المياه: الأصل الاستراتيجي بين الجغرافيا والسياسة والاقتصاد

منبر بنيان مقالات من بطون كتب
sanhooryazeem@hotmail.com

تُعدّ المياه اليوم أكثر من مجرد مورد طبيعي؛ إنها عنصر وجودي في معادلة القوة العالمية، تتقاطع فيها اعتبارات الجغرافيا مع مقتضيات الاقتصاد، لتصبح محورًا للصراع والتعاون معًا. وإذا كانت الطاقة قد مثّلت في القرن العشرين ركيزة الاقتصاد العالمي، فإن المياه أصبحت في القرن الحادي والعشرين هي “الذهب الأزرق” الذي يُعيد تشكيل خريطة النفوذ بين الدول، ويُعيد تعريف معنى الأمن القومي والتنمية المستدامة.

الزاوية الجيوسياسية — الماء كسلاح نفوذ

لم تعد الأنهار والبحيرات تُقاس فقط بطولها أو مساحتها، بل بما تمنحه من سلطة جغرافية. فالموقع الذي يعلو مجرى النهر بات يوازي امتلاك قرار سياسي.
نهر النيل مثلًا يمثل نموذجًا كلاسيكيًا لتقاطع الجغرافيا بالسياسة؛ حيث تمثل دول المنبع (إثيوبيا أساسًا) مصدر القرار المائي، بينما تعتمد دول المصب (السودان ومصر) على تدفق المياه كحق حياة. وهكذا، يتحول “التحكم في المصدر” إلى أداة ضغط تفاوضي توازي القوة العسكرية.

وفي الشرق الأوسط، يشكل نهرا دجلة والفرات مسرحًا آخر للنفوذ، حيث تفرض تركيا واقعًا مائيًا جديدًا عبر مشاريعها الضخمة، ما جعل المياه ورقة مساومة دبلوماسية لا تقل شأنًا عن النفط أو الحدود. أما نهر الأردن، فقد أصبح في جوهر الصراع العربي الإسرائيلي، إذ لا ينفصل الأمن المائي عن الأمن السياسي.

على الصعيد العالمي، أدركت القوى الكبرى أن السيطرة على المياه تعني السيطرة على الأمن الغذائي، ومن ثم على الاستقرار السياسي. الصين مثلًا وسّعت نطاق سيطرتها المائية عبر بناء السدود الكبرى في حوض نهر ميكونغ، بينما تسعى روسيا إلى استثمار احتياطاتها الجليدية في القطب الشمالي كمصدر مائي مستقبلي.

إنّ التحولات المناخية تزيد المشهد تعقيدًا؛ إذ تتسبب في تقلص موارد المياه العذبة وازدياد حدة التنافس عليها، مما يحول النزاعات المائية إلى مكوّن هيكلي من الصراعات المستقبلية. فالماء اليوم ليس مجرد مورد، بل أداة جيوسياسية تحدد موازين القوى الإقليمية والدولية.

الزاوية الاقتصادية — الماء كرأسمال استراتيجي

من الزاوية الاقتصادية، تشهد المياه تحوّلًا نوعيًا من مورد مجاني إلى سلعة استراتيجية ذات قيمة سوقية. فالعالم يدخل مرحلة “تسعير المياه” كأي سلعة نادرة.
تشير تقارير البنك الدولي إلى أن كل 1% زيادة في كفاءة استخدام المياه يرفع الناتج المحلي الإجمالي بنحو 0.3% في الدول الزراعية. وفي المقابل، فإن ندرة المياه قد تكلّف الاقتصادات النامية ما يقارب 6% من ناتجها المحلي سنويًا بحلول عام 2050.

أضحت المياه محددًا رئيسًا للاستثمار الزراعي والصناعي، إذ يتوقف مستقبل الأمن الغذائي على الإدارة الرشيدة للمياه. وتجارب دول مثل سنغافورة وهولندا تُظهر كيف يمكن تحويل الندرة إلى فرصة عبر إعادة التدوير والتكنولوجيا الذكية في الري والتحلية.

كما أن التمويل المائي أصبح مجالًا استثماريًا واعدًا، فصناديق الاستثمار السيادية في بعض الدول بدأت تدرج مشاريع المياه ضمن أصولها الاستراتيجية، مثل تحلية المياه والطاقة المتجددة المرتبطة بها. وفي إفريقيا، حيث أكثر من 60% من الأراضي الصالحة للزراعة غير مستغلة بسبب شح المياه، يمثل الاستثمار المائي مفتاح التنمية الاقتصادية.

غير أن الاقتصاد المائي يواجه تحديات أخلاقية حادة؛ فالتسليع المفرط للمياه يهدد العدالة الاجتماعية، إذ قد يصبح الحق في الماء مرهونًا بالقدرة الشرائية. ومن هنا تبرز ضرورة تأسيس “اقتصاد أخلاقي للمياه” يقوم على مبدأ الموازنة بين الكفاءة الاقتصادية والحق الإنساني في الحصول على المياه.

تداخل الجغرافيا بالاقتصاد — من الهيمنة إلى الشراكة

إنّ العلاقة بين الجغرافيا والاقتصاد في قضية المياه ليست علاقة تناقض، بل تكامل مشروط بميزان العدالة. فالتحكم الجغرافي يمكن أن يتحول من أداة هيمنة إلى منصة تعاون، متى ما توفرت الإرادة السياسية والمؤسسات الإقليمية القادرة على إدارة الأحواض المائية المشتركة.
تجربة حوض السنغال أوضحت أن الإدارة التعاونية يمكن أن تحول الصراع إلى شراكة تنموية. وعلى العكس، فإن غياب الأطر القانونية في أحواض مثل النيل أو الفرات يؤدي إلى توتر دائم يعيق التنمية المستدامة.

مقترحات لتأسيس الأمن المائي الاقتصادي

  1. إنشاء صناديق إقليمية للأمن المائي تمول مشاريع التحلية والري الحديث ضمن رؤية اقتصادية مشتركة.
  2. تدويل المعرفة المائية بتبادل الخبرات والتقنيات في تحلية المياه وإعادة استخدامها.
  3. تحفيز الاستثمارات الخضراء التي تربط المياه بالطاقة النظيفة والزراعة المستدامة.
  4. اعتماد مؤشرات اقتصادية جديدة تقيس الأداء التنموي من منظور “الكفاءة المائية”.
  5. إرساء دبلوماسية مائية تدمج أدوات الاقتصاد في حل النزاعات، بحيث يصبح التعاون أكثر جدوى من الصراع.

الخاتمة — نحو مفهوم شامل للأمن المائي

لقد تجاوزت المياه حدودها الطبيعية لتصبح جزءًا من البنية الاستراتيجية للاقتصاد والسياسة معًا. إنّ الجمع بين التحليل الجيوسياسي والاقتصادي يكشف أن أمن المياه هو أمن التنمية ذاته، وأن الدول التي لا تدير مواردها المائية برؤية استراتيجية شاملة ستجد نفسها على هامش الاقتصاد العالمي القادم.

إنّ “المياه كأصل استراتيجي” ليست مجرد شعار بيئي، بل مشروع حضاري يستند إلى أخلاقيات العدالة في التوزيع، وكفاءة الإدارة في الاستغلال، والتكامل الإقليمي في التخطيط. وبذلك، يمكن للماء أن يعود من عنصر صراع إلى عنصر حياة، ومن مورد مهدد إلى ركيزة للتنمية المستدامة.

المراجع

  1. البنك الدولي (World Bank, 2023). Water for Shared Prosperity: The Global Water Security and Resilience Report. واشنطن.
    “Every 1% increase in water efficiency can raise agricultural GDP by 0.3% in water-stressed economies.”
  2. منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO, 2022). State of the World’s Land and Water Resources for Food and Agriculture. روما.
    “Over 60% of Africa’s cultivable land remains underutilized due to water scarcity and poor irrigation systems.”
  3. اليونسكو (UNESCO, 2023). World Water Development Report: Partnerships and Cooperation for Water. باريس.
    “Water is no longer a local issue; it is a strategic resource defining peace and development in the 21st century.”
  4. مجلة Nature Sustainability، العدد 19 (2024): مقال بعنوان “Water Geopolitics and Emerging Global Security Frameworks”.
    “Geopolitical water control increasingly replaces traditional military influence in shaping regional stability.”
  5. د. إبراهيم حمدي عبد الله (2020). الاقتصاد المائي والتنمية المستدامة في العالم العربي. دار الفكر العربي، القاهرة.
  6. تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية (UNDP, 2021). Water and Human Development Nexus.
    “Access to water is not a privilege; it is the foundation of human capability and social justice.”

عبد العظيم الريح مدثر

شاهد أيضاً

الذهب والدولار والنظام المالي الجديد: تحولات ما بعد الهيمنة

من بطون كتبsanhooryazeem@hotmail.comمنبر بنيان – مقالات من بطون الكتبمقدمة: في كل منعطف من منعطفات التاريخ …