النظم المصرفية — القلب النابض للاقتصاد

من بطون كتب
sanhooryazeem@hotmail.com
منبر بنيان مقالات من بطون كتب

مقدمة:
الاقتصاد بلا قلب

اليوم اكتب مقال في مجال المهنه سيكون بإذن الله الافتتاحية لسلسلة مقالات متتاليه عن النظم المصرفيه،، وكما يقولون فنان الحي لايطرب،، اتمنى ان يحوي هذا المقال و المقالات التاليه،، مايعكس أهمية هذا القطاع الذي شبهته بقلب الاقتصاد النابض ،، وانه بالقطع وبدون تحيز
لا ينهض اقتصاد بلا نظام مصرفي فاعل، كما لا يحيا الجسد بلا قلب نابض. فالمصارف هي الجهاز الدوري للاقتصاد، تضخّ السيولة حيث الحاجة، وتنظم حركة الائتمان، وتعيد توزيع الموارد عبر شبكة مالية دقيقة. منذ نشأة المصارف الحديثة في القرن السابع عشر، ارتبط استقرار الاقتصاد العالمي بمدى كفاءة مؤسساته المصرفية في إدارة النقود والائتمان، وأصبح كل اضطراب فيها — من أزمة الكساد العظيم عام 1929 إلى الأزمة المالية العالمية عام 2008 — يُترجم مباشرة إلى أزمات اقتصادية واجتماعية عميقة.

إن النظام المصرفي هو البنية المؤسسية التي تنظم العلاقة بين المدخرين والمستثمرين، وبين القطاعين العام والخاص، وبين الأسواق الداخلية والعالم الخارجي. وهو ليس مجرد وسيلة لحفظ الأموال، بل منظومة متكاملة لإدارة المخاطر، وتوجيه الموارد نحو النمو والإنتاج.

أولاً: ماهية النظام المصرفي ووظائفه الأساسية

يتكون النظام المصرفي من مجموعة مترابطة من المؤسسات المالية، تشمل البنك المركزي، والمصارف التجارية، والاستثمارية، والمتخصصة، والتعاونية، والإسلامية.
ويقوم هذا النظام بأدوار محورية يمكن تلخيصها في الآتي:

  1. تجميع المدخرات وتحويلها إلى استثمارات إنتاجية.
  2. تيسير عمليات الدفع والتبادل التجاري.
  3. توفير الائتمان للأفراد والمؤسسات والدولة.
  4. إدارة السياسة النقدية عبر أدوات سعر الفائدة، والاحتياطي الإلزامي، والسوق المفتوحة.
  5. ضمان الاستقرار المالي ومنع الأزمات المصرفية من الانتشار إلى الاقتصاد الكلي.

يُنظر إلى كفاءة النظام المصرفي على أنها معيار لمدى نضج الاقتصاد، إذ تُقاس من خلال مؤشرات مثل نسبة الائتمان إلى الناتج المحلي الإجمالي، ومعدل الشمول المالي، وجودة الأصول المصرفية.

ثانياً: البنك المركزي — العقل المنظم للنظام المصرفي

يُعد البنك المركزي العمود الفقري للنظام المصرفي، إذ يتولى إدارة السيولة ومراقبة المصارف التجارية، ويُعدّ المقرض الأخير في أوقات الأزمات.
وتتمثل وظائفه الأساسية في:

إصدار العملة الوطنية وضبط قيمتها.

تنفيذ السياسة النقدية لتحقيق الاستقرار السعري.

الإشراف على البنوك وتنظيمها لحماية المودعين.

إدارة الاحتياطيات الأجنبية وسعر الصرف.

تمثيل الدولة في المؤسسات المالية الدولية.

تختلف استقلالية البنوك المركزية من دولة إلى أخرى؛ ففي بعض الدول المتقدمة كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تتمتع هذه المؤسسات باستقلال تام، بينما في العديد من الدول النامية لا تزال السياسات النقدية رهينة للتوجيهات الحكومية، مما يضعف كفاءتها في مكافحة التضخم وضبط الائتمان.

ثالثاً: المصارف التجارية — الجسر بين المدخر والمستثمر

المصارف التجارية هي الأداة التنفيذية للنظام المصرفي. فهي التي تتعامل مباشرة مع الجمهور وتقدّم الخدمات اليومية من فتح الحسابات والإقراض والتحويلات وتمويل المشاريع.
وتواجه هذه المصارف تحديات متزايدة نتيجة:

المنافسة الحادة من المصارف الرقمية وشركات التكنولوجيا المالية.

اشتراطات الامتثال الدولية مثل اتفاقية بازل III المتعلقة برأس المال والسيولة.

تزايد المخاطر الائتمانية في الاقتصادات الهشّة.

ضعف الشمول المالي في المناطق الريفية والفقيرة.

ومع ذلك، فإنها تبقى القناة الأهم في تحريك عجلة الاقتصاد، لأنها تحوّل الادخار إلى استثمار، وتعيد تشكيل دورة الدخل القومي.

رابعاً: النظام المصرفي في الدول المتقدمة والنامية — مقارنة تحليلية

في الدول المتقدمة، مثل الولايات المتحدة وألمانيا واليابان، يتميّز النظام المصرفي بالاستقرار والعمق المالي والقدرة على الابتكار، بفضل:

استقلالية البنوك المركزية.

كفاءة الرقابة المصرفية.

تطور أسواق المال والمشتقات المالية.

استخدام التكنولوجيا المتقدمة في إدارة المخاطر.

أما في الدول النامية، فيتسم النظام المصرفي بخصائص مغايرة، منها:

ضعف رأس المال المصرفي.

محدودية الائتمان الموجه للقطاعات الإنتاجية.

ارتفاع نسب الديون المتعثرة.

غياب الشمول المالي وضعف الثقافة المصرفية.

سيطرة المصارف الحكومية على النشاط الائتماني.

ولذلك، فإن إصلاح القطاع المصرفي في الدول النامية شرط أساسي للنهوض الاقتصادي، لأنه يضمن انتقال السياسات النقدية إلى الاقتصاد الحقيقي بكفاءة.

خامساً: كيف يُقاس استقرار النظام المصرفي؟

تُقاس متانة النظام المصرفي من خلال مؤشرات رئيسية، أبرزها:

نسبة كفاية رأس المال (CAR).

نسبة القروض المتعثرة (NPLs).

الربحية والعائد على الأصول.

مستوى السيولة المتاحة.

استقرار سعر الصرف ومعدلات التضخم.

إلا أن الأزمات العالمية أظهرت أن هذه المؤشرات وحدها لا تكفي، وأن السلوك المؤسسي والثقافة المصرفية والحوكمة تلعب دورًا أكبر في تجنّب الانهيارات.
فالأزمة المالية عام 2008 لم تكن أزمة أرقام، بل أزمة ثقة وانحراف أخلاقي في ممارسات التمويل والإقراض، مما دعا صندوق النقد الدولي والبنك الدولي إلى التركيز على مفهوم “الاستقرار المالي الشامل”.

سادساً: نحو نظام مصرفي مستدام في العالم العربي

تحتاج الدول العربية إلى رؤية مصرفية إصلاحية ترتكز على ثلاثة محاور:

  1. تعزيز الشمول المالي عبر الرقمنة وتمكين الفئات المهمشة.
  2. تحديث القوانين والرقابة لمواكبة المعايير الدولية دون التضييق على الابتكار.
  3. توسيع دور المصارف في التنمية من خلال تمويل المشروعات الصغيرة والبنية التحتية.

ويُعد السودان ومصر مثالين مهمين لتجارب الإصلاح المصرفي الجزئي، بينما تقدّم تجارب المغرب والإمارات نماذج أكثر تكاملاً في الرقابة والحوكمة والابتكار الرقمي.

خاتمة: المصارف مرآة الدولة

النظام المصرفي ليس قطاعًا منفصلًا، بل هو مرآة الاقتصاد والدولة.
كل ضعف في الإدارة، أو تسييس في القرارات، أو قصور في الرقابة، ينعكس مباشرة على النظام المصرفي.
وفي المقابل، كل إصلاح في النظام المصرفي يُترجم إلى استقرار نقدي، وثقة استثمارية، ونموٍّ مستدام.

لذلك، فإن إصلاح المصارف هو في جوهره إصلاحٌ لضمير الاقتصاد الوطني، لأن المال إذا أُدير بعدالة وعقل، عمّ الخير وازدهر العمران، وإذا أُسيء تدبيره، تعطّل القلب وتوقّف النبض.

المراجع

  1. البنك الدولي، World Development Indicators، 2023.
  2. صندوق النقد الدولي، Global Financial Stability Report، أكتوبر 2024.
  3. Basel Committee on Banking Supervision, Basel III Framework, BIS, 2023.
  4. عبد الحي زلوم، العولمة والديمقراطية والإرهاب المالي، دار الفكر، دمشق، 2010.
  5. محمد عبد العال، إدارة البنوك والتسويق المصرفي الحديث، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، 2019.
  6. تقارير بنك السودان المركزي، النشرة الإحصائية الفصلية، 2024.

عبد العظيم الريح مدثر

عن عبد العظيم الريح مدثر

عبد العظيم الريح مدثر

شاهد أيضاً

حين انطفأت الأخلاق… أُطفئت المصابيح: هل تنهض الأمم بلا ضمير؟

من بطون كتبsanhooryazeem@hotmail.comحين انطفأت الأخلاق… أُطفئت المصابيح: هل تنهض الأمم بلا ضمير؟منبر بنيان ،، مقالات …