الفساد في إفريقيا: بين الأنظمة الحاكمة والمجتمع

د. نازك حامد الهاشمي
يرتبط الفساد، بأنواعه المختلفة، بالأنظمة الحاكمة بوصفه ظاهرة اجتماعية، ارتباطًا متبادلًا، إذ يغذي كلٌّ منهما الآخر. فعندما ينتشر الفساد في مؤسسات الحكم، سواءً أكان على شكل رشوة أو محسوبية أو استغلال للنفوذ، لا يظل محصورًا في الدوائر السياسية، بل يمتد تأثيره إلى المجتمع بأسره، إذ يرى الأفراد أن الوصول إلى المنافع لا يكون عبر الكفاءة أو الجدارة، بل من خلال العلاقات والمصالح الخاصة، فيبدأ هذا السلوك بالتحول إلى نمط اجتماعي مألوف ومقبول. ومع مرور الوقت، يصبح الفساد ثقافة عامة تُمارس في شتى المجالات، من التعليم إلى الخدمات العامة وحتى الحياة اليومية. وفي المقابل، يساهم، بشكل غير مباشر، مجتمع تضعف فيه قيم النزاهة والشفافية في ترسيخ الفساد داخل الأنظمة الحاكمة، لأن غالب المسؤولين أنفسهم هم بالطبع جزء من هذا النسيج الاجتماعي. وهكذا تتشكل دائرة مغلقة، حيث يؤدي الفساد السياسي إلى تفشي الفساد الاجتماعي، ويؤدي التساهل الاجتماعي بدوره إلى استمرار الفساد السياسي. ويتطلب كسر هذه الحلقة معالجة مزدوجة تجمع بين الإصلاح الإداري والسياسي من جهة، وتعزيز التربية الأخلاقية والوعي المجتمعي من جهة أخرى. فمكافحة الفساد لا يمكن أن تنجح بالقوانين وحدها، بل تحتاج إلى بناء ثقافة مجتمعية تؤمن بالعدالة والمساءلة وتنبذ السلوكيات غير الأخلاقية. وحين يصبح الوعي العام هو الرقيب الأول، يُفتح الطريق أمام تحولٍ حقيقي نحو نظام حكم نزيه ومجتمع أكثر استقامة وعدلاً.
وفي القارة الإفريقية (كما في غيرها في بعض دول العالم الأقل نمواً، وحتى في العالم “الأول”)، لا يمكن الحديث عن العدالة والمساءلة بمعزل عن البيئة السياسية والاقتصادية المعقدة، التي تتداخل فيها مصالح النخب المحلية مع الضغوط والتأثيرات الخارجية. وهناك كثير من الأنظمة الحاكمة في أفريقيا نشأت أو استمرت في الحكم بفضل دعم خارجي اقتصادي أو عسكري، مما جعل فكرة المساءلة الوطنية محدودة أو مشروطة. والعدالة هنا ليست مسألة قانونية فحسب، بل مسألة سيادة أيضاً. فحين تُستخدم العدالة كأداة سياسية أو تُفصَّل القوانين لخدمة فئة حاكمة، تتحول الدولة إلى ساحة نفوذ أكثر منها مؤسسة حكم، ويصبح واقع الثقافة المجتمعية انعكاسًا للواقع السياسي: الناس لا يؤمنون بالعدالة لأنهم لا يرونها، ولا يثقون بالمؤسسات لأنها تخدم الأقوياء لا القانون. وغالبًا ما تُمارس المساءلة على المستوى الأدنى من الهرم الإداري، بينما تبقى الطبقة العليا بمنأى عن المحاسبة بسبب تحالفات مع قوى إقليمية أو شركات دولية، ما يجعل الفساد ظاهرة بنيوية تتغذى من ضعف العدالة وغياب الاستقلال القضائي. وتضاعف الصراعات الإقليمية والمصالح الخارجية من تعقيد الوضع، إذ تُستنزف الموارد في الحروب أو في دعم حركات مسلحة، فتُضعف تركيز الدولة على بناء مؤسسات العدالة، وتختزل المساءلة في الولاء عوضاً عن القانون.
فعلى سبيل المثال كان الفساد في السودان جزءًا من المعادلة السياسية لعقود طويلة عبر كل الأنظمة التي حكمته، ولم يكن مجرد سرقات مالية، بل أداة لبناء الولاءات؛ ومنح العقود والمناصب لمن يضمن الولاء للنظام لا لمن يملك الكفاءة. ومع تدهور الاقتصاد، انتقل هذا النمط إلى مؤسسات الدولة والمجتمع، فتغلغلت شبكة الولاءات الشخصية والمصالح الخاصة في جميع مستويات الحكم والإدارة، وأصبحت الكفاءة والعدالة تخضعان لمعادلة الولاء السياسي، مما حوّل الفساد إلى ثقافة مؤسسية ومجتمعية متجذرة. وترجع جذور هذا الفساد إلى فترات الحكم التركي – المصري، ثم الحكم الثنائي الإنجليزي- المصري، حيث كانت السلطة مركزية، والمناصب تُوزع على أساس الولاء الشخصي والمنافع الخاصة، دون بناء مؤسسات وطنية قوية. وعقب الاستقلال، تواصل هذه المعادلة، وتم التركيز أكثر للوصول إلى السلطة والحفاظ عليها، دون تأسيس نظام حكم شفاف أو محاسبة فعلية. وقد انعكس هذا الوضع في تعدد القوانين وتغييرها بحسب إيديولوجية السلطة الحاكمة ورغباتها، ويذهب البعض إلى أن العلة تكمن في عدم صياغة دستور ثابت يرسخ العدالة والمساءلة.
لقد حكم السودان بعدة دساتير منذ الاستقلال، كان كل منها يعكس رؤية السلطة الحاكمة في تلك الفترة، ولم يفلح أو يسهم أي منها في إنشاء نظام حكم متين قائم على العدالة والمساءلة. وجعل هذا التغير المستمر للقوانين والدساتير النظام القانوني والسياسي هشًا وغير مستقر، وخلق بيئة خصبة لتغذية الفساد، حيث أصبح الواقع السياسي والاجتماعي مرتبطًا بشكل مباشر بالمصالح الشخصية للسلطة، وليس بالكفاءة أو العدالة. كما أدى ذلك الواقع إلى ترسيخ ثقافة “التحايل” داخل المجتمع، حيث يعتاد الأفراد والمؤسسات على تجاوز القواعد الرسمية لضمان البقاء أو الوصول إلى المكاسب، ما جعل الفساد جزءًا من النسيج الاجتماعي والسياسي للبلاد.
ولا يقتصر هذا الواقع بالطبع على السودان فحسب، بل يمتد إلى دول عديدة في القارة الإفريقية وفي غيرها أيضاً. ففي نيجيريا مثلاَ، رغم كونها من أكبر منتجي النفط في القارة، إلا أن الفقر منتشر فيها، ليس بسبب نقص الموارد، بل لوجود شبكات فساد محلية ودولية تربط بين السياسيين والشركات الأجنبية، وغدا النفط الذي يُفترض أن يكون مصدر تنمية ورفاه، أداةً لتثبيت التبعية، حيث تُعاد الأرباح إلى الخارج، ويبقى المواطن عالقًا بين وعود التنمية وشلل العدالة. أما في جمهورية الكونغو الديمقراطية، فتستخرج الثروات المعدنية وسط صراعات مسلحة مدعومة بمصالح خارجية متشابكة، والعدالة غائبة ليس لأنها لا تُراد، بل لأن وجودها يهدد معادلة الربح السياسي والاقتصادي، ما يجعل أي محاولة لإرساء الشفافية أو المساءلة محكومة بالفشل.
وبالطبع، يمكن ملاحظة أن هذه الأنماط تتكرر في دول إفريقية أخرى، سواء من حيث سيطرة النخب السياسية على الموارد، أو تحييد مؤسسات المجتمع المدني والتعليم عن المشاركة الفاعلة في تعزيز الشفافية والمساءلة. في معظم هذه الدول، يظل أفراد المجتمع محاصرين بين وعود التنمية المتكررة وواقع الفساد المستشري، ما يرسخ شعورًا بالعجز ويدفع المجتمعات إلى تبني سلوكيات دفاعية مشابهة للثقافة المؤسسية القائمة، حيث تصبح الولاءات والمصالح الخاصة أولوية على حساب الكفاءة والعدالة..
وليس الفساد في المؤسسات والسياسات هو العامل الوحيد الذي يغذي الانحراف والفساد، بل تؤدي منظومة التعليم دورًا محوريًا في تشكيل وعي المجتمع وقدرة النخب على المساهمة في الإصلاح. ففي فترات التعليم الجيد نسبياً، (في سنوات الثلاثينات إلى السبعينات من القرن الماضي كما يفترض الكثيرون في السودان)، أنتج النظام التعليمي آنذاك نخبة متعلمة من حيث المعرفة الأكاديمية، لكنها غالبًا ما كانت تتماهى مع أيديولوجياتها ومصالحها الخاصة، فتقاعست عن رفع وعي المجتمع بأكمله أو الدفع بالإصلاح المؤسسي، ولم تسهم بفعالية في مكافحة الفساد. ومع تدهور الدولة وانهيار مؤسساتها، شهد التعليم أيضًا تدهورًا في غالب مؤسساته، فأنتج “نخبة” ضعيفة علميًا وعمليًا، وزاد ذلك من عمق الفساد وغلبة الولاءات الخاصة على الكفاءة والعدالة، ما جعل الفساد جزءًا متجذرًا من النسيج المؤسسي والاجتماعي في البلاد. ويمكن ملاحظة أن هذا النمط يتكرر في دول إفريقية عديدة، حيث تضعف مؤسسات التعليم أمام المصالح الاقتصادية والسياسية، فتتحول النخب المتعلمة إلى أدوات استمرار الأنظمة الفاسدة عوضاً عن أن تكون حافزًا للتغيير. وفي دول أخرى مثل مدغشقر وليبيريا وسيراليون وغينيا بيساو، يظل التعليم متأثرًا بالفساد المؤسسي، مما يحد من قدرة النخب المتعلمة على التأثير الإيجابي في المجتمع أو المساهمة في تعزيز الشفافية والمساءلة، فيظل المواطن أو أفراد المجتمع محاصرين بين وعود التنمية والواقع الفاسد، ما يعزز ثقافة المحسوبية والولاءات على حساب الكفاءة والعدالة.
توضح هذه الأمثلة المتعددة أن الفساد في إفريقيا ليس مجرد إخفاق قانوني أو إداري، بل ظاهرة متجذرة في الهياكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمؤسسات التعليم والوعي المجتمعي. إن فهم الفساد على هذا النحو يبيّن أن أي جهود لمكافحته تحتاج إلى تجاوز الإجراءات الشكلية، لتشمل إصلاح المؤسسات، تعزيز الشفافية، وبناء ثقافة مجتمعية واعية ترفض المحسوبية وتكرس العدالة والمساءلة.
ويُعد كتاب Economic Change and Political Liberalization in Sub-Saharan Africa التغيير الاقتصادي والتحرر السياسي في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى (1994) من تحرير جينيفر ويدنر، مرجعًا هامًا في دراسة التحولات الاقتصادية والسياسية في القارة الإفريقية. يستعرض هذا الكتاب كيف أن الإصلاحات الاقتصادية والسياسية التي شهدتها بعض دول إفريقيا جنوب الصحراء غالبًا ما كانت استجابة لضغوط خارجية، مثل المؤسسات المالية الدولية، أكثر منها رغبةً حقيقيةً من الحكومات في تعزيز العدالة والمساءلة. ونتيجة لذلك، ظلت البُنى الاجتماعية والسياسية القائمة على الولاء الشخصي والمحسوبية متجذرة، مما أتاح للفساد أن يستمر وينمو كظاهرة اجتماعية تمتد إلى المجتمع بأسره. ويُبرز الكتاب كذلك أهمية بناء ثقافة مجتمعية تُؤمن بالعدالة والمساءلة، مشيرًا إلى أن هذه الثقافة لا يمكن تحقيقها بالقوانين أو الانتخابات وحدها، بل تحتاج إلى إعادة تشكيل القيم والسلوك الجمعي داخل المجتمع. ويتم ذلك من خلال عدة أبعاد مترابطة: التربية والتعليم، بحيث تُغرس مفاهيم النزاهة والمواطنة الفاعلة منذ مراحل التعليم المبكر، والإعلام المستقل الذي يكشف الفساد ويعزز الشفافية ويمنح المواطنين المعلومات الدقيقة لاتخاذ قرارات واعية، وتمكين المجتمع المدني ليكون رقابة فاعلة على مؤسسات الدولة، إضافة إلى التشجيع على المشاركة الشعبية في صنع القرار بما يعزز المساءلة ويحد من الاحتكار السياسي. ويشير الكتاب أيضًا إلى أن هذه العناصر مترابطة: فغياب أي منها يُضعف القدرة على بناء مجتمع مقاوم للفساد، بينما الجمع بينها بشكل متكامل يمكن أن يحدث تحولًا جذريًا في وعي الأفراد والمجتمعات، ويخلق بيئة مؤسسية واجتماعية تعزز العدالة وتقلل من المحسوبية والولاءات الشخصية، وهو ما يُظهر ضرورة النظر إلى مكافحة الفساد ليس بحسبانه مسألةً قانونيةً بحتة، بل كعملية شاملة تتطلب تغييرات ثقافية وتعليمية وسياسية متزامنة.
