بقلم: إدوارد كورنيليو
في الخامس عشر من أكتوبر 2025، أعلن السياسي المخضرم نيال دينق نيال، أحد أبرز وجوه الحركة الشعبية لتحرير السودان، تجميد عضويته في الحزب الحاكم وتأسيس حركة جديدة تحت مسمى “حركة خلاص جنوب السودان”. وقد رافق هذا الإعلان بيانٌ مطوّل من 18 صفحة، تضمّن نقدًا لاذعًا لإدارة الرئيس سلفا كير، واتهامات بالفساد، وانعدام الأمن، وتعطيل العملية الديمقراطية. غير أن هذا الحدث، الذي بدا للبعض لحظة تحوّل سياسي، يستدعي تفكيكًا يتجاوز سطح الخطاب إلى البنية العميقة التي تحكم الدولة ما بعد الاستعمار في جنوب السودان: بنية تتقاطع فيها المصالح الطبقية، والولاءات الزبائنية، والسلطة الريعية، وتُعيد إنتاج الأزمة بدلًا من تجاوزها.
تأسست الحركة الشعبية لتحرير السودان في ثمانينيات القرن الماضي كحركة تحرر وطني، حملت شعارات العدالة والمساواة والتمثيل السياسي للمهمشين. غير أن الحركات الثورية، بعد وصولها إلى السلطة، تميل إلى التحوّل إلى طبقة بيروقراطية جديدة، تحتكر أدوات الدولة وتُعيد إنتاج الامتيازات. ومنذ استقلال جنوب السودان عام 2011، تحوّلت الحركة الشعبية إلى حزب حاكم يسيطر على الدولة من خلال جهاز بيروقراطي–عسكري، يعتمد على الريع النفطي والمساعدات الدولية، ويُقصي الجماهير من المشاركة الفعلية في الحكم.
هذا التحوّل تكرّس عبر احتكار السلطة من خلال تأجيل الانتخابات، تفكيك المعارضة، وتهميش الأصوات المستقلة. وظهور فساد بنيوي حوّل الدولة إلى أداة لتوزيع الغنائم بين النخب، بدلًا من كونها أداة لتحقيق العدالة الاجتماعية. الزبائنية والمحسوبية ربطت الولاء السياسي بالمنافع الاقتصادية، مما أدى إلى تآكل مؤسسات الدولة، وتحويلها إلى شبكة توزيع امتيازات لا إلى جهاز إداري يخدم المواطنين.
في هذا السياق، لم تعد الحركة الشعبية تمثّل مصالح الطبقات الكادحة، بل أصبحت تعبيرًا عن مصالح طبقة سياسية–عسكرية ضيقة، تُعيد إنتاج سلطتها من خلال السيطرة على الموارد والمؤسسات. انشقاق نيال دينق لا يُمكن فهمه إلا بوصفه صراعًا داخليًا بين أجنحة هذه الطبقة الحاكمة. فالرجل لم يكن معارضًا من خارج المنظومة، بل كان جزءًا منها لعقود، شغل خلالها مناصب وزارية ودبلوماسية، وشارك في صياغة السياسات التي ينتقدها اليوم.
انشقاقه جاء بعد تهميشه من مراكز القرار، مما يُشير إلى أن دوافعه ليست بالضرورة مبدئية، بل قد تكون مرتبطة بإعادة التموضع داخل الحقل السياسي. تأسيسه لحركة “الخلاص” تحت مظلة تحالف يقوده باقان أموم، وهو الآخر من رموز النخبة السابقة، يعزز هذا الطرح. هذا الصراع لا يدور بين “ثوريين” و”فاسدين”، بل بين فصائل داخل نفس الطبقة، تتنافس على السلطة والموارد، دون أن تُقدّم بديلًا جذريًا للبنية القائمة.
البيان الذي أصدره نيال دينق يتحدث عن “إحياء الحركة الشعبية” و”إصلاحها من الداخل”، وهي عبارات تُعيد إنتاج نفس الخطاب الذي استخدمته النخبة لعقود لتبرير بقائها في السلطة. هذا الخطاب يُخفي التناقضات البنيوية، ويُقدّم الأزمة بوصفها أزمة “قيادة” أو “أخلاق”، لا أزمة بنية. لا يتحدث البيان عن تفكيك الدولة الريعية أو إعادة توزيع الثروة، ولا يدعو إلى تمكين الطبقات المهمشة أو بناء اقتصاد إنتاجي، ولا يُقدّم تصورًا بديلًا لعلاقات السلطة أو شكل الدولة. بل يكتفي بالدعوة إلى “دستور دائم” و”انتخابات”، وهي أدوات شكلية إذا لم تُربط بتحول مادي في البنية الاقتصادية والاجتماعية.
بهذا المعنى، فإن حركة “الخلاص” ليست قطيعة مع النظام، بل محاولة لإعادة تشكيله من الداخل، مع الحفاظ على امتيازات النخبة. التحولات السياسية الحقيقية لا يمكن أن تتم دون حضور فعلي للطبقات الشعبية. وفي حالة جنوب السودان، تغيب هذه الطبقات عن المشهد السياسي، سواء من حيث التمثيل أو التنظيم. لا توجد نقابات مستقلة، ولا حركات جماهيرية تقود التغيير، بل تُستخدم الجماهير كرمزية في الخطاب السياسي، دون أن يكون لها دور فعلي.
هذا الغياب يُعيد إنتاج نمط “السياسة من فوق”، حيث تُدار التحولات من قبل النخبة، وتُستبعد الجماهير من الفعل السياسي الحقيقي. وهو ما يُفسّر لماذا تتكرر الأزمات والانشقاقات دون أن تُفضي إلى تغيير جذري. جنوب السودان، كدولة ما بعد استعمارية، ورثت بنية دولة مركزية ضعيفة، تعتمد على الريع النفطي والمساعدات، وتفتقر إلى قاعدة إنتاجية أو مؤسسات ديمقراطية مستقرة.
في هذا السياق، تُصبح الأحزاب السياسية أدوات لإعادة توزيع الريع، لا لتحقيق التنمية أو العدالة. الدولة تُدار كشبكة زبائنية، حيث تُوزّع المناصب والموارد على أساس الولاء، والاقتصاد لا يُنتج، بل يستهلك، ويعتمد على الخارج، والمجتمع مُجزّأ إثنيًا ومناطقيًا، مما يُضعف إمكانيات التنظيم الشعبي. انشقاق نيال دينق، إذًا، لا يُمثّل قطيعة مع هذا النموذج، بل يُعيد إنتاجه في شكل جديد. فالحركة الجديدة لا تُقدّم مشروعًا بديلًا للدولة، بل تسعى إلى إعادة توزيع السلطة داخل نفس البنية المأزومة.
إذا أردنا التفكير في بديل حقيقي، فلا بد من تجاوز منطق النخبة، والعودة إلى الجماهير. وهذا يتطلب بناء تنظيمات شعبية مستقلة: نقابات، جمعيات، حركات شبابية، تُعبّر عن مصالح الطبقة العاملة والفلاحين، وإعادة تعريف الدولة من دولة ريعية إلى دولة إنتاجية، تُعيد توزيع الثروة وتُخطط للاقتصاد، وتفكيك البنية الزبائنية عبر قوانين صارمة لمكافحة الفساد وتوزيع عادل للموارد، وإعادة الاعتبار للثقافة السياسية الشعبية عبر التعليم، والإعلام، والفن، لإعادة تشكيل الوعي السياسي.
انشقاق نيال دينق نيال عن الحركة الشعبية يُمثّل لحظة من لحظات التصدّع داخل الطبقة الحاكمة، لكنه لا يُعبّر عن تحوّل جذري. إنه صراع على السلطة داخل نخبة سياسية–عسكرية، تُعيد إنتاج نفسها عبر أدوات الدولة الريعية. والتغيير الحقيقي لا يأتي من إعادة تشكيل النخبة، بل من بناء مشروع شعبي جديد، يُعيد تعريف الدولة والاقتصاد والسياسة من الأساس. إن الجماهير في جنوب السودان لا تحتاج إلى “خلاص” من داخل النخبة، بل إلى مشروع تحرري جديد، يُعيد لها صوتها، وكرامتها، ودورها في صناعة المستقبل.
tongunedward@gmail.com
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم