بين جارين كبيرين: السودان على موقد النار

كتب الأستاذ الجامعي د.محمد عبد الحميد
wadrajab222@gmail.com

في الأول من سبتمبر ٢٠٢٥، انتشى الإثيوبيون في أعلى الهضبة، واشرأبت أعناقهم نحو بني شنقول، معلنين بلوغ سهمهم دائرة الهدف: السيطرة على منبع النيل الأزرق، وإعلانه بحيرة إثيوبية خالصة. هناك، بين طيّات السحاب، بدا الماء مروضاً خلف المحابس الصناعية التكنولوجية، تبسطه كيف تشاء، وتمنعه عمّن تشاء. فأصبح النيل الأزرق رهينة في صرحهم الشامخ، وقد استطالت بذلك يدهم على مصائر شعوبٍ بحالها.
وفي الأول من نوفمبر ٢٠٢٥، التفَّت سواعد المصريين حول حلمهم الكبير، فأنجزوا تحفةً معماريةً فائقة البهاء، التقى فيها ماضيهم التليد بحاضرهم المجيد، ليعلنوا — في كرنفال باهر الإخراج — افتتاح متحفهم الكبير؛ هرماً رابعاً يطل على هضبة الجيزة، حاملاً عبق التاريخ وطلعات الحاضر وأحلام المستقبل. تخللت الافتتاح المهيب في لحظة لم يشهدها العالم من قبل، سمفونية خالدة ترددت أصداؤها في أرجاء المتحف، وهي تنبعث في الوقت ذاته من باريس وسيدني وطوكيو ونيويورك وريو دي جانيرو، حيث كان المايسترو وفرقته في القاهرة. ربطت خوارزميات العصر الرقمي والذكاء الاصطناعي وقع الموسيقى من تلك الأركان المتباعدة في تيار واحد قوامه لغة عالمية ورسالة توحِّد الشعوب، تطأطأت لها الهامات والرؤوس، وسرت في الأبدان رعشة إكبارٍ وإجلالٍ.
فبينما يُشيّد الجاران الكبيران صروحاً من أحجار، يشيد السودان مقبرة من رماد ودمار.
الإثيوبيون نهضوا ليحقّقوا حلم أباطرتهم عبر تضافر سواعدهم، والمصريون عمّروا الأرض حتى أدخلوا أيديهم في عمق التاريخ، يشيدون للعالم جوهرة حضارية لواحدة من أقدم أمم الدنيا.
أما السودان – ويا للوعة الألم – فقد جلس على السفود يتلظى ناراً حامية، تُفري كبد أبنائه في أتون محرقة دامية. كأنما شاء أن تكون هذه الحرب تذكاره التاريخي الوحيد — علامة وانية بين إنجازين عظيمين لجارين كبيرين.
تتطاير شراراته في الفضاء العريض، فتحملها قنوات الأخبار أنباءً عن أمةٍ تذوب في لهيب صراعها، وتسأل الأجيال: أين كنا حين انشقت الأرض بين إنجازين وضاع الوطن؟
إنها خيبة تتلوى في الرماد، وتسفع وجهها لهيب المحرقة الحامية وتتذكرها الأجيال القادمة بين سدٍ كبيرٍ في أعالي الهضبة، ومتحف كبير في أسفل الوادي، ووطن كبير كان في المقام والآمال ثم ضاع، أو كاد يتلاشى في حمأة الخطوب و الحروب.
د. محمد عبد الحميد

شاهد أيضاً

طرد الموظفين الأمميين – السيادة بين المجاعة والنجاعة

كتب. د. محمد عبد الحميد استاذ مادة الحد من مخاطر الكوارث بالجامعات السودانيةwadrajab222@gmail.com تفاجأ المهتمون …