بين الهامش والصراع (5-10)

بين الهامش والصراع: دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق على مفترق طرق السلام (5-10)
lualdengchol72@gmail.com
بقلم: لوال كوال لوال

النيل الأزرق، ذلك الإقليم الممتد على الحدود مع إثيوبيا، يمثل أحد أكثر الأقاليم السودانية حساسية وتعقيداً في آن واحد. فهو ليس فقط منطقة ذات موقع استراتيجي تتحكم في جزء مهم من مياه النيل، بل هو أيضاً مساحة جغرافية غنية بالتنوع العرقي والثقافي والديني، ما جعله ساحة لصراعات متكررة بين الدولة المركزية والمجتمعات المحلية. وكغيره من مناطق الهامش السوداني، كان النيل الأزرق دائماً شاهداً على تكرار ذات الأخطاء: وعود بالإدماج، ثم إهمال وتهميش، وأخيراً انفجار صراعات مسلحة تدفع ثمنها الفئات الأضعف من السكان. حين ننظر إلى تاريخ النيل الأزرق، نكتشف أن التداخل مع إثيوبيا لعب دوراً مزدوجاً في تشكيل هويته السياسية. فمن جهة، شكّل هذا التداخل فرصة لوجود روابط اقتصادية واجتماعية عابرة للحدود، حيث يتشارك السكان في التجارة والعلاقات الأسرية والثقافية. ومن جهة أخرى، جعلت هذه الجغرافيا المنطقة في نظر الحكومات المركزية “هامشاً أمنياً” يجب مراقبته بحذر، لا “مركزاً تنموياً” يُبنى عليه مستقبل مشترك. هكذا ظل النيل الأزرق يُعامل كمنطقة حدودية تحتاج إلى عسكرة أكثر من حاجتها إلى استثمار وتنمية. وكما في دارفور وجبال النوبة، لم يكن التهميش مجرد إهمال عفوي، بل سياسة طويلة الأمد. فالمشروعات الزراعية الكبرى التي أُنشئت في السودان، مثل مشروع الجزيرة، لم تُكرر في النيل الأزرق بالقدر الكافي، رغم أن التربة والمياه متوفرة. وحتى الموارد الطبيعية الأخرى، مثل الغابات والمعادن، استُغلت بطرق غير عادلة، غالباً لمصلحة المركز أو الشركات الأجنبية، بينما ظل السكان يعيشون في ظروف صعبة. هذا التناقض بين الإمكانات الكبيرة والحرمان الفعلي جعل النيل الأزرق أرضاً خصبة لنمو الوعي بالغبن الاجتماعي والسياسي. في ثمانينيات القرن الماضي، ومع صعود الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق، وجد أبناء النيل الأزرق أنفسهم جزءاً من مشروع “السودان الجديد”. كان القائد مالك عقار واحداً من أبرز الوجوه التي جسدت هذا الانخراط، حيث تحولت المنطقة إلى ساحة مواجهة رئيسية بين الجيش السوداني وقوات الحركة الشعبية. لم يكن الأمر مجرد صراع عسكري، بل كان أيضاً تجسيداً لرغبة السكان في نيل اعتراف بهويتهم وحقوقهم كمواطنين لا كرعايا على هامش الدولة. اتفاقية السلام الشامل عام 2005 منحت النيل الأزرق، مثل جنوب كردفان، حق “المشورة الشعبية” لتقرير مصير علاقتها مع المركز. لكن هذه العملية لم تُستكمل، وفُسرت بطرق متناقضة بين الأطراف المختلفة. ومع انفصال الجنوب عام 2011، عاد التوتر إلى ذروته، إذ شعر كثيرون في النيل الأزرق أنهم تُركوا وحيدين في مواجهة الخرطوم، بعد أن فقدوا الرابط الجغرافي والسياسي مع الجنوب. اندلعت الحرب من جديد، وأُجبر مئات الآلاف على النزوح إلى إثيوبيا أو الاحتماء بالجبال والغابات، في مشهد مأساوي تكرر مرات عديدة في تاريخ السودان الحديث. ما يميز النيل الأزرق عن غيره من مناطق الهامش هو البعد الإقليمي للصراع فيه. فالقرب من إثيوبيا جعل النزاع جزءاً من حسابات أكبر، حيث تؤثر العلاقات السودانية الإثيوبية والصراع حول سد النهضة والمياه في مآلات الوضع بالمنطقة. وبذلك، لم يعد النيل الأزرق مجرد قضية داخلية سودانية، بل أصبح عقدة تتداخل فيها الجغرافيا والسياسة والموارد المائية والصراع الإقليمي. هذا البعد الإقليمي يزيد من تعقيد الأزمة، لكنه في الوقت نفسه يكشف أن حلها يتطلب رؤية شاملة تتجاوز منطق المعالجات الأمنية المحدودة. ورغم كل هذه التحديات، فإن النيل الأزرق يمتلك إمكانات هائلة لبناء مستقبل مختلف. فهو غني بالموارد الزراعية التي يمكن أن تجعله سلة غذاء كبرى، كما أن تنوعه الثقافي يمكن أن يتحول إلى مصدر قوة ووحدة إذا ما أُدير بحكمة. لكن ذلك مشروط بتغيير جذري في طبيعة الدولة السودانية: من دولة مركزية تُقصي الهوامش إلى دولة عادلة تشرك الجميع في القرار والثروة. إن النيل الأزرق، كما دارفور وجبال النوبة، ليس مجرد هامش جغرافي، بل هو قلب الأزمة السودانية في معناها الأعمق. فطالما بقيت الهوية الوطنية أسيرة لخطاب الإقصاء، وطالما بقيت التنمية رهينة لمركز ضيق، فإن هذه المناطق ستظل قابلة للاشتعال في أي لحظة. غير أن تحويلها إلى فرص للسلام ممكن إذا توفرت الإرادة السياسية لبناء عقد اجتماعي جديد يعترف بالتنوع ويستثمر في العدالة. وهكذا، حين نضع النيل الأزرق في سياق الصراعات السودانية، ندرك أن القضية ليست محلية ولا ظرفية، بل هي جزء من مأزق وطني شامل يحتاج إلى إعادة تعريف الدولة نفسها. ومن هنا، سيكون الانتقال في الحلقة القادمة نحو الخرطوم والحكومات المتعاقبة، لفهم لماذا فشلت في تجاوز سياسات الاستعمار وأعادت إنتاج التهميش الذي أصبح لعنة على حاضر السودان ومستقبله.

عن لوال كوال لوال

لوال كوال لوال

شاهد أيضاً

أبيي.. الجرح المفتوح بين شمال لا يريد الحل وجنوب لا ينسى القضية!

lualdengchol72@gmail.comبقلم: لوال كوال لوال منذ فجر تكوين الدولة السودانية الحديثة، ظلت منطقة أبيي تمثل إحدى …