من بطون كتب
sanhooryazeem@hotmail.com
المعادن النادرة: السلاح الصامت في حرب القرن
منبر بنيان مقالات من بطون كتب
مقدمة:
الهيمنة الصامتة التي تحرك الاقتصاد العالمي
في صخب الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، حيث الرسوم الجمركية والتصريحات السياسية تتصدر المشهد، يختبئ سلاح لا يُرى بالعين المجردة، لكنه يُحرّك عجلة الصناعات المتقدمة ويمتلك قدرة على شل الاقتصادات الكبرى إذا أُسيء استخدامه.
إنه سلاح المعادن النادرة — مجموعة من العناصر الكيميائية التي لا يتجاوز وجودها نسبًا ضئيلة في القشرة الأرضية، لكنها تمثل العمود الفقري للتكنولوجيا الحديثة: من الهواتف الذكية والطائرات المقاتلة إلى السيارات الكهربائية والصواريخ الموجهة وأجهزة الطاقة النظيفة.
لقد أدركت الصين مبكرًا أن السيطرة على هذه الموارد ليست مجرد ميزة اقتصادية، بل أداة استراتيجية تعادل امتلاك النفط في القرن العشرين. وهكذا، أصبحت بكين تملك اليوم أكثر من 60% من إنتاج هذه المعادن وأكثر من 85% من قدرات تكريرها ومعالجتها عالميًا، لتصبح اللاعب الأوحد القادر على التحكم في نبض الصناعات الدقيقة.
أولاً: ماهي المعادن النادرة ولماذا تُعد حيوية؟
المعادن النادرة (Rare Earth Elements) تتكون من سبعة عشر عنصرًا كيميائيًا، من أبرزها النيوديميوم، الديسبروسيوم، اللانثانوم، السيريوم، واليوربيوم.
تُستخدم هذه العناصر في الصناعات التي تشكل مستقبل العالم:
الطاقة المتجددة: تدخل في صناعة التوربينات والبطاريات والمغناطيسات الدائمة.
التكنولوجيا الدقيقة: تُستخدم في رقائق الحواسيب وأجهزة الاستشعار والليزر.
الدفاع والفضاء: تدخل في صناعة محركات الطائرات المقاتلة، أنظمة التوجيه، والرادارات.
وبالتالي فإن فقدان السيطرة على إمدادات هذه المعادن يعني شللاً كاملاً في خطوط الإنتاج الاستراتيجي، وهو ما تدركه واشنطن أكثر من غيرها.
ثانياً: كيف فرضت الصين هيمنتها على سوق المعادن النادرة؟
تبدأ القصة منذ تسعينيات القرن الماضي، حين بدأت الصين — في هدوء — بتشجيع الاستثمار في استخراج وتكرير المعادن النادرة، بينما تجاهلت الولايات المتحدة هذا القطاع لصالح الصناعات عالية الربحية.
ومع مرور الوقت، أغلقت أغلب المناجم الأمريكية والأوروبية بسبب التكلفة البيئية العالية، في حين استمرت الصين في التوسع بلا هوادة.
اليوم، لا تكمن قوة الصين في امتلاك الخام فقط، بل في التحكم في سلاسل التوريد والمعالجة الصناعية، حيث يتم تكرير نحو 90% من هذه المعادن داخل أراضيها.
وفي عام 2010، حين دخلت بكين في نزاع دبلوماسي مع اليابان، أوقفت تصدير المعادن النادرة إليها — ما تسبب في أزمة فورية لقطاع الإلكترونيات الياباني. عندها فقط أدرك العالم أن هذه المواد قد تتحول إلى سلاح جيوسياسي بالغ الخطورة.
ثالثاً: الولايات المتحدة والبحث عن البدائل
بدأت واشنطن منذ 2018، في ظل إدارة ترامب، تدرك حجم الخطر.
أُدرجت المعادن النادرة ضمن قائمة المواد الاستراتيجية، وتم فتح مناجم جديدة مثل منجم “ماونتن باس” في كاليفورنيا، لكن هذا المنجم يرسل خامه إلى الصين لمعالجته!
كما حاولت الإدارة الأمريكية إبرام اتفاقات مع أستراليا وكندا وماليزيا لإنتاج وتكرير المعادن النادرة، غير أن هذه الجهود ما تزال محدودة أمام التفوق الصيني في التكلفة والمعالجة البيئية.
وفي عام 2023، أنشأت الولايات المتحدة “تحالف المعادن الحيوية” بالتعاون مع اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، بغرض تنويع سلاسل التوريد وتقليل الاعتماد على الصين.
لكن النتيجة الواقعية حتى الآن تُظهر أن أي انقطاع في الصادرات الصينية سيحدث اضطرابًا واسعًا في الأسواق العالمية.
رابعاً: أوروبا بين الحاجة والارتباك
القارة الأوروبية بدورها لا تملك موارد كافية من المعادن النادرة، وتعتمد بنسبة 98% على الواردات الصينية.
ولذلك أعلنت المفوضية الأوروبية في عام 2024 عن “قانون المواد الخام الحرجة”، الذي يهدف إلى تأمين 10% من احتياجاتها من الإنتاج المحلي، و15% من إعادة التدوير بحلول 2030.
لكن التحدي البيئي والبيروقراطي يجعل تنفيذ هذه الأهداف بطيئًا، ما يعني استمرار التبعية للعملاق الآسيوي لسنوات قادمة.
خامساً: من الاقتصاد إلى السياسة – المعادن كأداة ضغط
تتعامل بكين مع المعادن النادرة كسلاح ردع ناعم، فهي لا تُلوّح به مباشرة، لكنها تُبقيه حاضراً في الذاكرة كلما احتدمت الأزمات التجارية.
وعندما فرضت واشنطن قيودًا على تصدير الرقائق المتقدمة إلى الصين عام 2022، ردت بكين بتشديد الرقابة على تصدير الغاليوم والجرمانيوم – وهما عنصران أساسيان في صناعة الرقائق.
هذه الخطوة كانت رسالة استراتيجية للعالم مفادها أن الصين تمتلك القدرة على قلب الطاولة متى شاءت، دون إطلاق رصاصة واحدة.
سادساً: تداعيات الحرب المعدنية على الدول النامية
الدول النامية، وخاصة الإفريقية، تملك ثروات ضخمة من المعادن النادرة لكنها تعاني من ضعف القدرات التكنولوجية في الاستخراج والمعالجة.
وبينما تتنافس واشنطن وبكين على النفوذ في إفريقيا، تجد هذه الدول نفسها أمام فرصة تاريخية — أن تتحول من مصدر خام إلى مركز تصنيع وتكرير إقليمي، شرط أن تُدار الثروات بعقود شفافة ومشروعات بنية تحتية جادة.
إذ يمكن لموريتانيا والكونغو الديمقراطية وتنزانيا والسودان، إن أحسن التخطيط، أن تصبح جزءًا من خريطة الاقتصاد الجديد القائم على المعادن الحيوية.
خاتمة:
السلاح الذي لا يُرى
ليست الحرب الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة مجرد تنافس على الأرقام التجارية، بل هي صراع على مفاتيح المستقبل.
في القرن العشرين كان النفط هو الدم الذي يسري في شرايين الاقتصاد العالمي، أما في القرن الحادي والعشرين فالمعادن النادرة هي القلب النابض للتكنولوجيا والطاقة والتفوق الصناعي.
من يملكها يملك المستقبل، ومن يهملها يكتب على نفسه التبعية لعقود قادمة.
الرأي الاستشاري
من منظور اقتصادي استراتيجي، تُظهر قضية المعادن النادرة أن مفهوم الأمن القومي لم يعد يقتصر على السلاح والجيش، بل يمتد إلى سلاسل الإمداد والموارد الحيوية.
إن على الدول النامية — ومنها السودان — أن تعي قيمة ثرواتها المعدنية، وتُخضع استغلالها لرؤية وطنية توازن بين العائد الاقتصادي والاستقلال الاستراتيجي.
ففي عالم «الحروب الصامتة»، من لا يمتلك أدوات الإنتاج، سيظل رهينة لإرادة الآخرين.
المراجع
- تقرير البنك الدولي حول المواد الحيوية لعام 2024.
- مجلة The Economist، عدد يونيو 2023: The Rare Earth Monopoly.
- مركز الدراسات الآسيوية – جامعة تسينغهوا، بكين، 2024.
- تقرير وزارة الطاقة الأمريكية عن المعادن الاستراتيجية، واشنطن 2023.
- تقارير المفوضية الأوروبية – مبادرة المواد الخام الحرجة 2024.
عبد العظيم الريح مدثر
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم