما لا يُقارن: الانهيار السوداني بوصفه حدثاً غير قابل للقياس
أمجد شرف الدين المكي
سكرتير التحرير ورئيس قسم البحوث – سودانايل
خاص – سودانايل
مقدمة
في لحظةٍ فارقة من تاريخ السودان، تبدو الأسئلة التي كانت تُطرح بهدوء داخل أروقة البحث الأكاديمي والسياسي قد خرجت إلى العلن بعنفٍ مفرط: هل نحن أمام موتٍ بطيء للدولة؟ أم أمام انتحارٍ واعٍ، تقوده المؤسسة العسكرية والنخب، صوب مصيرٍ مجهول؟ بين الفوضى المستشرية والانهيار المتسارع، لم يعُد السؤال عن “من يحكم السودان؟” ذا جدوى، بل تحوّل إلى سؤال أكثر جوهرية: هل بقيت هناك دولة يمكن أن تُحكم أصلاً؟
يستعرض هذا التحليل مشهد الانهيار السوداني لا باعتباره تكرارًا لتجارب سابقة في القارة الإفريقية أو في سياقات ما بعد “الربيع العربي”، بل كحدثٍ فريد، يتعذر إخضاعه لمقارنات تقليدية أو نماذج تفسيرية جاهزة. فالسودان اليوم لا يُشبه البوسنة، ولا يُحاكي الصومال، ولا يتقاطع مع اليمن إلا في بعض مظاهر السطح. إننا إزاء حالة تفكك معقد، وتحوّل بنيوي يمس جوهر الدولة ومؤسساتها، ويُعيد تشكيل خريطتها السياسية والاجتماعية على نحوٍ لا سابق له.
هذا النص، وإن بدا سرداً تحليلياً لتفاصيل الانهيار، إلا أنه يسعى في جوهره إلى فتح أفقٍ أوسع للتفكير: في الدولة ومعناها، في النخب ومسؤولياتها، وفي المقارنة كأداة معرفية قد تفشل حين تواجه سياقات شديدة التفرّد. وهو مدخل أولي لسلسلة من المقالات القادمة، هدفها ليس فقط توصيف الكارثة، بل السعي نحو تفكيك مفاهيمها، وتوسيع دوائر النقاش حول شروط الإنقاذ، ومآلات الفشل، وإمكانيات النهوض.
من طمأنينة التعايش إلى رعب الفوضى: سقوط المعنى قبل سقوط الدولة
كُنَّا نظن أن السودان، بوصفه كياناً مُجتمعياً مُسالماً، ومُحمَّلًا بإرثٍ عظيم من التعايش السلمي، والتنوع المُجتمعي، مُحصّن – ولو جُزئياً – من الإنزلاق نحو الإنهيار الشامل للدولة. كُنَّا نعتقد أنه سينجو من تلك الأشكال الدامية من الإنهيارات المسلحة، والحروب الأهلية، التي عصفت بدولٍ عديدة في أعقاب “الربيع العربي” خلال العقد الأخير، أو تلك التي مَرَّت بها بعض النماذج المؤلمة في القارة الإفريقية خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، حين إجتاحت القارة موجاتٌ متتابعة من الحروب الأهلية، والتطهير العرقي، والإنهيارات المؤسسية، كما في رواندا، وليبيريا، والصومال، وسيراليون، والكونغو الديمقراطية.
بالنسبة للربيع العربي – ومنذ إندلاع شرارة تلك الثورات في ديسمبر 2010 من تونس، مروراً بمصر وليبيا واليمن وسوريا والبحرين في 2011، بدأ مشهد تلك الثورات، في مُجمله منقسماً بين إخماد سريع لها وإستقرار سياسي، كما في مصر والبحرين، وبين إنهيارات أمنية متسارعة قادت إلى حروب أهلية مدمّرة وإنقسام مؤسسي حاد كما في ليبيا واليمن وسوريا. وحدها تونس حافظت وقتها – نسبياً – على شيء من الإستقرار المؤسساتي، رغم هشاشته حتى يومنا هذا. بينما ظل النموذج المصري مُرتهناً إلى إستباق المؤسسة العسكرية للحظة الإنفلات، وهو أمر يُعزى إلى قوة المركز ومؤسساته للدولة المصرية، إضافةً الي بنية وطبيعة الجيش القومي فيها. ليبيا إنقسمت إلى حكومتين متنافستين شرقاً وغرباً، واليمن توزّعت بين حكومة معترف بها دولياً وميليشيا حوثية مسيطرة، في ظل كارثة إنسانية مستمرة، وحروب بالوكالة، وتدخلات دولية. أما سوريا فقد تفكّكت إلى مناطق نفوذ مُتداخلة تمارس فيها جيوش وميليشيات سلطات متنافسة، بعض منها طائفي وبعضها إرهابي، في مشهد يُحاكي حروب أوروبا الدينية في القرن السابع عشر. وأمرها أصبح الآن رهين للقوي الإقليمية والرشقات الدولية. البحرين، الصغيرة جغرافياً وديمغرافياً، نجت بتدخل مباشر من “قوات درع الجزيرة”، وهي قوات تتبع لدول مجلس التعاون الخليجي، التي أعادت تثبيت السيطرة الداخلية.
لكنّ السودان، كما يتّضح منذ الخامس عشر من أبريل 2023، لا يُشبه أياً من النماذج المعهودة في أدبيات الإنهيار أو التفكك السياسي. فعلى الرغم من التحذيرات المُبكرة، ومحاولات إتقاء مصير الإنزلاق نحو سيناريوهات الدول الفاشلة، وعلى الرغم من حضور خطابٍ وطني – سياسي وشعبي في آن واحد – ظلّ يرفض بوعيٍ مفاهيمي، ومن دون وعي، مقارن كل ما يرتبط بـ “الصوملة ” أو “اللبننة “، فإن الواقع الراهن يُشير إلى أن ما يعيشه السودان يتجاوز مجرّد محاكاة لنماذج الإنهيارات التقليدية.
نحن بإزاء حالة أكثر شمولاً وأعمق تفككاً من مجمل التجارب المُقارنة. فما يجري ليس مجرّد صراع تقليدي على السلطة بين فصيلين عسكريين أو جنرالين مسلحين، بل هو تحلّل تدريجي في وظيفة الدولة نفسها، من حيث قدرتها على إحتكار العنف المشروع، واحتواء أدواته، وامتلاكها للشرعية، وممارستها للحد الأدنى من الحوكمة وتقديم الخدمات الأساسية للمواطنين. وهي الخصائص التي تُشكّل، وفق التعريف الكلاسيكي الذي قدّمه المفكر الألماني ماكس فيبر، جوهر الدولة الحديثة ووظيفتها الجوهرية في تجسيد الكيان الوطني.
الدولة السودانية لم تعد تمارس سيادتها على كامل إقليمها، بل باتت سلطة رمزية موزعة جغرافياً ومتصارعة بنيوياً، تتقاسمها قوى غير رسمية مسلحة، بعضها ذو مرجعية قبلية أو جهوية، وبعضها الآخر مدعوم إقليمياً ويعمل ضمن أجندات غير وطنية. هذا التفكك البنيوي لا يُفسّر، أو ينظر اليه فقط بضعف القيادة السياسية، بل أيضاً بتراكم تاريخ طويل من غياب الإصلاح المؤسسي، والتغوّل العسكري المُطلق، على المجال المدني – الإنقلابات العسكرية المُتعددة – والفشل المتكرر في بناء مشروع وطني جامع يتجاوز الإنتماءات الأولية من قبيلة وجهة وطائفة، وجغرافيا.
لقد حاولت، وبحكم تخصصي في حقل العلاقات الدولية، ومن مُنطلق المقاربة التحليلية في علوم “السياسة المقارنة “، أن أجد نموذجاً يُقاس عليه الوضع السوداني، فلم أجده. لا البوسنة تصلح، ولا رواندا، ولا حتى اليمن أو إفريقيا الوسطى.
فالبوسنة، رغم حربها الطاحنة، حافظت على بنية دستورية تحت رعاية دولية. ورواندا، رغم فظاعة الإبادة، عرفت لاحقاً بناءًا مركزياً للدولة. حتى اليمن، رغم تعقيداته، ما يزال يحتفظ بجزء من وظائف الدولة في بعض مناطقه. السودان، في المقابل، يبدو وكأنه يدخل طوراً جديداً من أشكال الإنهيار. طوراً لا يُوجد له وصف دقيق مُقارن في الأدبيات التقليدية لإنهيار الدول، ولا في سجلات ما بعد الربيع العربي. إنه تحلّل من الداخل، إنفجار للمركز، وإنهيار للعاصمة السياسية ذاتها، وتنبؤات دراماتيكية واقعية للأسف، في مشهد باتت فيه المليشيات، تتكاثر، وتُمارس سُلطات الأمر الواقع، بينما الدولة تنسحب إلى الأطراف.
في هذا السياق، يتضح أن السودان لا يعاني فقط من أزمة سياسية أو صراع مسلح، بل من خلل بنيوي في وظيفة الدولة ذاتها. وبتحليل ما يجري في ضوء المفهوم السياسي للدولة الحديثة، والتي تقوم على إحتكار العنف المشروع، كما ذكرت أعلاه، يظهر أن السودان قد تجاوز هذا الخط الفاصل، وأصبح فضاءًا مفتوحاً لفواعل غير رسمية. تلك الفواعل التي كانت هامشية في السابق، تحوّلت الآن إلى اللاعبين الأساسيين في مشهد السيادة، بينما إختفت مؤسسات الدولة أو باتت خاضعة لولاءات متداخلة ومعطّلة. هذا المشهد يُهدد بإنهيار كلي لا يقتصر على وحدة الأرض، بل يمتد إلى تآكل الهوية الوطنية ذاتها.
السودان يتحرك، بخطى متسارعة، نحو شكل من أشكال الفوضى التي لا تُشبه غيرها. ولا نموذج حتى قريب منه. تعدد الحروب داخل الحرب الواحدة، وتحوّل الجيش إلى مليشيا والمليشيا إلى جيش، وغياب مشروع جامع، كل ذلك يعكس مأزقاً وجودياً لم يعد ممكناً التعامل معه عبر حلول تفاوضية جزئية أو محاولات شكلية لوقف إطلاق النار. إنه مأزق الكيان، لا النظام فقط. وهو ما يجعل السؤال عن مستقبل السودان سؤالاً مفتوحاً على إحتمالات كارثية، منها التفكك الجزئي، أو التقسيم الفعلي، أو إستدامة الفوضى كسيناريو دائم.
في مقاربة المُقارنات الفاشلة: لماذا لا يُشبه السودان أحداً؟
رغم تشابه الحروب الأهلية في مظاهرها العامة من قتل وتشريد وإنهيار مؤسسي، إلا أن مقاربة الحالة السودانية عبر النماذج المعروفة تفشل في الإحاطة بتعقيدها المتجذر وتشظّيها الفريد. كثيرًا ما تُستدعى نماذج مثل البوسنة، رواندا، اليمن، والصومال، لفهم ما يجري في السودان، لكن سرعان ما تظهر الحدود التحليلية لهذه المقارنات. فالسودان لا يبدو أنه يُعيد إنتاج أزمة سابقة، بل يؤسّس – على نحو مأساوي – لنموذج إنهيار مُركّب جديد كُلياً – لا يخضع للمساطر التقليدية في حقل السياسة المقارنة. ليست المشكلة فقط في تعدد الميليشيات أو غياب الدولة، بل في أن عملية التحلّل والتفكك السوداني تنبع من داخل البنية المؤسسية نفسها للمُجتمع السوداني. وهذا موضوع مُعقد جداً، تدخل فيه الهُويات والجغرافيا والتاريخ كعوامل أساسية في التحليل، وهو أمر أتركه للمختصين فيه. لكن عموماً تفجّرت الدولة من قلب أجهزتها، وتحوّلت مؤسساتها إلى أطراف مُتصارعة، وأدواتها النظامية إلى وسائل لشرعنة الفوضى. ولذلك فإن المقارنة ليست فقط غير دقيقة، بل تكاد تكون مضلّلة تحليليًا إن لم تُحط بسياق نقدي يُظهر خصوصية المشهد السوداني من حيث تركيبته الإجتماعية، وبنيته السياسية، وتاريخه الإداري. في هذا السياق، تبدو كل محاولة لقياس السودان على تجارب إنهيار أخرى كمن يحاول تطويع ظاهرة في قوالب لا تسعها. ومع ذلك، فإن تحليل أوجه التشابه والإختلاف مع بعض الحالات قد يُسهم في توضيح الحدود المفاهيمية لما يجري، ويُبرز فشل أدوات التحليل التقليدي في إستيعاب حالة تتجاوز النموذج، ولا تقبل القياس. ومن هنا تبرز الحاجة إلى مراجعة نقدية لهذه المقارنات، ليس فقط لفهم السودان، بل لإعادة النظر في أدبيات إنهيار الدولة نفسها.
هل يُشبه السودان البوسنة؟
في البوسنة، رغم المجازر الطائفية والإنقسامات العرقية الشرسة التي شهدتها البلاد في تسعينيات القرن الماضي، ظل هناك حد أدنى من الحضور الدولي، ممثلًا في حلف الناتو والأمم المتحدة، تدخل من هذه المؤسسات – ولو متأخرًا – لضبط المشهد. كما أن إتفاقية دايتون وضعت حداً للحرب من خلال رسم واضح للسلطات وتقسيم إداري شبه فدرالي. السودان، في المقابل، يفتقر إلى هذا النوع من التدخل الحاسم أو أي إطار دولي جامع لوقف الحرب، كما أن الانقسامات فيه ليست فقط إثنية أو دينية، بل عسكرية وجهوية وطبقية، ومليشيات لا يمكن حصرها، وغير محصورة في حدود يمكن إعادة هندستها مؤسساتياً.
هل يُشبه رواندا؟
المقارنة برواندا 1994 تظهر فجوة أكثر إتساعًا. فالمجزرة في رواندا، رغم قسوتها، كانت كثيفة ومحددة زمنيًا (100 يوم)، وانتهت بسيطرة قوة سياسية واحدة (الجبهة الوطنية الرواندية) أعادت بناء الدولة مركزياً من الخراب. السودان لا يسير نحو مركز، بل يتفتت إلى مراكز متنافرة، وحواضن إثنية وجهوية تتنافس لا على الدولة، بل على موارد انهيارها. كما أن رواندا – بعد الحرب – تبنت سردية وطنية جامعة حاولت بناء الأمة على أنقاض الكارثة، بينما في السودان، يتآكل “الخطاب الوطني” ذاته.
هل يُشبه ليبيريا؟
حتى في حالة ليبيريا، التي عرفت حربين أهليتين بين عامي 1989 و2003، ظلت هناك عاصمة إسمية تمارس فيها حكومة – ولو محدودة – بعض أشكال السيادة، مع وجود بعثة أممية قوية (UNMIL) دعمت مسار السلام. أما السودان، فإن العاصمة ذاتها – الخرطوم – قد خرجت من المعادلة بالكامل، وتحوّلت إلى مسرح مفتوح للفوضى، والنهب والإنهيار الأخلاقي والمؤسسي. لا حكومة، لا حماية، لا مؤشرات على عودة قريبة لوظائف الدولة.
هل يُشبه الصومال؟
في تقديري، يُخطئ كثيرون حين يضعون الصومال مرجعًا مباشرًا للحالة السودانية. صحيح أن الصومال انهارت منذ 1991 ولم تستعد مركزيتها إلى اليوم، بالرغم من المحاولات الإقليمية والدولية العديدة، وبالرغم مما نراه ونقرأ بياناته الاقتصادية والأمنية. فهي (الصومال) مازالت تُصنف على أنها دولة فاشلة بكل المقاييس. وأن إنهيارها تم بعد عقود من التهميش المناطقي والفشل السياسي تحت حكم محمد سياد بري. السودان، بخلاف الصومال، عرف مؤسسات إدارية نسبيًا، ونظامًا قضائيًا وتعليميًا كان يُحترم تاريخيًا. وسقوطه اليوم لا يأتي من الفشل التراكمي فقط، بل من إنفجار مركزي داخلي، حيث تقاتل أطراف كانت في يوم من الأيام داخل النظام نفسه، وبوسائل عسكرية نظامية، على أنقاض جهاز الدولة ذاته.
هل يُشبه اليمن؟
قد يرى البعض تشابهًا مع اليمن، خصوصًا من حيث تعدد الفاعلين المسلحين وتدخل الأطراف الإقليمية، والحرب بالوكالة، proxy war- – وإنهيار الحكومة المركزية. لكن هناك فرق نوعي: في اليمن، لا تزال هناك حكومة معترف بها دوليًا، وأخري مُعارضة سياسية واضحة (الحوثيون)، وخطوط جغرافية بين المتحاربين. في السودان، التداخل العنيف، وإنعدام خطوط التماس الثابتة، ووجود جيوش موازية، وغياب أي جسم سياسي ذي مشروعية داخلية أو خارجية، يجعل المشهد أكثر تعقيدًا وأقل قابلية الي التحليل الكلاسيكي.
هل يُشبه جمهورية أفريقيا الوسطى؟
في أفريقيا الوسطى، عاشت البلاد فوضى مسلحة مزمنة، مع وجود مليشيات إثنية دموية وضعف تام للدولة، مما جعل التدخل الأممي والدولي هو الحاسم في إعادة ضبط الحد الأدنى من الأمن. السودان، رغم تعقيداته، لا يشبه أفريقيا الوسطى كذلك، لأنه يمتلك سجل دولة أقدم وأكثر رسوخًا، وبالتالي فإن سقوطه ليس مجرد أزمة نزاع أهلي، بل إنهيار مشروع الدولة الحديثة في أحد أعرق بلدان القارة.
في وجه التفكك: سقوط المجتمع لا الدولة فقط
إن تآكل الدولة لا يُفرغ فقط الفراغ السياسي، بل يُطلق شروخًا عميقة في نسيج المجتمع ذاته. إذ يؤدي غياب القانون إلى إنتاج قانون بديل، تُسيّره قوى السلاح والمصالح، مما يعيد تعريف مفاهيم مثل الشرف، الحماية، العدالة، والانتماء، وفق منطق البقاء لا الدولة. وهذا ما بدأنا نلمسه في السودان، من خلال إنهيار الثقة بين مكونات المجتمع، وتحوّل بعض المجموعات المسلحة إلى أدوات للهيمنة الإجتماعية، لا فقط العسكرية.
تُبيّن هذه المقارنات أعلاه، والتي قد حاولت أن أكون مُبسطاً لها، من غير إغراق القارئ للمُقارنات. فبنظرة سطحية جداً ومن مجموعها، فإن السودان لا يُشبه أحداً من النماذج التي عادةً ما يُستدعى ذكرها في سياق تحليل النزاعات الأهلية أو الدول المُنهارة. فلكل حالة من تلك الدول خصائصها التي مكّنت – بدرجات متفاوتة – من التدخل الدولي، أو من إعادة بناء الدولة، أو حتى من رسم خطوط تماس واضحة بين المتحاربين. أما السودان، فإن ما يميّز مساره هو تعددية مراكز التفكك، وتداخل مستويات الانهيار المؤسسي مع الإنقسام المجتمعي، وغياب أي مركز شرعي أو سياسي قادر على إعادة إنتاج الدولة، ناهيك عن غياب إرادة دولية حاسمة لتثبيت الحد الأدنى من النظام. إننا أمام حالة يصعب تحليلها وفق الأدوات التقليدية لعلم السياسة المقارنة، وأصعب منها محاولة إيجاد مخرج إذا لم يُعاد التفكير جذرياً في كيفية فهم هذا الإنهيار، لا فقط كمأساة محلية، بل كتحوّل هيكلي غير مسبوق في مفهوم الدولة الحديثة داخل القارة الإفريقية.

كاتب التقرير – أمجد شرف الدين المكي
سكرتير التحرير ورئيس قسم البحوث – سودانايل
السيناريوهات الممكنة: إلى أين يمضي السودان؟
إذا تجاوزنا مرحلة المقارنة، واعترفنا بأن السودان يُنتج شكلاً خاصاً من أشكال الانهيار، فإن السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه هو: إلى أين يمضي هذا المسار؟ ما هي السيناريوهات الممكنة، أو حتى المُحتملة، في ظل هذا التآكل المتعدد المستويات للدولة والمجتمع معاً؟ الإجابة عن هذا السؤال لا تتطلّب فقط تحليل المعطيات المحلية، بل استحضار موقع السودان في الخارطة الإقليمية والدولية، ودور الفاعلين غير المحليين، وتوازنات المصالح المتشابكة. فكما أن أزمة السودان داخلية في منشئها، فإن تعقيدها الخارجي لا يقلّ خطورة، سواء من حيث تغذية الحرب، أو من حيث تعطيل مسارات التسوية.
السيناريو الأول: التفكك المتدرج والاستدامة الفوضوية
السيناريو الأكثر ترجيحاً – في ظل المعطيات الراهنة – هو ما يمكن وصفه بـ “التفكك المتدرج واستدامة الفوضى”، وهو مسار لا يتجه بالضرورة نحو التقسيم الرسمي أو الاعتراف القانوني بكيانات متمايزة، بل يقوم على واقع عملي تتحول فيه السلطة إلى شبكة من القوى المحلية المسلحة، ذات مرجعيات جهوية أو قبلية أو اقتصادية، تتقاسم الجغرافيا الإثنية والقبلية، دون مركز وطني فاعل. في هذا السياق، تتحول الدولة إلى مجرد إطار رمزي، تُستخدم شعاراته حين الحاجة، لكن دون سيادة فعلية أو جهاز مؤسسي موحّد. ويُفضي هذا السيناريو إلى رسوخ نظام من “اللامركزية القهرية”، حيث تفرض كل ميليشيا أو قوة محلية قواعدها، وتعيد تعريف مفاهيم الحكم والخدمة والأمن وفق مصالحها الضيقة. على المستوى الإقليمي، يتقاطع هذا المسار مع مصالح دولٍ تسعى لإبقاء السودان في حالة ضعف إستراتيجي، أو لا تملك أصلاً إرادة التدخل الجاد خشية الإنزلاق في مستنقع معقّد. وعلى المستوى المجتمعي، تُنتج الفوضى المستدامة ديناميات جديدة من النزوح، والإنقسام، وإعادة بناء الولاءات حول الهويات الصغرى، على حساب فكرة المواطنة والوطنية الجامعة. ويكمن الخطر في أن هذا السيناريو، وإن بدا تدريجياً وغير معلن، إلا أنه أكثر السيناريوهات قابلية للاستمرار بحكم ضعف التوازنات، وتكاثر القوى المسلحة، وتآكل الفكرة المركزية للدولة.
السيناريو الثاني: التدخل الخارجي وفرض تسوية برعاية دولية أو إقليمية؟
في مقابل سيناريو التفكك والفوضى، يبرز سيناريو آخر يقوم على فرض تسوية سياسية تحت رعاية خارجية، سواء عبر تدخل مباشر من قبل فاعلين دوليين، أو من خلال مظلة إقليمية كالإتحاد الإفريقي، وربما برعاية مشتركة مع الأمم المتحدة أو قوى دولية ذات نفوذ في المشهد السوداني. ومن بين أكثر السيناريوهات الإقليمية احتمالاً، يبرز احتمال تشكُّل محور تدخلي تقوده قوى عربية وشرق إفريقية، في مقدمتها مصر، والسعودية، والإمارات، إلى جانب دولة أو اثنتين من دول الجوار الإفريقي، مثل إثيوبيا وجنوب السودان، بالنظر إلى عمق ارتباطها الجغرافي والسياسي بالوضع في السودان. غير أن تباين مصالح هذه الأطراف، وتعدد أجنداتها، قد يُعقّد عملية التوافق على إطار تسوية موحد، ويجعل التدخل الخارجي – ما لم يكن محكوماً بمنهج تشاركي واضح وشفاف – أحد عوامل تعقيد الأزمة، لا مفتاحاً لحلّها.
هذا السيناريو يستند إلى قناعة آخذة في التشكل داخل بعض الدوائر الإقليمية والدولية، بأن ترك السودان لمصيره قد يفضي إلى تهديدات أوسع نطاقاً، تتجاوز حدوده الجغرافية لتطال أمن البحر الأحمر، والاستقرار في القرن الإفريقي، وتوازنات القوى بين الفاعلين الإقليميين المتنافسين. غير أن تحقق هذا السيناريو يواجه جملة من التحديات، فغياب الإرادة الدولية الموحدة، وتناقض مصالح القوى المتدخلة، واستعصاء الأطراف السودانية على الالتزام بأي عملية سياسية جادة حتى الآن، كلها عوامل تُضعف من فرص نجاح تسوية مفروضة من الخارج. كما أن أي تدخل غير متوازن قد يُعيد إنتاج منطق الوصاية أو التدويل، ويُكرّس انقسامات إضافية داخل المجتمع السوداني، لا سيّما إذا لم يكن نابعاً من توافق داخلي واسع، أو لم يضمن تمثيلاً عادلاً للقوى المدنية والمجتمعية، وليس فقط للأطراف المسلحة أو الموقعة على اتفاقيات سابقة. ومع ذلك، يبقى هذا السيناريو قائماً كخيار إضطراري في حال وصلت الحرب إلى مستويات تهدد الأمن الإقليمي، أو تسببت في موجات نزوح جماعي غير قابلة للإحتواء.
السيناريو الثالث نهوض داخلي لمسار وطني جديد:
رغم قتامة المشهد، يبقى السيناريو الثالث – وإن بدا ضعيف الاحتمال في الوقت الراهن – هو الأكثر مشروعية وأهمية على المدى التاريخي، وهو سيناريو النهوض الداخلي عبر توافق وطني شامل، يُعيد بناء الدولة من القاعدة، لا من فوق، ويستند إلى الإرادة المجتمعية، لا المعادلات العسكرية أو الضغوط الخارجية. يقوم هذا السيناريو على فرضية إستعادة الفعل المدني لموقعه، من خلال قوى إجتماعية، ونقابية، وشبابية، ونسوية، وجبهات محلية قاعدية، تتجاوز الإنقسامات النخبوية والطائفية، وتُعيد إنتاج مركز سياسي جديد يعكس التنوع السوداني لا ينفيه. هذا الخيار يتطلب من القوى المدنية أن تتحوّل من موقع الإدانة الخطابية إلى موقع الفعل الاستراتيجي والتنظيم القاعدي، بما في ذلك بناء شبكات بديلة للتمثيل، وصياغة مشروع سياسي جامع، يُقاوم الحرب دون أن يهادن الفوضى، ويطرح بديلاً حقيقياً لمنطق السلاح. في هذا السياق، قد تنشأ ديناميات مقاومة جديدة من عمق المجتمعات المتضررة، تتجاوز الأطر التقليدية للأحزاب والحركات، وتُعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة على أسس من الحقوق، والمساءلة، والتكافؤ. ورغم صعوبة تحقق هذا السيناريو دون وقف شامل لإطلاق النار، وضمانات لحماية الفعل المدني من القمع والإرهاب، إلا أنه يظل الأفق الوحيد القادر على إنتاج دولة سودانية قابلة للاستمرار، وذات سيادة فعلية على مواطنيها وأرضها، دون الحاجة إلى وصاية أو تفويض.
تُبرز هذه السيناريوهات الثلاثة – على تباينها في المرجعية والمسار – أن السودان يقف اليوم على مفترق طرق حاسم، تتقاطع فيه إحتمالات الفوضى، وضغوط الخارج، وإرادة الداخل. فمن جهة، يبدو مسار التفكك المتدرج واستدامة الفوضى هو الأقرب إلى منطق الواقع، في ظل إختلال موازين القوى العسكرية، وإنعدام الإرادة السياسية للتسوية. ومن جهة أخرى، تلوح في الأفق محاولات متعثرة لتدويل الأزمة أو تدويرها إقليمياً، لكنها لا تزال رهينة حسابات المصالح الضيقة وغياب الرؤية المشتركة. وفي المقابل، يظل الأفق الأضعف احتمالاً – لكنه الأشد حاجة – هو النهوض من الداخل، وبناء مشروع وطني جديد يُعيد تعريف الدولة ووظيفتها على أسس مغايرة لما سبق. المفارقة الكبرى أن كل سيناريو من هذه السيناريوهات يحمل في داخله عوامل تقويته وعوامل فشله، ويتوقف ترجيح أحدها على كيفية تصرف الفاعلين المحليين، وقدرة المجتمع السوداني على صياغة سردية للخروج، لا للبقاء في قلب الأزمة. إن السودان لا يحتاج فقط إلى وقف الحرب، بل إلى إعادة إنتاج الدولة، وإعادة تعريف مركزها، ونزع الطابع المليشياوي عن السياسة والسلطة على حدٍّ سواء. ومن هنا تبدأ المعضلة الحقيقية: هل تملك النخب السياسية والعسكرية والاجتماعية الجرأة على خوض هذا التحول؟ أم أن السودان سيتحول إلى نموذج مفتوح لفشل الدولة وانكسار المجتمع في آنٍ معاً؟
مسؤولية النخب السودانية في تعميق الأزمة أو إمكانية الخروج منها
في لحظة وطنية حادة يتنازع فيها السودان بين الإنهيار الكامل ومحاولات الإستبقاء على الحد الأدنى من الكيان السياسي، لا يمكن تجاهل مسؤولية النخب السودانية – بمختلف أطيافها المدنية والعسكرية والإجتماعية – في ما آلت إليه البلاد. فقد تواطأت نخب الحكم والمعارضة، على السواء، في إنتاج بيئة سياسية مشوّهة، يغيب عنها أي أفق إصلاحي طويل المدى، وتعلو فيها حسابات الغلبة والتكتيك على منطق الدولة والمصلحة العامة. فالنخب العسكرية، التي تحكّمت في مركز القرار لعقود، لم تكتف بتقويض الانتقال الديمقراطي، بل ساهمت في عسكرة الحياة السياسية وتفكيك مؤسسات الدولة، سواء عبر الانقلابات المتكررة أو بتغذية الانقسامات داخل الأجهزة النظامية نفسها. أما النخب المدنية، فلم تنجُ من مأزق التشظي والعجز، إذ عجزت عن بناء مشروع سياسي بديل، وارتضت – في كثير من اللحظات الحرجة – أن تلعب دور الشريك الصوري أو المُبرر لسياسات الأمر الواقع، دون أن تُقدّم بدائل فكرية أو تنظيمية تُنافس رواية السلطة أو تُزعزع منطق القوة. في المقابل، بدت النخب التقليدية، الاجتماعية والدينية والقبلية، أسيرةً لنمط الوساطة المرتبط بمواقع النفوذ المحلي، دون أن تنخرط في بناء عقد اجتماعي جديد يتجاوز منطق الزعامة والرعاية. وهكذا، فإن النخب – عوض أن تكون أداة للخروج من الأزمة – أصبحت جزءاً أصيلاً منها، وعائقاً أمام أي تحول تاريخي حقيقي.
إمكانية تجاوز النخب لأزمتها وشروط بناء قيادة سياسية جديدة
غير أن مأزق النخب، رغم تعقيده، ليس قدراً محتوماً. إذ تبقى إمكانية تجاوز هذه الأزمة رهينة بإعادة تعريف وظيفة النخبة نفسها، لا بصفتها حاملة لامتياز سياسي أو طبقي، بل بوصفها تعبيراً عن وعي جمعي يسعى إلى تأسيس مشروع وطني جديد يتجاوز منطق الغلبة والتمثيل الفوقي. ولكي تنشأ قيادة جديدة تعبّر عن هذا التحول، لا بد من توفر شروط ثلاثة على الأقل: أولها، القطع مع منطق التوريث السياسي، سواء كان حزبياً، قبلياً، أو عسكرياً، والانفتاح على قيادات ناشئة من خارج دوائر السلطة التقليدية، تمتلك شرعية نابعة من التمثيل الشعبي القاعدي، لا من القرب من مركز القرار. ثانيها، القدرة على بلورة سردية وطنية جديدة لا تقوم على الإنكار أو الإدانة المجردة، بل على الاعتراف بالمأساة، وتحمّل المسؤولية التاريخية عن الأخطاء، والانطلاق من هذا الإدراك لبناء أفق يتسع لتنوع السودان لا يختزله. وثالثها، صياغة مشروع مؤسسي بديل يعيد بناء الدولة، لا على نموذج استنساخي لنُظُم ما قبل الحرب، بل على رؤية تدمج اللامركزية مع وحدة السيادة، وتعيد ضبط العلاقة بين المجتمع والدولة على أسس تعاقدية، لا سلطوية. من دون هذه الشروط، ستظل النخب الحالية – أو حتى الجديدة شكلاً – مجرد تكرار لدورات الفشل، وستبقى القيادة غائبة أو مُختطفة، في بلد يبحث عن ذاته في زمن ما بعد الدولة.
هل لا تزال هناك فرصة لاستعادة الدولة؟
رغم ما يبدو من قتامة المشهد، فإن سؤال إستعادة الدولة لا يزال مشروعاً، وإن كان مشروطاً بسلسلة من التحولات العميقة التي تتجاوز مجرد وقف الحرب أو تقاسم السلطة بين المتنازعين. إن استعادة الدولة في السودان ليست عودةً إلى ما كان، بل تأسيساً جديداً لما يجب أن يكون، على قاعدة نقد جذري لبنية الدولة ما قبل الانهيار، ومراجعة شاملة لمنظومة إنتاج السلطة، ومنطق توزيع الموارد، وطبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع. الدولة لا تُستعاد بالشعارات، ولا بمجرد التسويات، بل بإعادة بناء مشروع وطني يتجاوز المركزية الصلبة، ويُعيد إنتاج معنى السيادة من خلال مؤسسات شرعية، لا مليشيات الأمر الواقع. لكن هذه الفرصة ليست مفتوحة إلى الأبد. فكل يوم تمضي فيه الحرب، يتآكل ما تبقى من النسيج الاجتماعي، وتنحسر إمكانيات الفعل الجماعي، ويتقدّم منطق البقاء على منطق البناء. ومن هنا، فإن المسألة ليست فقط إمكانية استعادة الدولة، بل سرعة التحرك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من شروط وجودها. فالتاريخ لا ينتظر، والمجتمعات التي تتأخر في إنتاج بدائلها تُفرض عليها نماذج خارجية لا تشبهها، ولا تخدمها.
إطار جديد للتفكير في مفهوم الدولة بعد الانهيار
إن الأزمة السودانية، بقدر ما تكشف عن إنهيار سياسي وأمني ومجتمعي، فإنها تطرح من حيث العمق سؤالاً معرفياً حول صلاحية مفهوم الدولة نفسها كما استُورد في التجربة السودانية منذ الاستقلال. فالدولة، كما صيغت في النموذج ما بعد الكولونيالي، لم تنبع من المجتمع، ولم تُعبّر عن تنوعه، بل فُرضت من الأعلى كسلطة مركزية ثقيلة، اختزلت السيادة في الأجهزة، واحتكرت التمثيل السياسي باسم مشروع وطني لم يتجسد فعلاً. واليوم، بعد هذا الانهيار المعمم، يبدو من الضروري التفكير خارج النموذج الموروث، لا بهدف إنكاره، بل بهدف تجاوزه نحو صيغة أكثر قابلية للاستدامة. الدولة ما بعد الانهيار لا يمكن أن تكون إستعادة شكلية للدولة ما قبل الانهيار، بل لا بد أن تُبنى كعقد اجتماعي جديد، يدمج المركز والأطراف، ويُعيد توزيع السلطة والثروة بشكل عادل، ويضمن التمثيل المتوازن لمكونات البلاد، ويُنتج شرعية من القاعدة إلى القمة، لا العكس. هذا لا يعني الذهاب إلى نماذج التقسيم أو الانفصال، بل التفكير في دولة مركبة، مرنة، لا تتسلط على المجتمع، بل تنبع منه وتُجسّده.
خاتمة
في ضوء ما سبق، يبدو أن الحديث عن السودان لم يعد مجرّد تأريخ لأزمة أو توصيف لنزاع، بل بات يتطلب تفكيراً جذرياً في بنية الدولة، ووظيفة النخب، ومعنى الوطنية، ومفهوم السيادة، في لحظة ما بعد الإنهيار. فالأزمة السودانية ليست فقط سياسية أو عسكرية، بل هي اختبار حقيقي للفكر السياسي في إفريقيا والعالم العربي، ولقدرة المجتمعات على إعادة ابتكار ذاتها تحت أقسى الظروف. وبينما تتنازع البلاد سيناريوهات الفوضى والتدخلات الخارجية والاحتمالات الضئيلة للانبعاث الداخلي، فإن الإجابة على سؤال المستقبل لا تأتي من الخارج، ولا من توازنات القوة وحدها، بل من مدى قدرة المجتمع السوداني على تجاوز صدمة الانهيار، وصياغة ميثاق وطني جديد ينقذ المعنى من الخراب.
وإذ أضع هذا التحليل البسيط، فإنني أعي أن ما طُرح فيه ليس سوى مدخل أولي لتحليل أعمق، ومسار أطول من الأسئلة والتفكيك والبناء. فالموضوع، بما يحمله من تشعبات تاريخية ومعقدات سياسية واجتماعية، لا يمكن اختزاله في مقالة واحدة، بل يحتاج إلى سلسلة من الأوراق والتحليلات والمداخلات التي سأعمل على إعدادها في الفترة القادمة، أملاً في أن تُسهم في إعادة التفكير الجماعي في سؤال السودان، لا بوصفه جغرافيا منكوبة فحسب، بل كقضية سياسية وفكرية وإنسانية مفتوحة على احتمالات وجودية. وأملي، إلى جانب ذلك، أن تستدعي هذه اللحظة الحاسمة الكُتّاب والأكاديميين والباحثين من مختلف أنحاء السودان، للمساهمة في هذا الإطار المعرفي، عبر الكتابة، والتحليل، والنشر، وتفكيك المفاهيم السائدة، والمشاركة في إعادة بناء سردية وطنية جديدة تُلامس تعقيدات الواقع، وتتجاوز النظرة المركزية أو الاختزالية، وتفتح أفقاً حقيقياً للخروج من هذا المنعطف المصيري.
كاتب التقرير – أمجد شرف الدين المكي
سكرتير التحرير ورئيس قسم البحوث – سودانايل
باحث وطالب دكتوراة في العلاقات الدولية
Salve Regina University
amgadss@gmail.com