الفاشر.. ذاكرة الصمود وعبق دارفور القديمة

aminoo.1961@gmail.com
بقلم: أمين الجاك عامر – المحامي

في الأيام الماضية، وبينما كنا نتابع عبر وسائل الإعلام أخبار مدينة الفاشر ونسأل عن حال أهلها، رأينا مشاهد تقشعرّ لها الأبدان؛ مناظر لم تكن في الحسبان،مجازر وإبادات جماعية،وأرتال من المواطنين الهاربين نحو المجهول، نساءً وأطفالًا وشيوخًا، يلوذون بالصحراء القاسية، حيث لا ماء ولا زاد ولا دواء.

تألمتُ وأنا أستعيد صورة مدينة الفاشر التي عرفناها يومًا: مدينة الجمال والشموخ، التي لا تشبه سوى نفسها، بشوارعها الهادئة وناسها الطيبين، الذين يحملون في وجوههم البِشر وفي قلوبهم الكرم والترحاب.
تلك المدينة التي لا تغيب عن الذاكرة مهما امتد بها الألم وتبدلت الأحوال.

الفاشر قلب دارفور النابض في عهد الحكم الإقليمي بالسودان، وحين كان الوطن مقسّمًا إلى ستة أقاليم رئيسية قبل أن يُستبدل بنظام الولايات، كانت دارفور واحدة من أكبر الأقاليم وأعرقها. إقليم ضارب بجذوره في التاريخ، كان في الماضي سلطنة مستقلة حتى ضمّه الإنجليز إلى السودان عام 1916م.
وفي قلبه كانت مدينة الفاشر، العاصمة الإدارية والبوابة الغربية للسودان نحو تشاد وإفريقيا الوسطى، تنبض بالحياة وتزخر بالتاريخ.

دارفور، التي يحدها من الشرق إقليم كردفان، ومن الغرب تشاد، ومن الشمال ليبيا، ومن الجنوب إفريقيا الوسطى، كانت تزدان بمدنها النابضة بالحياة:
نيالا، ثاني أكبر مدن الإقليم، والجنينة ثالثها، وزالنجي في الوسط، وكبكابية الزراعية، وكتم العريقة في الشمال، والطينة الحدودية، والمالحة، والسريف، والعديلة في الريف الهادئ.

مليط.. لؤلؤة الشمال
شمال شرق الفاشر، وعلى بُعد سبعين كيلومترًا، تقع مليط، المدينة الجميلة التي تغنّى بها الشاعر محمد سعيد العباسي في قصيدته الخالدة:

حيّاكِ «ملّيطُ» صوبُ العارضِ الغادي
وجادَ واديكِ ذا الجَنّاتِ من وادِ
فكم جلوتِ لنا من منظرٍ عَجَبٍ
يُشجي الخليَّ ويروي غُلّةَ الصادي

كانت مليط مركزًا تجاريًا وإداريًا مهمًا في شمال دارفور، ومحطة عبور رئيسية على طريق القوافل القديمة بين الفاشر وكبكابية والصحراء الليبية، كما كانت محطة جمركية ذات أهمية خاصة.

في عام 1986م، أصدر ديوان شؤون الخدمة قرارًا بإيفاد وفود من موظفيه إلى الأقاليم المختلفة لمراجعة الوظائف وإعداد ميزانية الفصل الأول ميدانيًا.
كنتُ من بين أعضاء الوفد المكلّف بزيارة إقليم دارفور، إلى جانب زيارة كردفان وعاصمته الأبيض.

انطلقت بنا الطائرة — من نوع فوكر (Fokker)، التي كانت تُستخدم في المطارات الترابية — من الخرطوم نحو الفاشر.
وبعد ثلاث ساعات من التحليق في سماء السودان الواسعة، هبطنا على المدرج الترابي للمدينة، لتبدأ واحدة من أجمل الرحلات في الذاكرة.

كان مشهد الاستقبال مؤثرًا لا يُنسى؛
أعيان المدينة ورموزها مصطفّون أمام الطائرة، وجوههم باسمة وقلوبهم عامرة بالود، يرددون عبارة واحدة:
“حمداً لله على السلامة.”

كانت تلك اللحظة حدثًا ينتظره الجميع بشغف، إذ لم تكن الطائرة تهبط سوى مرتين في الأسبوع.

تقدّم الناس نحو الركاب يسألون بحنين عن صحف الخرطوم التي لم تكن تصلهم بانتظام:
“هل أحضرتم معكم الرأي العام؟ الأيام؟ الصحافة؟”
“وعالم الرياضة؟ أخبار الهلال والمريخ؟”
هكذا كانت الفاشر، مدينة البساطة والنقاء، التي تجمع بين أصالة التاريخ ودفء الإنسان.

من المطار، اتجهنا إلى منزلنا في حي الكرانك، وبعد صلاة العصر تناولنا الغداء.
وفجأة، تسلّل إلى مسامعنا صوت ميكروفون بعيد يبث أغنيات الفنان محمد الأمين، ومن بينها أغنيته الشهيرة “خمسة سنين”، التي سمعتها لأول مرة هناك. وتقول كلماتها:

خمسة سنين معاك يا زينة الأيام يا نوارة
الحلوين مرة حلوة زي أنسام زي أحلام

سألت عن مصدر الصوت، فعرفت أنه من السينما التي كانت تبث قبل عروضها اليومية مجموعة من الأغاني السودانية الجميلة.

وفي المساء، ذهبنا إلى حديقة الطيب المرضي ذات الأشجار الوارفة لتناول العشاء.
أخبرنا النادل أن لديهم “سرينا بالجبنة والطعمية والفول”، و”سرينا” — كما أوضح مبتسمًا — تعني العدس!
ضحكنا يومها كثيرًا، وكانت تلك البساطة الساحرة عنوانًا لجمال المدينة وأهلها الطيبين.

اليوم، ورغم ما مرّت به الفاشر من مآسٍ وأحزان، ما زالت تحتفظ في ذاكرتها بصور تلك الأيام الخالدة؛
حين كانت دارفور درة الغرب، وكانت الفاشر قلبها النابض ووجهها الجميل في مرايا الوطن.
وغدًا، بإذن الله، وبصدق وعزم الرجال، ستعود الفاشر كما كانت — مدينةً للسلام، وذاكرةً للصمود، وعبقًا خالدًا لدارفور السودان

عن امين الجاك عامر

امين الجاك عامر

شاهد أيضاً

إثيوبيا… فجر النهضة في قلب القرن الإفريقي

aminoo.1961@gmail.comبقلم: امين الجاك عامر المحامي شاهدت اليوم مقطعًا متداولًا في الوسائط الاجتماعية يوثّق لحظة تسليم …