بين الهامش والصراع

بين الهامش والصراع: دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق على مفترق طرق السلام (1-10)
lualdengchol72@gmail.com
بقلم: لوال كوال لوال
منذ أن عرف السودان الحديث طريقه إلى الدولة الوطنية بعد الاستقلال، ظل سؤال الهامش والمركز يطل برأسه كواحد من أعقد الأسئلة وأكثرها إلحاحاً. فالمركز في الخرطوم تشكل تاريخياً كحاضنة للنخب السياسية والإدارية التي ورثت جهاز الدولة من المستعمر الإنجليزي، بينما بقيت الأطراف البعيدة عن العاصمة في حالة انتظار دائم لفتات التنمية ووعود المشاركة. هذا التباين لم يكن وليد لحظة الاستقلال وحدها، بل كان نتيجة تراكم تاريخي طويل بدأت ملامحه في الحقبة التركية ثم تعمقت بشكل أكبر خلال الفترة الاستعمارية البريطانية المصرية، حين قُسم السودان عملياً إلى فضاءات متعددة تخضع لسياسات إدارية متناقضة، بعضها يحظى بالاهتمام المباشر وبعضها الآخر يُترك مهملاً ومعزولاً. في هذا السياق، برزت مناطق دارفور وجنوب كردفان (جبال النوبة) والنيل الأزرق كنماذج صريحة لما يمكن تسميته بـ”الهامش السياسي”. فهي مناطق ذات كثافة سكانية معتبرة، وموارد طبيعية هائلة، وتنوع ثقافي غني، لكن حضورها في الفضاء السياسي الوطني ظل باهتاً، أو يُختزل فقط في صورتها كمناطق نزاع ومصدر تهديد أمني. ومن المفارقات أن هذه الأقاليم، رغم بعدها الجغرافي، لعبت أدواراً مفصلية في التاريخ السياسي والاجتماعي للسودان، إذ شكلت خزّاناً بشرياً للجيش والشرطة والعمالة الزراعية، ومع ذلك لم تنل نصيبها من خدمات الصحة والتعليم والبنية التحتية. هكذا نشأ إحساس عميق بالغبن، غذّته تجارب التهميش اليومية والحرمان من أبسط مقومات الحياة الكريمة. من الناحية الاجتماعية، شكّل هذا الوضع أساساً لجدلية “المواطن من الدرجة الثانية”، حيث كان أبناء هذه المناطق يشعرون أن هويتهم الثقافية ولغاتهم وعاداتهم لا تجد الاعتراف الكافي في الدولة المركزية. الخطاب الرسمي ظل ينظر إليهم تارة بوصفهم “مشكلة” وتارة باعتبارهم “أدوات” يمكن تعبئتها وقت الحاجة. هذا التناقض أفرز أشكالاً متعددة من المقاومة، تراوحت بين النضال السلمي عبر الأحزاب والحركات الطلابية والنقابية، وبين حمل السلاح والانخراط في حركات تمرد رفعت شعارات العدالة والمساواة. وهكذا انتقل الإحساس بالتهميش من مجرد مشاعر فردية إلى مشروع سياسي منظم، حمل السلاح في وجه الدولة وفرض نفسه على الساحة الوطنية والدولية. الخرطوم، من جانبها، لم تنظر إلى هذه التحولات بجدية كافية. فقد تعاملت الحكومات المتعاقبة مع الأقاليم الثلاثة بعقلية “إدارة الأزمة” لا “حل الأزمة”، أي محاولة إخماد النيران بالحلول الأمنية أو الاتفاقيات الجزئية المؤقتة التي لا تمس جوهر المشكلة. وحين يتم توقيع اتفاق سلام هنا أو هناك، غالباً ما يُترك التنفيذ معلقاً، أو يُطبّق بشكل جزئي يفقده قيمته، فيعود الصراع من جديد في حلقة مفرغة. وبذلك تحولت دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق إلى مسارح دائمة للعنف والنزوح، بدلاً من أن تكون مراكز إنتاج واستقرار. لكن السؤال الجوهري يظل: لماذا استمر هذا النمط من التهميش رغم التغيرات السياسية العديدة في السودان، من ديمقراطيات قصيرة إلى أنظمة عسكرية طويلة؟ الجواب يكمن في بنية الدولة نفسها. فالدولة السودانية الحديثة وُلدت بميل لصالح المركز، حيث تتركز السلطة والثروة والقرار في يد نخبة ضيقة ذات ارتباطات جغرافية وثقافية محدودة. هذه النخبة رأت في بقاء الأقاليم تحت السيطرة شرطاً لبقاء هيمنتها، فلم تسعَ بجدية إلى بناء دولة عادلة ومتوازنة. ومن هنا يمكن القول إن المعضلة ليست فقط في سوء إدارة أو ضعف تخطيط، بل في رؤية سياسية مشوهة قامت على احتكار السلطة وإقصاء الآخر. غير أن هذه الحلقة لا يمكن أن تُختتم دون الإشارة إلى أن ما نسميه اليوم “الهامش” ليس مجرد مناطق جغرافية بعيدة عن العاصمة، بل هو مفهوم سياسي واجتماعي يعكس العلاقة المختلة بين الدولة ومواطنيها. فدارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق لم تُهمَّش لأنها تقع بعيداً فحسب، وإنما لأنها لم تجد مكانها في المشروع الوطني منذ البداية. ولعل هذا هو المدخل الأساسي لفهم جذور الصراع، قبل أن نلج إلى تفاصيله التاريخية وأثر الاستعمار الإنجليزي في تكريسه، وهو ما سنناقشه في الحلقة الثانية.

عن لوال كوال لوال

لوال كوال لوال

شاهد أيضاً

حين تتاجر الانتهازية باسم منطقة ابيي: حكاية تسعة آلاف مقاتل من ورق!

lualdengchol72@gmail.comبقلم: لـوال كوال لـوالفي هذه الأيام التي تتناسل فيها الحروب وتضيع فيها الحقائق بين صوت …