رغم هذا الواقع المعقد، فهناك إمكانية لبوادر إيجابية تنبع من جيل الشباب الواعي، والإعلام المستقل، والمجتمع المدني النزيه القائم على القيم والمبادئ، وهو ليس مجرد امتداد لغالب النخب التقليدية المتعلمة التي قد تتماشى مع مصالحها أو أيديولوجياتها الخاصة. فقد بدأ الكثير من أفراد هذه الفئة في المطالبة بالشفافية والمساءلة وكشف الفساد، ما سيولّد تأثيرًا مجتمعيًا مؤثرًا لا يمكن تجاهله.
إن بناء العدالة والمساءلة لا يقتصر على القوانين أو الدستور، بل يتطلب تحولًا ثقافيًا شاملًا في الوعي الجمعي، حيث تصبح قيم احترام القانون والنزاهة والمصلحة العامة جزءًا من الممارسات اليومية. يمكن تحقيق هذا التحول من خلال تعزيز التعليم المدني والمجتمعي ليغرس منذ المراحل المبكرة مفاهيم الشفافية والمساءلة ويشجع على التفكير النقدي. كما يمكن تمكين المجتمعات المحلية عبر المجالس الشعبية والمنظمات غير الحكومية لتكون جزءًا فاعلًا في مراقبة المشاريع العامة والإنفاق الحكومي. ويتيح استخدام التكنولوجيا والمبادرات الرقمية تتبع الأموال العامة والإبلاغ عن الفساد، وتمكين المواطنين من المشاركة بشكل جماعي عوضاً عن الاعتماد على جهود فردية. كما تسهم الشراكات بين القطاع العام والخاص والمجتمع المدني في تطوير برامج محلية تعزز التنمية المستدامة والعدالة الاقتصادية وتقلل من الحاجة إلى الولاءات والمحسوبية، ويؤدي نشر قصص النجاح والممارسات الجيدة داخل المجتمعات الإفريقية إلى إظهار أثر النزاهة والمساءلة على التنمية المحلية ورفع معنويات الأفراد والمجتمع.
بهذه الإجراءات وبغيرها أيضاً، يغدو تمكين المجتمع من ممارسة دوره الرقابي والوعي الجمعي بشكل فعّال أمراً ممكناً، بما يغير ممارسات السلطة ويُحدث تحولًا تدريجيًا ومستدامًا في الثقافة المؤسسية والمجتمعية. وهذا من شأنه أن يتيح للأجيال القادمة العيش في مجتمعات أكثر عدالة واستقامة، دون الحاجة إلى الهجرة كحل فردي للهروب من الفساد أو البطالة والبحث عن أوضاع حياتية أفضل. إن مكافحة الفساد تتطلب نهجًا متعدد الأبعاد يشمل إعادة بناء مؤسسات وطنية مستقرة، وضمان استقلال القضاء، وتمكين المجتمع المدني والإعلام المستقل، وتحقيق الشفافية في العلاقة مع القوى الإقليمية والدولية.
كما تتطلب هذه العملية تحولا ثقافيا طويل المدى يبدأ من المدارس والمناهج التعليمية، ويستمر عبر الإعلام والممارسات اليومية، ليصبح الفساد فعلًا مرفوضًا أخلاقيا واجتماعيًا؛ والعدالة معيارًا للحياة اليومية. إن استعادة العدالة والمساءلة في أي دولة لا تعني مجرد إصلاح المؤسسات، بل استعادة وعي المجتمع بمفهوم الدولة والمواطنة، وتحرير العدالة من التبعية، وجعلها حقًا يُنتزع بالوعي والمطالبة والممارسة المستمرة. وعلى المستوى الإقليمي. وتحتاج البلدان النامية إلى تضامن قانوني واقتصادي يحمي مصالح شعوبها ويكسر شبكة النفوذ التي تبقي الفساد قائمًا. إن المستقبل لن يُصاغ بقرارات فوقية أو اتفاقيات دولية فحسب، بل بقدرة المجتمعات على استعادة وعيها الأخلاقي والسياسي، وتحويل العدالة من مطلب نظري إلى ممارسة يومية تبدأ في الحياة اليومية وتنتهي بمحاسبة المسؤولين. حينها ستتمكن تلك البلدان من استعادة قوتها، ويصبح الفساد فعلًا مرفوضًا اجتماعيًا، والعدالة معيارًا حقيقيًا للحياة اليومية والممارسة المجتمعية.

nazikelhashmi@hotmail.com

عن د. نازك حامد الهاشمي

د. نازك حامد الهاشمي

شاهد أيضاً

الهندسة الاجتماعية البنيوية والأنشطة غير المشروعة

تُعدّ الهندسة الاجتماعية البنيوية من الأدوات المؤثرة التي تُستخدم لإعادة تشكيل البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية …