مقدمة
ظلّ الغناء في السودان، عبر تاريخه الطويل، أداةَ تعبيرٍ وجدانيٍّ ووسيلةَ مقاومةٍ سلميةٍ ضدّ الظلم والألم والتشظي، ومتنفّسًا شعبيًا يجمع الناس في لحظات الفرح والحزن والرجاء. وفي قلب هذه التجربة يقف الفنان محمد جبارة (ود جبارة) بوصفه أحد الأصوات التي جعلت من أغنية الطنبور والدليب رسالةً وطنيةً وإنسانيةً، تتجاوز حدود الترف الفني إلى فعلٍ من أفعال السلام. إن تكريمه يوم الخميس الموافق 23 أكتوبر 2025، بمدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية، يأتي تثمينًا لرسالة الفن الصادق، وتقديرًا لـ ثنائيات الإبداع، التي صاغت وجدان أجيالٍ عند منحنى النيل، بكلمات شعراء ملهمين وأنغام فنانين مبدعين. تلك الثنائيات التي تشكّل مثلثها البديع من: السر عثمان الطيب ومحمد جبارة، وعبد الله محمد خير وصديق أحمد، ومحمد سعيد دفع الله ومحمد كرم الله. فقد كان محمد جبارة أحد أضلاع هذه الثنائيات الرئيسة، التي حملت همَّ الوطن في الكلمة واللحن، وساهمت، بأدائها المتميّز، في تغذية الضمير الجمعي بقيم المحبة والوحدة، ليصبح الغناء وسيلةً لإيقاظ الضمير، ورفض الحرب من جذورها.
أولًا: ود جبار: الفن والوجدان والذاكرة
ينتمي ود جبارة إلى بيئةٍ تعشق الكلمة المنظومة، ويطرب إنسانها للحن الشجي، ويرقص مع إيقاع الدليب وأنغام الطنبور، ولذلك أضحى الغناء والطرب جزءًا من نسيج حياته اليومية. وقد شكّل هذا الانتماء المبكر الوعيَ الفنيَّ الذي صاغ شخصية ود جبارة، فغدت ألحانه امتدادًا لخرير مياه النيل، وأنين السواقي، وأصوات الترابلة، وجرس الأرض التي ينتمي إليها. ومنذ بداياته، اختار كلمات شعراء يعبّرون عن صوت البسطاء، ويصوّرون مشاعرهم بلغةٍ سلسةٍ في لوحاتٍ غنائيةٍ رائعةٍ، لكنها عميقة الدلالة والمقصد. ولذلك، لم تكن الكلمات التي تغنّى بها الفنان محمد جبارة ترفًا غنائيًا، بل تجربةً وجدانيةً، تستنطق جمال الطبيعة السودانية، وقيم المحبة والتآلف، ومفاتن الحسان، وخلجات الحب العذري، فتُعيد للإنسان مكانته في الوجدان الجمعي؛ كما أنها تجمع بين العراقة المحلية والروح الوطنية، فعطفًا على ذلك صار صوت محمد جبارة مرآةً للتراث السوداني، وجسرًا بين الأجيال والمناطق والثقافات.
ثانيًا: الغناء: القوة والرمزية في مواجهة الحرب
حين عصفت الحروب بأهل، وتفرّق شملهم بين المعسكراتٍ والمنافي، كان الغناء – في صوت ود جبارة وأمثاله من الفنانين الصادقين – يذكّر الجميع بما يوحّدهم ويجمع شمل شتاتهم. فغنّى ود جبارة للأم (شوفي الزمن يا يمه ساقني بعيد خلاص)، وبت البلد (ﻭﺑﻼ ﺧﺒﺮ ﻃﻖ ﺍﻟﺨﺒﺮ ﻣﺎﻟﻲ ﺍﻟﺒﻠﺪ*** ﻗﺎﻟﻮﺍ ﺍﻟﻌﺮﻳﺲ ﻗﺎﻡ ﺑﺎﻷﺣﺪ)، وهاتف الجلابة عن أخبار المفقودين (الله الله ياجلابة … رُوحو وفي البلاد توهو *** وين ما يبقى كُوسوهو)، وثمَّن إحسان نورة للجوعى الضامرين، والعطشى الظامئين، والعراة الحائرين (تدّي للجعان لقيمة*** وتدّي للعطشان جقيمة *** وتكسي في الماشين عرايه *** وفوقا ينقطع هديمه)، فحمل صوته رسالةً تجردت من السياسة والمصالح الذاتية؛ لكنها أصابت جوهر ما يفتقده الوطن: الإنسانية والسلام. وبذلك أدرك الشعراء الذين تغنَّى بكلماتهم بأن الفنّ لا يوقف الحرب بالسلاح، بل بالمعاني والمقاصد السامية. وأن الكلمة الصادقة قادرة على أن تقظ القلوب، وتذكّر الشعوب بما بينها من روابط الدم والمكان والذاكرة. وفي زمنٍ طغت فيه لغة العنف، ظلّ ود جبارة يقدّم موسيقى تُعيد ترتيب الوجدان الوطني، وتستدعي قيم التسامح والبساطة والمحبة التي نسجت بمغازلها جوهر الشخصية السودانية.
ثالثًا: الفنّ، أرشيف الهوية والسلام
الغناء في تجربة ود جبارة والشعراء الذين تغنَّى بكلماتهم هو أرشيف وجداني للهوية السودانية والسلام المستدام. ففي أغنياته يتجاور ود جبارة الماضي والحاضر في نسيجٍ موسيقيٍّ واحدٍ، يصالح الناس مع ذواتهم ومع أوطانهم. لقد حوّل الفن إلى ذاكرةٍ جماعيةٍ تحفظ الجمال ضدّ القبح، والوفاء ضدّ النسيان، والحياة ضدّ الموت. وبهذه المعاني، ساهم أرشيف ود جبارة الغنائي في ترسيخ الوعي السوداني بأن الأغنية يمكن أن تكون وسيلة مصالحة وطنية؛ لأنها تعيد تعريف الوطن من خلال الإحساس المشترك، لا عن طريق الانتماء السياسي الضيّق، أو لغة الخطاب العنصري البغيضة.
رابعًا: رمزية ود جبارة في الوجدان السوداني
تجاوز تأثير ود جبارة حدود منطقته أو جيله، ليغدو رمزًا للهوية السودانية الجامعة. فصوته المجبول على الصدق والبساطة جعل منه سفيرًا ثقافيًا غير رسمي للوطن في محافل كثيرة. ولذلك، فإن تكريمه من أصدقاء أعزاء-رائعين ومعجبين أوفياء ليس احتفاءً بفنانٍ فحسب، بل بمرحلةٍ من الوعي الوطني، أدركت أن الفن هو اللغة التي توحّد، وأن الجمال هو الوجه الآخر للسلام.
خاتمة
إن تجربة ود جبارة والشعراء الذين تغنّى بكلماتهم تُقدّم نموذجًا فريدًا للشاعر والفنان اللذين ناهضا الحرب بالحنين، وداوَيا الجراح باللحن، وآزرا الشتات بالتكافل، ووحّدا الناس بالكلمة. لقد غنّى ود جبارة ليذكّرنا بأن السلام يبدأ من الداخل، من القلب الذي يرفض الكراهية ويختار الجمال. فهو لم يرفع رايةً سياسية، لكنه حمل وطنًا كاملًا في صوته، وجعل من كلمات أغنياته جسورًا من الأمل تربط ضفاف السودان بعضها ببعض. وسيظلّ صوته، ما بقيت الذاكرة، شاهدًا على أن الفن الأصيل يقاوم الخراب بالنغم، ويزرع الورود التي لا تذبل في ساحات الحروب المدمرة.
ahmedabushouk62@hotmail.com
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم