بين الهامش والصراع: دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق على مفترق طرق السلام (7-10)
lualdengchol72@gmail.com
بقلم: لوال كوال لوال
حين نعيد النظر في مسار الدولة السودانية منذ الاستقلال، نجد أن الصراعات التي اندلعت في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، وقبلها في الجنوب، لم تكن أحداثاً معزولة، بل كانت انعكاساً مباشراً لطبيعة تكوين الدولة نفسها. فالدولة التي وُلدت دون عقد اجتماعي جامع، ودون مشاركة حقيقية من كل مكوناتها، سرعان ما تحولت إلى ساحة نزاع دائم بين المركز والأطراف. هذه الصراعات لم تُضعف الأطراف وحدها، بل هزّت البنية الكلية للدولة السودانية وأفقدتها القدرة على الاستقرار والتنمية. أول انعكاس لهذه الحروب كان في الاقتصاد. فالسودان، الذي يمتلك ثروات زراعية وحيوانية ومعدنية هائلة، لم يتمكن من استغلالها لصالح التنمية المستدامة. بدلاً من ذلك، ابتُلع الجزء الأكبر من ميزانيات الدولة في الإنفاق العسكري والأمني. فكل حرب في الأطراف كانت تعني المزيد من الجنود والذخائر والطائرات، والمزيد من النزوح واللاجئين الذين يحتاجون إلى إغاثة عاجلة. ومع مرور الزمن، أصبحت الحروب تستهلك طاقة البلاد الاقتصادية، وتحرمها من أي إمكانية للتخطيط الاستراتيجي الطويل المدى. النتيجة أن السودان، رغم إمكاناته، ظل واحداً من أفقر دول العالم. أما الانعكاس الثاني فكان على البنية السياسية. فكلما اشتد الصراع في الأقاليم، كانت السلطة المركزية تميل أكثر نحو العسكرة والاستبداد. فقد رأت الحكومات المتعاقبة أن بقاءها مرهون بقدرتها على إخضاع الأطراف، ما أدى إلى تضخم الأجهزة الأمنية والعسكرية على حساب المؤسسات المدنية والديمقراطية. هكذا أصبحت السياسة في السودان رهينة لمنطق الحرب والسلاح، لا لمنطق الحوار والمؤسسات. فحتى في الفترات الديمقراطية القصيرة، كان الهاجس الأمني يطغى على أي محاولة لإرساء حكم رشيد، إذ كانت النخب تخشى من أن تُفقدها مطالب الهامش سلطتها. البنية الاجتماعية أيضاً لم تسلم من هذه الانعكاسات. فقد أدت الحروب إلى تفكك النسيج المجتمعي، وإلى تعميق الانقسامات العرقية والثقافية. ففي دارفور، مثلاً، تحولت الصراعات على الأرض والمراعي إلى نزاعات قبلية مسلحة غذّتها الدولة بسياساتها. وفي جبال النوبة والنيل الأزرق، أصبح الانتماء إلى الحركة الشعبية أو الولاء للمركز معياراً لتحديد من يُعتبر “مواطناً صالحاً” ومن يُعامل كمتمرد أو مشبوه. هذه التصنيفات المدمرة أسهمت في خلق أجيال كاملة تنظر إلى الآخر بعين الريبة والعداء، بدلاً من أن ترى فيه شريكاً في الوطن. ومن أخطر الانعكاسات أن هذه الصراعات نزعت عن السودان صورته كدولة مستقرة قادرة على إدارة تنوعها. فعلى المستوى الدولي، أصبح السودان يُعرف كبلد الأزمات الإنسانية والحروب الأهلية، ما جعل صورته في العالم مرتبطة باللاجئين والمجاعة والنزوح. هذا الانطباع لم يكن مجرد دعاية، بل انعكس في عزوف الاستثمارات الأجنبية، وفي فرض العقوبات، وفي تردد المؤسسات الدولية في التعامل معه. وبذلك، أصبح السودان أسير دائرة مفرغة: الحروب تضعف الدولة، وضعف الدولة يغذي الحروب. كما أثرت الصراعات على مفهوم المواطنة نفسه. فبدلاً من أن تكون المواطنة علاقة قانونية وسياسية تقوم على الحقوق والواجبات، أصبحت مرهونة بالهوية والانتماء. كثير من أبناء دارفور أو جبال النوبة أو النيل الأزرق شعروا بأنهم ليسوا مواطنين كاملي الحقوق، بل مجرد تابعين لدولة لا تراهم إلا كأطراف متمردة أو مناطق تحتاج إلى السيطرة. هذا الشعور بالاغتراب عن الدولة دفع بعضهم إلى البحث عن بدائل، سواء عبر الانخراط في الحركات المسلحة أو عبر الهجرة خارج البلاد، ما عمّق أزمة الثقة بين المواطن والدولة. هذه الانعكاسات كلها تُظهر أن الصراع في السودان لم يكن نزاعاً على السلطة فحسب، بل كان نزاعاً على معنى الدولة نفسها. هل الدولة جهاز لخدمة نخبة محدودة في المركز؟ أم هي عقد اجتماعي يجمع بين كل السودانيين على قدم المساواة؟ هذا السؤال ظل بلا إجابة مقنعة منذ الاستقلال، ولذلك استمرت الدوامة: كلما سقط نظام، جاء آخر يعيد إنتاج ذات السياسات، فتستمر الحروب، ويزداد الانقسام، وتنهار فرص بناء وطن متماسك. لكن رغم قتامة الصورة، فإن قراءة هذه الانعكاسات بعمق تفتح الباب أمام إدراك أن استمرار هذا النمط يعني ببساطة انهيار الدولة بالكامل. فالسودان لا يمكنه أن يظل محتفظاً بحدوده وجغرافيته إذا ظلت العلاقة بين المركز والهامش قائمة على القهر والإقصاء. الحل يكمن في الاعتراف بأن ما جرى خلال العقود الماضية لم يكن مجرد أخطاء سياسية، بل كان خطأ في بنية الدولة نفسها. ومن هنا تنشأ الحاجة إلى إعادة التفكير في كيفية إعادة بناء السودان على أسس جديدة: أسس العدالة والمساواة والتنمية المتوازنة. وفي هذا السياق، تأتي الحلقة القادمة لتسليط الضوء على الإمكانات الاقتصادية الهائلة التي تمتلكها مناطق النزاع، وكيف يمكن أن تتحول من بؤر حرب إلى محركات للتنمية إذا ما أُحسن استغلالها في إطار رؤية وطنية شاملة.
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم