كتب الأستاذ الجامعي د. محمد عبد الحميد
wadrajab222@gmail.com
ذات يوم مسائي منعش مع بواكير فصل شتاء عام 2007، كنت جالسا أمام التلفاز أقلب القنوات بنزق، لا ألقي بالاً عليها كثيراً. كانت صينية الغداء ما تزال أمامنا، حين توقفت أمام قناة الخرطوم التعليمية التي كانت تبث محاضرات لتلاميذ مرحلة الأساس.
كانت الحصة درسا في قواعد اللغة الإنجليزية.
نظرت إلى الشاشة نصف متململ، ثم التفتُّ إلى زوجتي قائلاً بثقة مفرطة، وقد ملأني زهو غامر صيرني ككرة مطاطية منفوخة حتى حافتها:
– “بوسعي أن أستخرج، على أقل تقدير، ثلاثة أخطاء من هذه الحصة.”
كانت تلك الجلسة بعد مضي أكثر من عقدين على ذكريات حيّة في ذهني، تعود إلى أيام الدراسة بالمرحلة المتوسطة.
حين تمنّ الحياة على المرء، فتضع في طريقه معلما لا يلقّن المعرفة كما تُلقَّن الأوامر، بل يخلطها بعصارة وجدانه، وينسج من خيوط المقرّر غزلاً يتدثّر به التلاميذ، فإذا هي حُلَلٌ تعلو الهامات وتزيّن العقول.
كل لفتة منه وقدةٌ للذهن، وكل كلمة يلفظها مفتاح يفتح أفقا، فتتراءى عوالم من الأنوار إشراقات معرفية تُضاء بها الدروب كلما انبهمت المسالك وغامت على البصائر الرؤيا.
رجلٌ من طراز لا يتكرّر، هو الأستاذ الفاتح سيد عوض.
لم يكن مدرّساً للغة الإنجليزية فحسب، بل كان يغرسها ويتعهدها بالرعاية والسقيا، يسوق المعاني حزمة ضوء قدسي، ويتمثل القصص كمن عاشها، ويفتح اللحظة الضيقة على أفق المستقبل الرحب.
قامته المديدة تتمايل مع الكلمات، فينطقها كما توحي بالحركة أو بالسكون.
على يديه قرأنا Great Expectations، لم تكن مجرد رواية مقررة، بل بوابة كبرى ولجنا منها إلى عوالم وروائع الكاتب الإنجليزي الفذ تشارلز ديكنز.
وانفتحت شهيتي لبقية مؤلفاته كطقسٍ لشعيرة واجبة الأداء، فانطلقت إلى David Copperfield، A Tale of Two Cities، Oliver Twist…
فاقترنت المتعة بالثراء، وأُفعِم الوجدان بالشوارد، واستعرت المكامن بالتعطش للمزيد.
في عام 1986، حين كنّا طلابا في المرحلة الثانوية، قصدناه لشرح مسرحية Arms and the Man لجورج برنارد شو، ورواية Cry, the Beloved Country.
فلبّى الطلب، واستمر في الشرح لأكثر من شهر، كما عهدناه دوما: سخيا، واضحا، نقيا، نبيلاً.
فانغرست المسرحية، رغم كلاسيكيتها، في وجداننا الغض كأبدع ما يكون الغرس، واستثارت العقل بأسلوبه، حتى غدا كل شرح له ظمأً لمبدع جديد.
تسللت الذكرى من داخلي كما جاءت، ثم وجدتني من جديد أترقّب الخطأ وأتصيّده بتحفّز قطّ أمام جحر فأر.
ظللت أتابع تلك الحصة بنزعة من التحفّز، أبحث عن الأخطاء بثقة ليس بينها وبين الاعتدال سبيل…
مرّت خمس دقائق،
ولا خطأ.
ازداد تركيزي، وجلست بكامل انتباهي.
دخل المعلّم في شرح الجمل الشرطية باستخدام If، وإذا بالذاكرة تقفز بي إلى مشهد قديم مألوف:
أستاذي الفاتح، وهو يفرّق بين If الأولى والثانية والثالثة، يرسمها بالطباشير على السبورة كمن يكتب خطوط القدر.
والأمثلة تنثال من فمه، فتُقرّ في الذاكرة وتُشعل الوجدان.
تحوّلت الكاميرا فجأة من شاشة العرض إلى وجه الأستاذ…
تأملته بدهشة.
الشيب قد غزا رأسه، وبدت عليه النحافة، لكن ملامحه لم تخدعني.
وصوته… هو هو!
هببت واقفاً دون أن أشعر.
سألتني زوجتي بدهشة:
– “ما بك؟!”
همست، وكأنني أستعيد اسمي ورسمي من مقصلة الزمن:
– “هذا هو… هو نفسه… لا تكاد تخفى عليّ ملامحه.”
ثم أطرقت برأسي، وقلت كمن يخاطب وجدانه:
– “في حضرة أستاذي، لا يليق بي أن أبقى جالسا. سأظل واقفا حتى تنتهي الحصة.”
وحين انتهت، جلست ببطء و إنطويت على نفسي. مطبقا بعضي على بعضي. كما يُطبق علَم من أُنزل أعلى السارية للتو.
قلت في نفسي:
بعض المعلمين لا يُدرّسون، بل يزرعون فينا ما لا تمحوه السنوات،
ثم يعودون في اللحظة التي نظن أننا تجاوزناهم… ليُثبتوا أننا ما زلنا تلاميذ.
د. محمد عبد الحميد
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم