بين الهامش والصراع: دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق على مفترق طرق السلام (9-10)
lualdengchol72@gmail.com
بقلم: لوال كوال لوال
إذا كان تاريخ السودان الحديث مليئاً بالحروب والصراعات، فإن الدرس الأهم الذي يفرض نفسه هو أن السلام الشامل لا يمكن أن يتحقق إلا عبر معالجة جذور الأزمة، وليس مجرد التعامل مع نتائجها الظاهرية. دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق ليست مجرد مناطق نزاع، بل هي مرايا تعكس اختلال العلاقة بين المركز والهامش، وعليه فإن أي مشروع للسلام الشامل يجب أن يبدأ بالاعتراف بالحقوق التاريخية والثقافية والسياسية للسكان المحليين، وإعادة بناء الثقة المفقودة بينهم وبين الدولة. أول شرط للسلام هو العدالة الانتقالية. فالجرائم التي ارتُكبت خلال الحروب الماضية، سواء على المدنيين أو المقاتلين، تركت جروحاً عميقة في المجتمعات المحلية. لا يمكن تطويق هذه الجراح بالوعود الفارغة أو اتفاقيات مؤقتة. العدالة الانتقالية تعني محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، لكنها لا تقتصر على العقاب فقط، بل تشمل أيضاً التعويض وإعادة حقوق الملكية وتأهيل المجتمعات المتضررة. فغياب العدالة يترك الشعور بالغبن قائماً، ويجعل أي اتفاق جديد هشاً وقابلاً للانفجار في أي لحظة. ثاني شروط السلام هو التنمية المتوازنة. لقد رأينا كيف أن ثروات دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق ظلت مهملة أو مستغلة لمصلحة المركز فقط، وهذا ما غذى شعور السكان بالحرمان. إذا ما أُنشئت مشاريع تنموية حقيقية، تشمل التعليم والصحة والبنية التحتية، وتُدار بطريقة شفافة تشرك السكان المحليين في التخطيط والتنفيذ، يمكن أن تتحول هذه المناطق من ساحات نزاع إلى محركات للاقتصاد الوطني. التنمية ليست رفاهية، بل هي أداة للسلام لأنها تمنح المواطن شعوراً بأنه جزء من الدولة وليس ضحية لها. إعادة دمج المجتمعات هي الشرط الثالث. فالصراعات الطويلة خلقت انقسامات قبلية وإثنية عميقة، أدت إلى فقدان الثقة بين الجماعات المختلفة. مشروع السلام الشامل يجب أن يتضمن برامج للمصالحة المحلية، وتعليم قيم المواطنة والمساواة، وإعادة بناء النسيج الاجتماعي على أسس الحوار والاحترام المتبادل. هذا يتطلب وقتاً وجهداً مستمراً، لكنه الطريق الوحيد لمنع العودة إلى العنف. السياسة المركزية نفسها تحتاج إلى إعادة تعريف. الخرطوم يجب أن تتحول من مركز للهيمنة إلى عاصمة للجميع، تعكس التنوع الثقافي والعرقي والسياسي في السودان. مشاركة الأطراف المهمشة في صنع القرار على مستوى الدولة وإعطاؤها نصيبها العادل من الموارد هو ما سيعطي أي اتفاق سلام مصداقية حقيقية. إذا استمرت القرارات بعيداً عن هذه المشاركة، سيظل السلام هشاً مهما كانت الاتفاقيات الموقعة. فرص بناء السلام الشامل تتوقف أيضاً على الإرادة الوطنية والدولية في آن واحد. الإرادة الوطنية تعني استعداد النخب السياسية في المركز والمتمردين سابقاً للتخلي عن منطق الصراع واستبداله بمنطق الشراكة. أما الإرادة الدولية، فتعني دعم المشاريع التنموية والمصالحة بشكل مستمر، وليس مجرد فرض حلول وقتية أو اقتصار المساهمة على الإغاثة الإنسانية. التجارب السابقة أظهرت أن الحلول الجزئية، مهما بدت متقنة، سرعان ما تنهار إذا لم تصاحبها جهود طويلة الأمد لبناء الثقة. إن إدراك الإمكانات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية لهذه الأقاليم يجعلها أداة أساسية لبناء السلام. فالسودان يمكن أن يتحول إلى دولة مزدهرة ومتوازنة إذا ما أصبحت مناطق الهامش جزءاً من المركز، لا مجرد مصدر للموارد أو ساحات للصراع. وبذلك يتحقق الهدف الأكبر: أن يصبح السودان وحدة واحدة تحت مظلة قانون واحد وعدالة شاملة ومساواة حقيقية، بحيث لا يشعر أي مواطن بأنه يعيش على هامش الوطن. وبهذا، تتضح في الحلقة الأخيرة أهمية الخاتمة الكبرى، التي ستركز على سؤال جوهري: هل ستظل هذه الصراعات بلا نهاية، أم أن هناك فرصة حقيقية لإعادة بناء السودان على أسس سليمة ومتوازنة، تجعل من الماضي درساً وليس لعنة مستمرة؟
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم