IbrahimA@missouri.edu
نص كتاب "ثورة أكتوبر 1964" يصدر في سلسلة "كاتب الشونة" التي هي كتابات نقدية أحررها في مسائل الثقافة السودانية. وصدر الكراس الأول منها في الخرطوم وعنوانه "بخت الرضا: الاستعمار والتعليم". ويباع بدار عزة للنشر والدار السودانية.
استشهاد أحمد القرشي طه: هل مات في طريقه للحَمَّام أو للحِمَام (الموت)؟
قال الأستاذ أحمد محمد شاموق إنه لم يبق من ثورة أكتوبر 1964 سوى أشباح أسئلة وتخرصات. ومن التخرصات المؤذية تلك التي دارت حول ملابسات مصرع الرفيق أحمد القرشي شهيد الثورة الأول في ليلة 21 أكتوبر. فقد ذاع بين جماعات غير واضحة التكوين السياسي والاجتماعي أنه مات نتيجة رصاصة غير مقصودة أثناء سيره من غرفته بالداخلية لأخذ حمام المساء. وظل بعض الناس يتناقلون هذا الخبر شفاهة. ولم أعثر عليه مكتوباً إلا في مقال للأستاذ أحمد على بقادي رددت عليه بشيء من القساوة في جريدة الفجر المعارضة بلندن التي ترأس تحريرها الأستاذ يحي العوض في آخر التسعينات. وليس بيدي الرد لدي كتابة هذه الكلمة ولكن أذكر أنني أرجعت الذائعة إلى صورة الطالب الجامعي الغردوني عند بعض الدوائر (وربما تكون شعبية جداً ممن لم تتفق مع ثورة اكتوبر أو خاب ظنها فيها) كتجسيد للحداثة التي غنى لها المغني: "أهم شيء الحمام ونظافة الأجسام والزول يكون بسام".
ولم أكن انتظر أن يتسرب خبر ميتة القرشي على أبواب الحمام المسائي إلى قلم الدكتور كمال حنفي (الرأي العام 21 أكتوبر 2006). فهو قلم رشيق أطربني أول ما أطربني حين تزاملنا في جريدة (الصحافي الدولي). وأشجاني أيضاً. وأعلم أنه يكن لي أيضاً مودة عظمى لا استغربها من قلم تميز بخلوه من الغصة السياسية. فهو يرد الماء عذباً بينما يرده أهل الغصة على كدره وطينه. وهو قلم طبيب يمسك بالداء من قرونه فلا يرتج عليه وينفذ إلى العلة بسلطان.
بث حنفي خبر موت القرشي مصادفة عند حمامه الجامعي في سياق دعوة لمراجعة تاريخية نسيطر بها على مصطلح "شهيد" ونسترده من زئبقيته المشاهدة في الساحة السياسية السودانية. فأضحي شهيد قوم هو خائن قوم آخرين. فشهيد جماعة ما هو فطيس جماعة أخرى. كما أطلقنا اللقب على من مات مصادفة بغير إرادة منه. ودعا حنفي إلى غربلة القائمة الطويلة من شهداء السودان غربلة ناعمة ودقيقة لتمييز القمح من القش.
فلست اعترض على دعوة الأستاذ كمال حنفي لاسترداد المعنى للشهادة للحق بعد أن مصمصناها من الدلالة. بل سبقته إلى هذه الغربلة بكتابة ورقة علمية عن الاقتصاد السياسي للاستشهاد في السودان قدمتها لمؤتمر الجمعية الأنثربولجية الأمريكية في واشنطون عام 1996 أو نحوها. وقد إزددت رغبة في مراجعة مصطلح الاستشهاد وأنا أتابع مثل غيري مسلسل الموت السياسي في مناخ الهرج الضارب أطنابه فوقنا. فقد قرأت عند أحدهم عن مواجهة بين اللواء البلولة والرائد إبراهيم شمس الدين خلال انقلاب رمضان 1990. وسمى الكاتب البلولة "شهيدا" باعتبار اعدامه لدي فشل انقلاب رمضان. وكذلك سمى إبراهيم "شهيدا" اعتباراً لاحتراقه في الطائرة المعلومة. وغاب معنى الشهادة والحق عن الموقف الذي تقابل فيه خصمان وخرج منه كل منهما شهيداً. وكان يكفي الكاتب أن يقول عنهما المرحوم فلان وفلان طالما لم يعد ل "شهيد" قيمة أو معنى. والبلاغة هي القول بمقتضى الحال.
علاوة على ذلك لم نعد نتفق على صحة إطلاق شهيد على أي من صرعوا في الوغي اليساسي. فقد تصدى قاريء بضراوة للدكتور كامل إبراهيم حسن (السوداني 30 أكتوبر 2006) لأنه طالب بتكريم الشهداء عبد الخالق محجوب ورهطه من اليساريين. وقال القاريء إن الإمام الهادي ومحمد صالح عمر، ممن قتلا خلال أحداث الجزيرة أبا وذيولها في 1970، أحق بالتكرمة والتذكر. فمن ذكرهم كامل من اليساريين، في قول القاريء، وقفوا من وراء نظام انقلاب مايو 1969 الذي أزهق أرواح الأنصار. بل وتورطوا في انقلاب 19 يوليو 1971 (واستثنى القاريء المرحوم الشفيع أحمد الشيخ) الذي لم يكن من أجل الديمقراطية والحرية بل من أجل إقامة نظام شمولي أحمر اللون. وهذا القوال مصداق لقول حنفي إن الشهيد المعتبر عند جماعة ما هو مجرد "فطيس" عند خصومهم.
ولكن زبدة اعتراضي على مقالة حنفي هي أخذه بالرواية الغامضة الشفوية المتخرصة عن استشهاد أحمد القرشي ليلة 21 أكتوبر 1964. فقد أخطأ خطأ بيناً في إيراد ملابسات وقفته عند الحق وموته في سبيله. فالقرشي عنده شهيد لم يقصد الشهادة بل فرضت نفسها عليه فرضاً بينما كان يريد الحمام ونظافة الأجسام. فقال إنه إذا كان هناك الاستشهاد العمد فهناك الإستشهاد عن طريق الخطأ وهو طريق القرشي. فوصفه بأنه كان في 1964 طالباً جديداً بجامعة الخرطوم. واليك نص وصف حنفي لملابسات موت القرشي: "لم يشترك في مظاهرة ولا مقدماتها. كان ذاهباً لأخذ حمام المساء. فأتته رصاصة مجانية من رصاصات الشرطة ضالة طريقها. أصابت الرصاصة الطائشة الطالب القرشي. فصار شهيداً وصار نشيداً. وصار مجرد ذكر اسمه الآن كافياً لإخراج مظاهرة جارفة. فقد سكن الاسم الخيال السياسي السوداني الخصيب". وليس صعباً الاستنتاج أن دعوة حنفي إلى غربلة الشهداء لتمييز القمح من القش هي دعوة لإسقاط القرشي من قائمة الشهداء لموته الفطيس وهو في طريقه لحمام المساء. فقد "تفطس" القرشي لأنه كان في الموضع الغلط وفي التوقيت الخطأ كما تجري العبارة الإنجليزية.
لقد جاء حنفي بهذا الخبر المكذوب من رأسه. وأحدثكم عن الخبر اليقين عن استشهاد رفيقي أحمد القرشي من كراسي وهو مخطوطة الدكتور كليف تومسون الأمريكي وشاهد العيان على ثورة أكتوبر ومحقق وقائعها والذي يدرس تاريخها حالياً لطلابه بجامعة ويسكونسون الأمريكية.
أحمد القرشي طه: الجنى مو جنا نصاح
كنت على طاولة المتحدثين في أشهر ندوتين من الندوات التي ناقشت مسألة الجنوب بجامعة الخرطوم فأرهصت لثورة اكتوبر 1964. كنت متحدثاُ في الندوة الأولى بتاريخ 9-9-1964. وهي الندوة التي سرق الكاميرا فيها الدكتور حسن الترابي العائد منذ شهور قليلة بعد نيله الدكتوارة من جامعة السوربون بفرنسا. وقد حكيت ملابسات اشتراكي في هذه الندوة بكتابي "الرق في السودان: نحو أنثربولوجيا الخبر". أما الندوة الأكتوبرية الثانية فهي التي انعقدت في ليلة الأربعاء 21 أكتوبر واستشهد في ملابساتها الرفيق أحمد القرشي والمرحوم بابكر عبد الحفيظ. وقد وقع اختيار السيد أنور الهادي عبد الرحمن، السكرتير الثقافي لاتحاد الطلبة وعضو الاتجاه الإسلامي (وكان هذا الاتجاه الأكثر حماساً لقيام الندوة) علىّ لأسجل وقائع الندوة. وكنت وقتها عضواً بالمجلس الأربعيني للاتحاد عن الجبهة الديمقراطية. وابتعدت قصداً عن عضوية لجنة الاتحاد التنفيذية كطالب نهائي أريد أن أعوض عن فصلي المؤقت لعام دراسي عقوبة على مظاهرة جرت في 1963 خلال حفل تخريج. وقد استفز الجامعة والحكومة معاً أن الحفل أمَّه مدراء الجامعات الأفريقية الذين تصادف اجتماعهم الدوري بالخرطوم مع حفل التخريج.
انعقدت الندوة أمام داخلية عطبرة لتعذر انعقادها في دار اتحاد الطلاب التي سدت الحكومة أبوابها أو في ميدان أفسح لأن الحكومة أغرقت الميادين بالماء في غير موسم. وكانت عطبرة (والقاش) من الداخليات الجديدة الرشيقة العالية. وقد بنوها من الساس خلال عام 1960-1961 وهو أول سنيّ بالجامعة. وأزعجنا من البناء كرير كراكاته ومندلة ندالاته وغبار وعفار رابط عند سماء داخلياتنا. ولكن كنت ضمن أول من سكن داخلية القاش. واستمتعت بفوح المبني الجديد وملمسه .
اتخذت موقعي على المنصة بجنب المرحوم رفيقنا بابكر الحاج بابكر الذي هو من قدواب بربر. وكان زعيم الجبهة الديمقراطية ورأس قائمة مرشحيها للاتحاد. ولم أر رجلاً في فضله وذكائه ورباطة جأشه وسداد عبارته. وفرشت كراستي بعد افتتاح أنور للندوة. وكان أول المتحدثين رفيقنا بابكر الحاج. وبدأت في تدوين منطوقه. ولم يستمر طويلاً. فداهمنا البوليس يطلب من أن نتفرق. وكان هناك من بين أعضاء اللجنة التنفيذية من طلب من الطلاب التفرق بانتظام.
ويبدو أن مزاج داخليات الجيش (البركس)، التي انعقدت الندوة في حوزتها، كان خلاف مزاجنا نحن ساكني داخليات الطلاب النهائيين. وكنت أسكن النيل الأبيض التي هي كلية القانون الآن. فقد علمت لاحقاً أن جماعة من طلاب البركس كانوا بالفعل يعدون العدة لمواجهة البوليس. فلربما ساءهم تفرقهم عن سكات في ندوة سلفت بتاريخ 10-10-1964. ولابد أن اعتقال اللجنة التنفذية للاتحاد في 15-10 قد قوى عزائمهم في الرد على الحكومة صاعاً بصاعين. فقد كوموا طوباً ونفايا بناء لرد عدوان البوليس.
طويت أوراق محضر الندوة التي عوجلت وأخذته متجهاً نحو داخليتي عبر بوابة البركس. وحذرت أن أقع في القبضة قبل بلوغي مكاني فدخلت غرفة بداخلية ما والتمست من ساكنيها أن يحتفظوا بالوقائع القتيلة حتى ينجلي الموقف. وخرجت. ولم استدرك أحداث ما وقع بعد الندوة إلا في مستشفي الخرطوم ومشرحتها حين تواترت أنباء عن ضحايا المواجهة. ولا زال هذا المحضر يلوح لي كلما عدت بذاكرتي إلى ذلك اليوم. فهو الأثر المكتوب من ندوة تحدث فيها الرصاص فصرع الحضور وأدماهم.
لم نكن في الجبهة الديمقراطية ممن تحمسوا للندوة. كان من رأينا أن لا نعطي الحكومة ذريعة لإغلاق الجامعة. فقد استفزتها ندوات الجنوب فندمت على أنها كانت البادي بطرح الموضوع للنقاش وقررت اخماد جذوته بأعجل ما يكون. فقد كنا اعتقدنا نحن الشيوعيين أن النظام قد تورط في أزمته الثورية. وهي في تعريفنا أنه لم يعد مسخوطاً عليه من الشعب فحسب بل أصبح هو نفسه غير قادر على الحكم. ومن أراد ان يتوسع في فهم موقفنا كشيوعيين آنذاك فعليه بكتابي ا "بئر معطلة وقصر مشيد: صدأ الفكر السوداني، الحركة الإسلامية واليسار والليبرالية". والأزمة الثورية هي لحظة في الثورة تحتاج إلى تكتيكات تخلو من عنصر الاستفزاز وتتجه إلى تعبئة شاملة تحصر النظام المنهك وتلفظه لفظ النواة. ولذا اقترحنا بديلاً للندوة أن نخرج في مظاهرة حسنة التحضير شاملة لطلاب العاصمة. وصوت الطلاب في الداخليات على مقترح عقد ندوة أخرى، وقد تبناه الإتجاه الإسلامي بصورة رئيسية، فأيدوه. ولم يروا رأينا عن الأزمة الثورية. فسقط اقتراح المظاهرة.
لعل ما ساءني جداً ما روجه الأخوان المسلمون وخصوم آخرون بآخرة بأننا عارضنا ثورة اكتوبر لمجرد خلاف في التكتيك حسمته الجمعية العمومية بإجراء ديمقراطي معتمد في أداء الاتحاد. وقد أساء هولاء الوشاة إلى الديمقراطية من حيث زعموا التعلق بها وفدائها. فليتهم قالوا إن الشيوعيين قد خافوا النظام العسكري ولكنهم التزموا بإرادة الجمعية العمومية حرفاً وروحاً. فقد كان أول المتحدثين بالندوة من الجبهة الديمقراطية وأول شهدائها من الجبهة الديمقراطية وكانت زغرودتها البكر من عضو بالجبهة الديمقراطية هي الدكتورة دينا شيخ الدين. وكان من بين جرحي الندوة ديمقراطيون هم المرحوم عبد الله محمد الحسن والدكتور وديع السنوسي وطائفة اخرى لا تحضرني أسماءهم الغراء. فالخلاف رحمة في الديمقراطية وأساسها المتين. وليس السداد في العمل السياسي وتكيكاته رجماً بالحق على طريقة زرقاء اليمامة أو النظر في الكرة البلورية في
عرف الغربيين. وإنما هي إجتهاد. ويبقي الفيصل أن تتنزل الأقلية عند رأي الأغلبية وأن تتحمس له كأنه رأيها ذاته. ولابد أن يذكر التاريخ لشباب الجبهة الديمقراطية في 1964 أنهم قاتلوا عند اجتهادهم عن أهدى الطرق لمقاومة نظام عبود ولما قالت الأغلبية بغير اجتهادهم كانوا في طليعة المنفذين لرأي الجماعة. كانوا أقلية جميلة فدائية.
وكان أحمد القرشي طه من أوسم شباب هذه الأقلية الفدائية كما سنرى من واقعة استشهاده ليلة 21 أكتوبر. فما بلغتٌ مستشفي الخرطوم حتى ساقني رفيق إلى جثته لقطع الشك عن هويته. وأظن اسم الرفيق كان هو معتصم من كلية الزراعة. كشف معتصم الغطاء عن وجه القرشي المسجى على وقال:
_ أليس هو القرشي؟
قلت:
-بلى.
وتلبدت غصة في حلقي. فقد تمدد جميلاً مثل الهتاف الذي أطلقه قبل استشهاده بثوان. فما كان الفتى فتى نصاح منذ رأيته لأول مرة في اجتماع موسع لرابطة الطلاب الشيوعيين بالجامعة.
عن أحمد القرشي طه: الشفاه التي لم تقبل قرشي
سرى بين دوائر اجتماعية سياسية فهم مفاده أن أحمد القرشي طه، شهيد ثورة اكتوبر 1964 الأول مات بإهمال. فقد كان في طريقه لحمام المساء الذي طبعته عليه "الحضارة وازدهارها في القرى والبوادي" كواحد من أفندية المستقبل. وعاجلته طلقة البوليس وقد ماتت على شفتيه الدندنة التي تسبق الحمام ونظافة الأجسام. وتيتم البشكير على كتفه. بالغت في وصف مشهد مقتل القرشي جزافاً حتى اقترب من الذهنية "البلدي" التي ربما كانت من روج لفكرة استشهاد القرشي بغير قصد منه. فلربما كانت هذه الصورة من بنات افكار هذا القطاع البلدي الذي لا يري في الأفندية، وصغارهم بالذات، سوى "حناكيش" لا يرتجي منهم نفع.
سنترك جانباً أن القرشي أغتيل بعد الندوة في وقت أدخل في الليل منه إلى المساء وهو الموعد المضروب لحمام الطلاب الموصوف. ولن نستنكر هذه الذائعة عن القرشي. فالشهيد أيضاً كالمغني يشدو وكل على هواه. ما شق عليّ حقاً أنها تسربت إلى الصحافة السيارة على قلم الأستاذ كمال حنفي (الرأي العام 12 أكتوبر 2006). وهو قلم عرف عنه الإعراض عن اللغو. وهو فوق ذاك قلم تدرب صاحبه كطبيب على أخذ الموت بمهنية. فأمثاله موكول إليهم شرعياً تحري الوفاة وتشخيص ملابساتها في ما عرف ب "أرنيك 8" الذي لا تستقيم أي إجراءات مترتبة على الموت بدونه.
قد نلتمس عذراً لحنفي في أخذه بهذه الرواية الخاطئة عن مقتل القرشي لغيبة مكتوب يوثق لملابسات مقتل القرشي في سياق صدام الشرطة والطلاب في داخليات البركس في ليلة 21 أكتوبر. ولكن ربما وجد الباحث المدقق بغيته في الصحف. فقد أسعدتني كلمة للأستاذ محي الدين محمد على (آخر لحظة 28-10-2006) علمتني عن سياق استشهاد صديقه المرحوم أحمد محمد سعد على ساحة القصر نهار 28 أكتوبر. ومثل هذا يكثر في الصحف. وهذا النقص المريع في مادة توثيق وقائع ثورة اكتوبر هو ما أملى علي رعاية مشروع ترجمة مخطوطة كتاب البروفسير كليف تومسون، أستاذ القانون بجامعة ويسكونسن الأمريكية عن أحداث الثورة. فقد كان كليف محاضراً بكلية القانون بجامعة الخرطوم حين اندلعت الثورة فأخذته روعتها وسهر يكتب يومياتها من مشاهداته ومن لقاءاته بالثوار. وقد لقيت الأمرين في الترويج لنشر هذه المخطوطة مسلسلةً بالصحف في ذكرى الثورة. وما شقيت من هذه الأمرين بشيء مثل قول أحدهم: يفتح الله ما لنا حاجة بهذا الأمر القديم (التاريخ بالطبع) الذي حدث وانتهى. يقال إنه كٌتب على الذي يجهل تاريخه أن يعيده. وحالنا مع التاريخ أسوأ وأضل. إن جهلنا بالتاريخ يسوغ لنا ابتذاله بالإساءة إليه.
رسم كليف في مخطوطه لوحة غنية بالتفاصيل الجسورة لمواجهة الطلاب والشرطة في ساحة البركس بعد أن انفضت ندوة ليلة 21 أكتوبر. فقد تراجع الطلاب إلى "قندهاراتهم" اي داخليتهم ليقاوموا الشرطة على أرضهم. وقد أربك هذا التكتيك الشرطة ففقدت أعصابها برغم التعزيزات التي كانت تغزر عددها. فقد كانت تسقط عليها الأسرة من حيث لا تحتسب وتنهال عليها الحجارة من غرف لا حصر لها. ولما وجدت الشرطة أنها على الجانب الخاسر لأنها تلعب في غير ميدانها بدأت في استخدام الرصاص الحي. وظل الطلبة يشجعون بعضهم بعضاً لمواصلة مصادمة الشرطة قائلين: "فشنك" اي أنه رصاص كاذب. وأدرك الطلاب هول الأمر حين بدأ الرصاص ينقر الطوب فيتطاير شعاعاً. وكتب كليف عن كيف تنزل هذا الإدراك على فرقة الطلاب المقاومين بداخلية سوباط ومنهم القرشي. والسوباط هي أول داخلية تلقاك وأنت داخل ببوابة البركس الرئيسية. وأول ما يلقاك منها حمامتها الشمالية التي تربط عندها طائرة من بقايا الجيش الإنجليزي.
قال كليف عن استشهاد القرشي ما يلي:
أدرك الطلاب في داخلية سوباط أن طبيعة المعركة قد تغيرت جذرياً ولكن انتصر لديهم التحدي والغضب على الخوف. تجمع رجال الشرطة المدججين بالسلاح على بعد نحو 60 قدماَ قرب مبنى في البركس القديم . . . إختبأ العديد من الطلاب من خلف الممر الرابط داخلية سوباط بحماماتها. كان أحد هؤلاء الطلاب هو أحمد القرشي طالب العلوم الذي كان يعيد سنته الأولى بالكلية. كان نحيلاً يرتدي بنطالا ً وقميصاً أبيض كفكف أكمامه الى منتصف ساعده. كان شاباً هادئاً يحب الكرة ولعب الكوتشينة. عٌرف عن القرشي أنه كان يسارياً منذ أيام دراسته الثانوية في الدامر (الصحيح الفاشر الثانوية). وكان يؤدي أيضاً واجباته الدينية من صلاة وصوم. حمل القرشي حجراً وقفز من فوق الحائط القصير وركض في الجانب الآخر حتى صار على بعد نحو 20 قدماً من طرف الداخلية. حينها توقف وهتف بشيء ما وقذف بالحجر نحو الشرطة. لو أن رجال الشرطة رأوا ضرورة التقهقهر لما كان هناك ما يقف في طريقهم. سٌمع صوت طلق ناري مرة أخرى واخترقت طلقة رأس القرشي قرب حاجبه الأيمن وخرجت من مؤخرة جمجمته. هوى جسد القرشي على الارض الرملية فحمله زملاؤه الى الممر ثم الى غرفة في الداخلية وسٌجى على فراش. كان ينزف من مؤخرة جمجمته وسال خيط من الدم من بين شفاهه. ولكن نبض قلبه لم يكن قد توقف وأستقر رأي رفاقه على نقله للمستشفى. انتهي نص كليف.
ومات القرشي قبل أن يبلغ المستشفي. وطلب مني الزميل معتصم من كلية الزاعة أن أتعرف على هوية هذا الشهيد تأكيداً لما قاله لمن حوله من أن الشهيد هو القرشي. وكشفنا الغطاء عنه. قال لي معتصم : "أليس هو القرشي؟" قلت : "بلي". كان جميلاً كعادته حين ينشغل بأمر الشعب كما شهدته مرات قليلة في أروقة رابطة الطلبة الشيوعيين. وما زالت نادماً أنني لم أقبل جبهته الشماء وأنا الذي كتبت قصة قصيرة قبل سنوات من ذلك عنوانها "الشفاه التي قبلت قرشي" ونشرتها في جريدة الصراحة لو أذكر جيداً. والقرشي المقصود في قصتي هو الرفيق قرشي الطيب الذي استشهد في مظاهرة مقاومة للجمعية التشريعية بمدينة عطبرة في سنة 1948. وستجد شعراء ثورة اكتوبر يحيلوننا لتوارد أسماء الثائرين وتشابهها. قال ود المكي: "فبجنب القرشي حين دعاه القرشي حتى انتصر". وتوسع صلاح أحمد إبراهيم في المشابهة حين جاء باسم المهدي في المعادلة بقرينة تلمذته علي الشيخ السماني المرموق القرشي ود الزين.
لقد أهداني الزمان فرصة مأساوية لتقبيل وجه أحمد القرشي طه لأشرف بذلك كما أوحيت في قصتي. ولكن ارتج عليّ. ومن قال إنني من السعداء؟
أحمد القرشي طه: والبنطون حق الحكومة
بعد انتصار ثورة اكتوبر 1964 صدر بيان إلى الشعب السوداني موقع باسم "الشيوعيون السودانيون عنهم عبد الخالق محجوب عثمان". وكان ضربة معلم. كان أعضاء الحزب بحاجة إلى هذه الدفعة المعنوية من القبول والشرعية. ظللنا لسنوات ست تحت ظل نظام الفريق عبود وقبله أيضاً نٌوصف بخفافيش الظلام للسرية المفروضة علينا والمحسوبة ضدنا. وكان صعباً أن يأمن الرفاق إلى أنهم صاروا ناشطين سياسيين أسوياء بغير وثيقة ممهورة بتوقيع مبتكر ودرامي. فما كنا سنطمئن إلى ميلادنا القانوني في الساحة السياسية حتى لو وقع على ذلك البيان أرفع هئيات الحزب القيادية. وحسناً فعل الحزب بتذييل البيان باسم الشيوعيين السودانيين. لا أدري حتى الآن لماذا طيب خاطري هذا التذييل تطييباً لم يكن يعدله توقيع البيان باسم الحزب الشيوعي السوداني مجرداً. بدا لي أن التوقيع باسم الشيوعيين السودانيين ميزنا كأسرة من المناضلين وقدمنا بفخر ومحبة للشعب السوداني. وكان رسم عبد الخالق عنا في البيان محض روعة. وقد جاء باسم جده "عثمان" (ولم يكن يثلث اسمه) تأكيداً للروح الأسري للبيان. فهو الزعيم الذي أماط أذي الظلام عنا وهو يقود ركبنا برباطة جأش نادرة وخلق فدائي. كان اليأس ينتابنا كثيراً خلال مقاومة نظام "عصابة 17 نوفمبر" ويغادر قاطرتنا المغادرون خفافاً سراعاً. فقد قال رفيق قنع من عائد النضال لنا يوماً: "ناس عبود جابهم الله يشيلهم الله". ومضى إلى حال سبيله. وكان من بقى منا على العهد ينده باعتقاد مجازف: "ألحقنا يا راشد". وكان توقيع راشد على بيان تدشين لنا في مسرح السياسة السودانية مبرئاً للذمة.
وقد بقيت في خاطري من هذا البيان بعض المعاني. فهو أول من قال بأن ثورة أكتوبر من إبداع عبقرية شعبنا. وكان الخلاف قد بدأ أصلاً حول من هو صاحب الفضل في اندلاع الثورة. وحفظ البيان بحقوق التأليف للجميع حين نسب الثورة لعبقرية الشعب. وقد سمعت السيد الصادق المهدي يستخدم عبارة البيان هذه منذ أسابيع في معرض تزكيته للمقاومة المدنية. وجاء البيان كذلك بقبس تربوي منتظر من الشيوعيين استدعى فيه أريحية تضمنها بيت من شعر العرب. فقد زكانا البيان للشعب السوداني لأننا لا نريد من نضالنا جزاء ولا شكورا فلا نمن به ونهبه عفواً واحتساباً للشعب. فقال عن الشيوعيين إنهم يردون الوغى ويعفون عند المغنم. وعبد الخالق بصير بهذا الشعر فقد قرأه طويلاً وبذائقة مشهودة له بين رفاقه في المدرسة الثانوية قبل سفره لمصر.
أما الأمر الثالث الذي ورد في البيان فقد كان خلافياً جداً. فقد استعرض البيان تضحيات جمة للشيوعيين خلال سنوات الفريق عبود العجاف وذكر آخر هذه البسالات وهي استشهاد الرفيق أحمد القرشي طه. وثارت ثائرة خصوم الشيوعيين والأخوان المسلمين بخاصة ووصفونا بالإدعاء ونشروا أن القرشي كان مصلياً صواماً قانتاً عابداً ومعاذ الله أن يكون شيوعياً. وكأن بين الممارستين سور للصين عظيم. وربما كانت هذه البذرة الأولي في تأثيم الشيوعية بالنظر إلى العبادات مجسدة في ممارسة شخص بعينه. وقد أصبح هذا التأثيم إسترايجية وحيدة الجانب للحركة الإسلامية نجحت به في حل الحزب الشيوعي في 1965 بين جماعة غزيرة من أهل الملل والطوائف.
بدا لي يومها كما وأن البيان قد استعجل مسألة نسبة القرشي للشيوعيين مع أنها النسبة الحق. وكنت أعرف ذلك عنه عن كثب لاقول قائل. ولكن أثارت هذه النسبة خواطر كان الأفضل ان تٌركز على ما سيقع لا على ما وقع من الثورة. وقد طبع هذا التجاحد حول القرشي الشيوعيين بشيء "المجارطة" حول خطر دورهم في الثورة (برغم تربية التأني عند المغنم) لم يعجب الكثيرين من غير الشيوعيين. وقد كتب الدكتور محمد نوري الأمين عن استهجانه لهذه المزاعم قبل سنوات. والأكثر ضرراً أن هذه المجارطة لم تهيء الشيوعيين لنكسة أكتوبر فاستثقلوها فانغبنوا وبدوا كمن لطشوا منهم عزيز دنياهم. وتمثلت لهم نكسة أكتوبر، من فرط ضيقهم بحرامية أكتوبر، كثأر شخصي لا مشروعاً سياسياً مضاداً كان السداد من نصيبه. وربما كان ضلوع بعض الشيوعيين في انقلاب مايو 1969 هو نوع من "شخصنة" أكتوبر ومحاولة استردادها بأعجل ما تيسر ومهما كلف الأمر.
كان الحق الصراح في جانبنا في نزاعنا حول انتماء القرشي السياسي مع الإتجاه الإسلامي. فما احتج الإسلاميون على نسبة القرشي للشيوعيين في بيان الحزب حتى بدأنا في عرض البينة على إدعائنا. فقد تصادف أن نظمت جمعية الثقافة الوطنية بجامعة الخرطوم، وهي واجهة الجبهة الديمقراطية في مجال العمل الاجتماعي في الجامعة، رحلة أحسبها في بداية أكتوبر 1964، لحدائق لسقاي من ضواحي الخرطوم بحري. وأذكر أنني كنت ضمن فريق مكلف من الجمعية، وقد بلغنا موضع الرحلة، لدعوة الفنان خضر بشير ليشدوا لنا فيها. وهذا إبلاغ متأخر يدنو من سوء الأدب. ولكن المرحوم قبل بأريحية دعوتنا البطيئة المفاجئة. وأشجانا في ذلك النهار وقد شعشعت بنت الحان في أكثر الروؤس. وأعتقد أننا دعونا المرحوم عون الشريف ولبى. بل اتخذ الرحلة مناسبة لعمل ميداني يجمع من نثار أحاديثنا كلمات من العامية لقاموسه المعروف. وكان بيننا السيد الماجري من طلاب كلية الاقتصاد. وكان يفخر بعلمه ويقول : "أنا اقتصاد السودان كله في رأسي دا". وكان الما جري من بلدة الكوة. وفخر بها أيضاً وكثيراً. فتصدى له السيد تاج السر محمد خير قائلاً : "يا الماجرى كوة شنو بالله. أنا شفتها. ما فيها غير بحر وبنطون. والبحر حق الله والبنطون حق الحكومة".
الشاهد أن القرشي كان ضمن من شهدوا الرحلة. وظهر في صور شتي مع شيوعيين دهاقين ليس للصدفة أي دور في أن تكون برحلة لجمعيتهم وفي صور معهم وأنت بريء مما يعتقدون ويفعلون. وما تصاعد الاحتجاح علينا بادعاء شيوعية القرشي حتى جاءنا زميل (ما تنشللالو) بثلاث أو أربع صور من أرشيف الرحلة ظهر فيها القرشي الطلي الوسيم مع نفر من قادة الشيوعيين بالجامعة. وعلقنا الصور بقهوة النشاط قطعاً للتخرص. وحصحص الحق وزهق الباطل.
ولم أكن أعلم أن حمى توثيق شيوعية القرشي قد اجتاحت دوائر الطلاب اليساريين. فقد كنت أتجاذب أطراف الحديث مع الأستاذ مكي أبو قرجة في مأتم يونس الدسوقي قبل أيام حين حكى لي عن دور رفاق طلاب المؤتمر الثانوية بأمدرمان في هذا التوثيق. فقد انعقدت علاقة بين رفاق المؤتمر والقرشي بحكم تولى الشهيد مسئولية الصلة بين مكتب الثانويات التابع لرابطة الطلبة الشيوعيين وبين فروع الرابطة في المدارس. وفي 17 أو 18 أكتوبر 1964 ذهب مسئول الصلة بالمدرسة وهو الأستاذ على آدم محمد ليتحصل على بعض المطبوعات الحزبية من القرشي بحسب موعد متفق عليه. فلم يجده في غرفته بالداخلية بالجامعة. ولكن زميل الشهيد في الغرفة سلمه رسالة تركها القرشي له يعتذر فيها لغيابه لأمر طاريء. وعليها توقيعه. فما جأر الإسلاميون بتكذيب نسبة القرشي للشيوعيين حتى خرجت جريدة "الحقيقة" الحائطية بالمدرسة تحمل خطاب اعتذار القرشي لعلي آدم محمد.
لا أعرف مصير صور رحلة السقاي. وقال مكي إن خطاب القرشي على "الحقيقة" لم يدم سوى سحابة نهار. فهم لم يجدوه لما أصبح الصبح عليه. وسيكسب ثواباً ويٌكتب من الوراقين من يرشد إلى أياً من الوثيقتين أو يعرف طرفاً من حكايتهما. لقد كف اللجاج عن القرشي حتى قيل إنه مات بإهمال. ولا نريد هذه الوثائق لتجديد نزاع باخ حول القرشي ولم يعد أحد أطرافه يحفل بالأمر كله. ولا نريد غير الترجمة لواحد من أوسم شباب السودان. أوسمهم قاطبة. وسيد رعيل شهدائه في سبيل الحرية والتقدم والعدل الاجتماعي.
هل كان تطهير ثورة أكتوبر للخدمة المدنية جزافياً؟
(خصصت احتفالي بثورة أكتوبر 1964 هذا العام 2006 لدفع الافتراء الذي راج عنها من أنها قد أفسدت الخدمة المدنية بالتطهير. وأنشر هنا مقالاً يعود إلى 2001 ورد في (الصحافي الدولي) ألقيت فيها بعض الضوء على هذا الذائعة الضارة. وأعتذر في هذا المقام للأستاذ محجوب محمد صالح، رئيس تحرير جريدة الأيام، لأنني كتبت منذ أيام أنه زكي نظام عبود من جهة احتماله للصحف أو نحوه. وستجد في هذا المقال أن محجوباً زكاه من جهة حفاظه على سمت الخدمة المدنية. وساعود في حديث قادم لأعرض بعض مباحثي الجديدة عن بؤس الخدمة المدنية في ظل نظام عبود. )
كان من عادة الحزب الشيوعي أن يصدر كتاباً أسود عن مخازي نظام عبود (أو عصابة 17 نوفمبر كما كان يسميها) قبايل احتفالات النظام بالذكرى السنوية لقيامه. ويؤسفني أن اضطر إلى تجديد شيء من هذا التقليد هنا. فقد انزعجت لما قرأته وسمعته من آراء و"صمت" نظام عبود بنقاء السريرة وكريم الشمائل حتى شككنا حول مشروعية ثورة أكتوبر 1964 التي أطاحت به. ويؤسفني أن اضطر إلى هذا الذكر السيء للنظام ورجاله الذين طوى أكثرهم الموت وأصبحوا بين يديّ غفور رحيم. غير أنه لا حياء في التاريخ كما لا حياء في الدين.
أنا من الجيل الذي قدح فيه نظام عبود السياسة قدحاً. ولا أكن في ذاكرتي، أو مصابرتي للنظام، أو دفعي له، المعاني الإيجابية التي نسبها له الأستاذ محجوب محمد صالح (الأيام 25-10-2001). فقد ميزه بقوله إنه، خلافاً لنظم عسكرية تالية، تمسك بحيدة الخدمة المدنية واستقلال القضاء وعدم تسييس جهاز الدولة. ولا أجد لتمثيل محجوب لعصابة 17 نوفمبر صدى في نفسي. وسأترك أكثر ما ذكره محجوب عن مزايا نظام عبود مقارنة بنظم عسكرية أخرى وأركز على نقض رأيه عن حفاظ عبود على استقلال القضاء. وقد سمعت الطنة من آخرين لا مرة ولا مرتين ولا ثلاث.
لا أذكر أن أياً من شهد أكتوبر خالجه أدنى شك في "تطهير" السيد أبورنات رئيس القضاء على عهد 17 نوفمبر. فرئيس القضاء لم ينتظر حتى إجراءات التطهير اللاحقة لأنه قد سقط من سدة القضاء في نفس الوقت الذي سقط فيه أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة من سدة الحكم. فقد كان ابورنات في نظر الثائرين مفردة ركينة في النظام تبقى به وتسقط معه. وقد نقش الثائرون بند استقلال القضاء في ميثاق ثورة أكتوبر بالنظر إلى حس الناس آنذاك بأن النظام والقضاء قد أصبحا وجهي عملة واحدة.
سأعرض بسرعة هنا للشروط السياسية الظالمة التي أحدقت بعمل القضاء فهدمت استقلاله في ظل نظام عبود. فقد خيم على القضاء طوال سنوات النظام الست شبح قانون دفاع السودان (1958) الذي هو الجانب المظلم من قمر العدالة. وقد رأينا هذا القانون يتكرر في أنظمة عسكرية لاحقة. فقد كان لنميري قانون أمن الدولة (1973). وجاء النظام الحالي بقانون الأمن الوطني (1991) وقد ألقت هذه القوانين دائماً بظلها الثقيل على الأداء العدلي. وقد كرهها القضاة وقاوموها بأشكال شتي. وأبطل قانون دفاع السودان الحقوق المدنية والدستورية للمواطنين بالجملة: عطل حرية التعبير والتنظيم وحرية الانتقال حتى أنه قضى بتحديد إقامة المرحوم محمود حسيب في مدينة كتم.
وقد أرسى قانون دفاع السودان ممارسات مجافية للعدالة ما تزال معنا. فقد اقحم المحاكم العسكرية فنظرت في قضايا تطالها قوانين السودان السارية ومحاكمه العادية. كما أنه قَنَّن الاعتقال التحفظي. ولم يكن بوسع القضاء التمتع باستقلاله وقد خضع لاستبداد جامع مانع تمثل في قانون دفاع السودان. فلم تقدر المحاكم النظر في قضية قتيل المقرن المشهورة التي اشتبه الناس في أن القاتل كبير في الحكومة. ونكص القضاء عن المحكمة حتى بعد أن أعدت نقابة المحامين عدتها لتمثل الاتهام في القضية. بل أن القضاة الذين أزكمت أنوفهم الفضيحة قد فٌصلوا لأنهم تحروا القضية وتمسكوا بسير الإجراءات فيها. وكان من بين هؤلاء القضاة السيد علي محمود حسنين والسيد عثمان خالد مضوي. ولم ينبس رئيس القضاء ببنت شفة.
ومما يذكر لجريدة الأيام (وكان وما يزال محجوب محمد صالح محرراً مرموقاً بها) أنها دافعت عن سيادة القضاء بما لم تفعل القضائية نفسها او راعيها. فقد طالبت الجريدة في افتاحيتها (30-1-1959) المحكمة لعسكرية التي أدانت المرحوم الشفيع أحمد الشيخ، سكرتير اتحاد نقابات عمال السودان، ورفاقه بالسجن أن تنشر حيثيات حكمها على الملأ. وكان جزاء الأيام الوفاق هو الإيقاف والتحقيق مع الأستاذ محجوب عثمان تحت المادة 4 (أ) من قانون دفاع السودان.
لقد حز في نفسي أنني لم أكتب كلمة راضية مرضية في مناسبة احتفال الأيام بمرور 47 عاماً على صدورها (1954-2001). وقد أحسنت الجريدة إليّ كل ما جيئتها أحمل أوراق الخاطر الكسير. وربما خففت كلمتي هذه عن شجاعة الأيام في ذلك الوقت العصيب حسي بالذنب لهذ القصور على أنني كتبتها في سجال مع محرر الجريدة. فقد وقرت الأيام القضاء في منعطف صعب توقيراً لم يجده ممن تقلدوا التبعة المهنية والأخلاقية للجسارة في فعل ذلك.
الإنجليز: زرق يحكمون سود
صفوة المعارضة البرجوازية الصغيرة في الشمال مصابة في خيالها. وبئس المصاب. فقد طاش صوابها من فرط تعاقب الأنظمة المستبدة طيشاً طَلًّقت به المستقبل طلاق بينونة وترامت عند رسوم الماضي. فقد انتهت المواصلات عندها بالترام والتعليم ببخت الرضا والرغيف ببابا كوستا والفصاحة بالمحجوب وكرة القدم بجكسا والخدمة المدنية بالإنجليز. ويسمون هذا ب "الزمان الجميل" عياناً بياناً. وتشخيص ما تعاني منه هذه الصفوة سهل. فقد أنشبت فيها النوستالجيا حمانا الله وإياكم. وهي حالة ذهنية تنكفيء بها الجماعة على الماضي لأنها لم تعد تملك للحاضر القبيح دفعاً وتوارى عنها المستقبل فلا تملك للنفاذ إليه آلة من خيال أو ممارسة. فالمصاب بالنوستالجيا هو من ضرب خيمته عند الماضي. فهو لا يستلهم الماضي بل يؤلهه (والعياذ بالله) ويكتفي به فهو الغاية التي لن تتكرر والمأثرة التي انطوت. وكل من عليها فان.
ومع ذلك فالنوستالجيا نوع حميد وخبيث. فالحميد منه هو حس يالتاريخ لا مهرب منه لكل مشروع تاريخي. أما الخبيث فهو حمل كاذب. فعقيدة أهل خبائث النوستالجيا عندنا في أنه كان لنا ماضياً مشرقاً لن يتكرر وهم كبير. فلم يكن ماضينا مهما كان على الصورة الخاتمة التي صوروها لنا. فهم من فرط يأسهم يضفون عليه هالة من الوهم. وينقونه من أوشاب تاريخه المعطون في النزاع والخلاف ويسطحونه ليكون لوحة جميلة ممصمصة من نقش الواقع.
وصفوتنا الشمالية المعارضة ابتلاها الله بشر أنواع النوستالجيا. فكيف لا وهم على عقيدة جامعة مانعة من أن العهد الذهبي للخدمة المدنية كان في عهد الاستعمار. ومن رأيهم أن تلك الخدمة لم تقل "أحيا آ العافية" منذ ذلك التاريخ. وهذا تهافت عجيب. فالاستعمار بتعريفه ذاته لا ينتج خدمة مدنية. فالخدمة المدنية تفترض قيام جماعة من الموظفين بخدمة أمة من الناس شريطة أن تكون هذه الجماعة المخصوصة مساءلة أمام هذه الأمة مهما اشتطت في بروقراطيتها أو إذعانها للمستبدين من الحكام. والاستعمار براء من الخدمة المدنية. فالدولة الاستعمارية ليست حكومة في المعنى المصطلح عليه لتكون لديها خدمة مدنية. فالأصل في الحكومات أنها نشأت لإدارة جماعات من السكان بينما حكومة المستعمرين قد نشأت لإدارة رقعة جغرافية تستأثر بخير ظاهرها وباطنها. أما سكان هذه الرقعة فهم عبء. ولهذا لم يسلموا من الإبادة في الأمريكيتين واستراليا ونيو زيلنده والجنوب الأفريقي وغيرها لكي تخلو الأرض للغازي الذي جاء ليتملكها بآخرة. وعَبَّر سيسل رودس، الحاكم الإنجليزي لمستعمرة كيب تاون في جنوب أفريقيا، عن شبق المستعمرين للأرض دون الناس بقوله: "إنني أفضل أرض الأهالي عليهم".
وترتب علي غربة دولة المستعمرين عن رعاياها أنها ترفعت عن أن تتوطن بينهم كما تريد ذلك أي حكومة حاقة الاسم لنفسها بالغاً ما بلغت من الاستبداد. فالمستعمر الأوربي يعتزل الأهالي عنوة ليغرق في عوالمه الخاص. ووجدت أفضل تعبير عن نفور المستعمر عن الأهالي في ما كتبه السيد بيلي (1920) من المفتشين الإنجليز في السودان. فقال إنه وصحبه من الإنجليز كانوا ينفقون الليل في حفلات عشاء متلاحقة لا تكاد تنتهي ورقصها يسر قلوب صديقات وحسان. وأضاف أن الطبقة الحاكمة كانت تصحو صباحاً والسكرة بايتة معها وتتجه إلى مكاتبها لتدير شأن الرعية. وأضاف أن صلتنا بمرؤسينا (الأجانب وشدد عليها في الأصل، وهم الأهالي السودانيون) ستنتهي حين يحل وقت الغداء ولن نعاود كرة التعامل معهم إلا في صباح اليوم التالي. فيذهب البريطانيون إلى دورهم الهانئة على النيل بحدائقها المترعة بالسقيا وأشجارها الباسقات بينما يذهب مرؤسونا الذين انزَقَلت بيوتهم عنا وقد تراصت بكآبة في ظهر المدينة الترابي. وزاد بيلي أنه قد يحدث أن نرتب لنجتمع بهم في مناسبات اجتماعية ولكن غالباً ما جاءت ماسخة أملاها الواجب وافتقرت إلى الخيال.
ومن أبلغ ما قرأته في وصف غربة حكومة الاستعمار قول أحدهم إنها دولة مٌفَكَسة (من fax) أي أنها صورة من أصل. والأصل هو الحكومة في حواضر الإمبريالية مثل لندن وإنجلترا ولشبون. فمرجع الحكومة في البلد المستعمر مثل السودان هو الحكومة الإنجليزية. فالإدارة الإنجليزية عندنا مكلفة من قبل حكومة الحاضرة الإمبريالية باستنزاف موارد البلد المستعمر ومحرج عليها ألا تضيع مال دافع الضرائب البريطاني في ما لاعائد منه رفعاً لعناء الأهالي أو شفقة بهم. ولهذا كان الجنوب السوداني خارج خارطة الاستثمار الإنجليزي جملة واحدة. فحتى التعليم فيه سندوه للإرساليات التي تريد التنصير قبل كل شيء. وتدير حكومة الحاضرة الإمبريالية مثل لندن مستعمراتها عن طريق وزارة المستعمرات وإن كان للسودان وضعاً مختلفاً لشراكة مصر في استعماره. ولكنه اختلاف أحمد وحاج أحمد. وعليه يصبح من الركاكة بمكان قول صرعى النوستالجيا بأنه كان للإنجليز خدمة مدنية مرموقة يذرفون عليها دموع التهافت.
ومن نتائج اعتزال دولة الإنجليز الاستعمارية المجتمع الذي تديره أنها اصبحت دولة بلا رابط وثيق خاص مع فئة دون فئة مما طبعها بقدر من الحيدة في تدافع السودانيين وظلم واحدهم للآخر. وربما أٌعجب الناس بالعدل الذي يتأتي من مثل هذه العزلة. ولكنه عدل ناشيء من تعالي الدولة على المجتمع وتساميها لا انشغالها به وتورطها فيه والسهر على خدمته. ومع ذلك كان للإنجليز تحالفات سياسية أملت عليهم التحيز لمن ارتبط من السودانيين بهم. وهي تحالفات عابرة يعقدها الإنجليز وسرعان ما يملونها لأنها غير قائمة على ميثاق ثقافي متين. فأقصى هم الدولة المستعمرة هو تأمين الرقعة الجغرافية التي استولت عليها من شغب الأهالي وحسدهم وهي مستعدة للتحالف مع الشيطان لهذه الغاية. وقد رأينا قصر حبل هذه التحالفات الإنجليزية مع قطاعات سياسية وثقافية سودانية. فقد تحالف الإنجليز مع علماء المشيخة الدينية في أول عهدهم ثم زقلتهم واستبدلتهم بزعماء الطوائف الدينية. وتحالفت مع الأفندية أولاً ثم ألقت بهم على قارعة الطريق حين تمردوا عليها في ثورة 1924 لتصطنع الإدارة الأهلية التي مكنت بها لزعماء القبائل. ثم انقلبت على السيد عبد الرحمن المهدي حين ألح على الحكم الذاتي من داخل الجمعية التشريعية في أوائل الخمسينات وأنشأت الحزب الجمهوري الاشتراكي بزعامة إبراهيم بدري وطائفة من زعماء القبائل المحسوبين على الأنصار. فالحكومة الاستعمارية لا توقر حلفاً. فما عقدت عهداً مع جماعة من الأهالي حتى نكثت عنه. فشاغل الأمن ووساوسه يجعلها تبدل الأحلاف كما يبدل المرء أحذيته. ومن رأي مؤرخ ضليع أن هذا الملل الاستعماري بالأحلاف هو بالضبط ما ذهب بريح المستعمرين. فقد جربت معظم الدوائر السودانية التعامل معهم ثقة منها بعهدهم لها ولم تجد منهم سوى الخذلان. وقنعت منهم ظاهراً وباطناً ففقد الاستعمار الظهير وسقط من عل في مزبلة التاريخ الشيوعية المعلومة.
هبطت صفوتنا المعارضة الشمالية إلى درك سخيف في نوستالجاها حتى "اخترعت" للاستعمار خدمة مدنية. وتولهوا بهم لأنها حوت خريجي أكسفورد وكمبريدج لا غيرهما. ومن يعصي لإكسفورد وكمبريدج أمرا! وطلاب الجامعتين مما يطلق عليه الإنجليز "الزرق" في سياق منافسات الطلاب الرياضية أو نحوه. يا سبحان الله. وماكان للاستعمار خدمة مدنية ولا ينبغي له حتى لو صب فيها سكر أكسفورد وعسل كمبريدج. فحتى الإنجليز سموا خدمتهم في السودان ب "قلم السودان" لو صحت الترجمة عن ""Sudan service واشتهرت في الحركة الوطنية بإسم حكومة المفتشين. والمعنى الأخير غاب عن الصفوة المعارضة الشمالية بينما الصيد المعرفي كله . .. في بطن هذا الفرا.
التطهير: حتاما نساري ثورة أكتوبر في الظٌلَم!
تمر اليوم الذكرى الخامسة والأربعين لثورة 21 أكتوبر. وهي ثورة أراد منها أكثر أهلها جذرية "أرنباً" وهو عودة الجيش للثكنات وتغيير نظام الحكم العسكري للفريق عبود (1958) بآخر مدني ديمقراطي فخرج لها "أسداً". فاثمرت الثورة نظاماً طرق باب التغيير السياسي والاجتماعي بقوة. فدخلت الحكومة لأول مرة قوى مهنية وشعبية كانت خارج النادي السياسي القابض. وأفاضت المواطنة على النساء والشباب والجنوبيين بصورة غير مسبوقة. ولم تدم في الوطن. فكانت ظلاً وقف ما زاد. وقد انتكست بفعل فاعل لوث ذكراها بجرائر بنسبتها إلى الفوضى وارتجال الحكم. وما كانت كذلك. و"جرحها العدا" كما قال الشاعر على عبد القيوم بالباطل. وجرحها "ثوار المجد" بإضغان تاريخها كتاريخ أو لاعج خاص جداً يتمرغ في أناشيد مريرة المذاق. ولم يجعلوها شاغلاً لتاريخ آخر للشعب.
من أفدح ما قيل عن ثورة أكتوبر أنها أفسدت الخدمة المدنية بالتطهير. وقد رددت على هذه الفرية في مناسبة احتفالنا بالثورة في العام الماضي. وأغلط ما قيل عن التطهير إنه كان جليطة يسارية عشوائية. ولم يكن التطهير كذلك. كان من جهة إجماعاً قومياً. وتولته لجان تحقيق تثبتت من الإدعاءات حول المطهرين قبل نزول الفأس على الرأس. فقد صرح استاذنا عبد الخالق محجوب في يناير 1965 عن أحزاب تزعم إعادة النظر في التطهير متى فازت في الإنتخابات. ووصف ذلك بأنه انقلاب دستوري. فالتطهير هو استكمال للتحرر الوطني. وقال إنه سبق أننا لم نستكمل السودنة على أسس وطنية فبقي من وضعهم الإنجليز على قمة الإدارة على حالهم. وأضاف أنه يجب ألا نسمع للمتباكين على الخدمة المدنية لأنهم لم يكونوا حيث ينبغي في صف حرية البلاد خلال النضال الوطني وتستروا لاحقاً على جرائم نظام عبود.
ولم يعجب الأحزاب هذا التعريض بانقلابها على التطهير. فقال مصدر في حزب الأمة إنهم مع التطهير شريطة أن لا يحيق الظم بأي مواطن. ونفى أن يكون الحزب قد اتفق له إعادة النظر في التطهير. وكذلك صرح مسئول من الأخوان المسلمين نافياً تنصلهم عن التطهير. وقال: "إننا كنا أول من نادى بالتطهير في بياننا الأول الذي نشرناه أول أيام ثورة 21 أكتوبر." ومن رأيهم أن معالجة الحكومة للتطهير صحيحة. وفي بيان رئيس الوزراء الأخير ضمانة أن لا يتضرر بريء. ومجلس الوزراء كفيل بإدارة التطهير ورده إلى نصابة متى انحرف عن أغراضه الأصلية (5 يناير 1965). فمن أين لمراجعي التاريخ الزعم بأن التطهير كان عملاً شيوعياً طائشاً؟
من الجهة الأخرى لم تقع حالة تطهير إلا بعد تحقيق في اتهام صاحبها بالفساد أو سواه. وطفحت الصحف بأخبار انعقاد هذه اللجان وعرضها نتائج تحرياتها على مجلس الوزراء وما اتفق للمجلس حيالها. فجاء في الصفحة الأولى من جريدة الأيام خبر إحالة وكيل الري السابق إلى المعاش. وينتظر أن يجري معه تحقيق جنائي حول تهم تتعلق بمخالفات مالية (الأيام 17 فبراير 1965).
وجاء في الصحف أن مجلس الوزراء نظر في تقارير لجان التطهير في عطبرة، مصنع سكر الجنيد، أراضي الحلفاية، مصلحة المخازن والمهمات، النقل الميكانيكي، سينما النيلين، ممتلكات أعضاء المجلس الأعلى المنحل، وموضوع الزراعة الآلية في القضارف. وأن المجلس سيصدر قرارات نهائية بشأن هذه التقارير في اليوم التالي لنظره في التقارير. كما أنهت لجان التحقيق في الشكاوي الموجهة ضد بعض موظفيّ وزارة الصحة من أعمالها. وأجتمع الوزير باللجان اليوم لبحث تقاريرها (الأيام 16-12-1965).
ويقف التحقيق في فساد منشآت وقرى خشم القربة (التي رٌحِّل إليها الحلفاويون عام 1963 بعد إغراق أرضهم) شاهداً على سمت العدل الذي اكتنف التطهير. فسنرى أنه كان للتحقيق في فساد كبار موظفي الأشغال المتهمين بالتواطؤ مع المقاولين أساسه بين الناس لا مجرد وحي شيوعي. ومن جهة أخرى سنرى أن منهج لجان التحقيق في طلب الحقيقة ساقها إلى عمل ميداني زارت به حقول الفساد. ولم يقتصر عملها على التحقيق في المكاتب بل نفضت الغبار عن مواضع الفساد وتفرستها بنفسها.
فقد جاء في الصحف خبر فراغ لجنة التحقيق في فساد خشم وعطاءاتها التي زكمت الأنوف. ورفعت اللجنة تقريرها للوزير عبد الرحمن العاقب فاستجوبت اللجنة في اليوم الذي سبق النشر السيد علي دنقلا أحد مقاولي ذلك الإسكان. وكتب الدكتور حسن هابش، الزرعي الذي صار نائباً لمدير جامعة الخرطوم في ما بعد، في جريدة الأيام مؤمناً على همة لجنة التحقيق في فساد خسم القربة وانتظار الناس، الذين أزكم أنوفهم فساد إدارييّ العهد الماضي، لنتائج شغل اللجنة. وكانت وفود متتالية قد جاءت من حلفا للخرطوم لتطالب بتكوين هذه اللجنة. وقد قال إن اللجنة ذهبت للقربة وحققت في كل المقاولات وبخاصة مقاولات الري والمباني. واقترح هابش خطوة أخرى بعد التحقيق تنظر في مستقبل المشروع تزيل آثار مترتبات التوطين المجازف.( الأيام 6 يناير 1965).
وكان عمل لجان التحقيق منهجياً وافياًً. فجاء في وقت لاحق أن لجنة التحقيق في فساد خشم القربة سافرت إلى بعض قرى المرحلين من حلفا القليلة التي لم تزرها من قبل. أي أن اللجنة قامت بضبط هذا الفساد من عدمه بعمل موضعي ميداني غطى القرى جمعاء. ولم تك زيارتها سدى. فقد وقفت بنفسها على طبيعة فساد البناء ومواصفاته بحفريات قامت بها في الأساسات. ورفعت بعض السقوف لتتأكد من أن كل المباني قد شيدت حسب المواصفات (الأيام 9 فبراير 1965).
متى نكف عن التخرص عن ثورة أكتوبر؟ متى نكف عن لوك الأناشيد هوناً لنمنع العدا عن ورود حوض أكتوبر وتركه كدراً وطينا؟ متى يسعف النثر الشعر في رد الاعتبار لأكتوبر؟ متى يلحق الفكر بالنشيد؟
حتما نسارى أكتوبر في الظٌلَم!
انقلاب 17 نوفمبر وجامعة الخرطوم: لا حافظ على خدمتها المدنية ولا حاجة
في مثل هذا اليوم قبل 49 عاماً جروءت قيادة الجيش السوداني في أعلى مستوياتها، و بعد عامين لاغير من استقلال السودان، على أخذ زمام الحكم عنوة من نظام ديمقراطي. ولا تزال ملابسات هذا الخرق البين للدستور غير واضحة. واكتفينا من غنيمة ذلك الوضوح بتخرصات مثل مضغنا من غير ملل القول بأن الانقلاب كان "تسليماً" من رئيس الوزراء عبد الله بيه خليل و"تسلماً" من الفريق عبوده وصحبه. وكانت يا عرب. وهناك من اتهم الأمريكيين بأنهم كانوا من وراء الانقلاب واكتفى من ذلك بالبينات الظرفية. وصهين. ولعل أكثر القول مجاجة هو نظرية "الجزاء الوفاق" التي ظل يروج لها الدكتور منصور خالد. فمن رأيه أن الانقلاب كان العقوبة المناسبة لأننا أخترنا النهج الديمقراطي ونحن "بببح" من ثقافته ففشلنا وأدمنا الفشل. فهو كمن يقول أننا لم نكن نستحق الديمقراطية. ومن وقف على وقائع تلك الأيام بقسط ومنهج ووجدان سليم لرأى أن الديمقراطية كانت بخير لسبب بسيط هو أن الناس أختلفوا فيها اختلافاً بيناً كما ينبغي لهم في الديمقراطية.
من سخرية القدر أن أكثرنا ظل يحاكم نظام 17 نوفمبر لا بما عمل كما طلب منا بشعاره الشهير: "حاكمونا بأعمالنا" بل بأعمال النظم العسكرية التي تلته في 1969 و1989. ولذا غلبت في حديثنا عنه صيغة "أفعل التفضيل". فأكثرنا لا يقول عنه إنه نظام جيد بل نقول إنه نظام أجود مما نحن فيه سواء في عهد نميري أو البشير. وهذه هي الصيغة التي استخدمتها الأستاذة فاطمة أحمد إبراهيم في حديثها عن نظام عبود في لقاء صحفي بمناسة ذكرى ثورة أكتوبر القريبة.
وبدا النظام من فرط استخدامنا الاعتباطي لأفعل الفضيل في تقويمه وكأنه جنة بلال. وأتعس ما نروجه عنه قاطبة أنه حافظ على كفاءة وحيدة الخدمة المدنية دون النظم العسكرية اللاحقة. وهذا "كلام ساكت" بشكل لأن صاحبه لا يؤسسه علي درس ممحص لا للقوانين التي سنها النظام للحفاظ على كفاءة الخدمة المدنية أو لهدمها ولا لممارساته على ضوء تلك القوانين. ويقع هذا الكلام الساكت من جماعة مستنيرة حسنة التدريب في النظر الدقيق في تلك السنن والممارسات في أصولها أو في المصادر الثانوية.
ومن المصادر الأخيرة التي لا يلق لها النفر في صفوتنا السياسية بالاً كتاب بالإنجليزية عنوانه "مائة عام على نشأة جامعة الخرطوم، 1902-2002" للأستاذ الزين على إبراهيم. فقد خصص الفصل السادس منه لسياسة نظام الفريق عبود حيال الجامعة. والصورة التي رسمها لتلك السياسة تسقم الخاطر. فقد رجع نظام عبود بالجامعة إلى ما قبل عام 1956 من عهد الإنجليز الذي مكنوا فيه للحاكم العام ومدير مصلحة المعارف منها. وانقلب نظام عبود بذلك على النموذج الذي سماها الزين ب "النموذج البريطاني المدني" الذي ترعرع في ظل الاستقلال. وهو نموذج وطده قانون الجامعة لعام 1956 الذي كفل استقلالية الجامعة. فقد عقد لها القوامة على نفسها في اختيار الطلاب وتعيين هئية التدريس والموظفين ووضع المناهج ورسم خطة البحث وتحديد أوجه صرف ميزانيتها. وحرص القانون على تمكين مجلس الأساتذة في هذه القوامة على حساب مجلس الجامعة، وبه أعضاء معينون من قبل الحكومة، لخشية أن يتطفل المجلس على باطن الجامعة.
من المعلوم أن نظام 17 نوفمبر لقي الأمرين من طلاب جامعة الخرطوم. وبدلاً من أن يواجه النظام مصيره مع خصوم ذوي خلاف سياسي معه قرر أن يجفف تلك الخصومة باقحام نفسه في إدارة الجامعة بتعديل لقانونها في 1960. فجعل التعديل الفريق عبود راعياً للجامعة بحكم منصبه كرئيس للدولة. وهذه عودة بالجامعة إلى أيام كان الحاكم العام راعياً لكلية غردون بحكم المنصب إلى ما قبل 1955. وكان قانون 1956 قد نزع رعاية الجامعة عن رئيس الدولة بالكلية في حين أعطاه حق اختيار الراعي لسنوات ست.
وجعل تعديل قانون الجامعة لسنة 1960 تعيين المدير من سلطة راعي الجامعة. ولمجلس الجامعة حق أن يستشار في الأمر (ويٌخالف). وهذا عكس لآية قانون 1956 الذي يٌعين فيه مجلس الجامعة مديرها مستشيراً راعي الجامعة. وهكذا جرد نظام عبود المجلس من صلاحية أساسية وجعل منصب المدير أدخل بالدولة منه بالجامعة. وبوسع رأس الدولة بالطبع أن لايستشير المجلس. ومن رأي الزين أن نظام عبود أبعد النجعة في التحكم في الجامعة بما لم يقع للإنجليز أنفسهم. كما أعاد النظام تشكيل مجلس الجامعة لتكون للحكومة فيه الغلبة في الأعضاء. وأعطي القانون المجلس حق اختيار مندوبي الخريجين فيه علماً بأن المجلس حكومي الهوى. ومحصلة كل هذا أن ضرب النظام حكم الجامعة لنفسها بنفسها، كما أراد لها قانون 1956، في الصميم. وما اكتمل هذه التطفل الحكومي على الجامعة حتى صدر عن مجلسها القانون رقم 9 في 1960 يحجر على اتحاد الطلاب أن يدلي بدلوه في المسائل القومية. ولم يقبل به الطلاب فحلت الجامعة الاتحاد الذي عاش في السرية حتى عام 1963.
أما عن سلطات وزير المعارف في الجامعة فقد ظلت غامضة قياساً بالوضع في الجامعة المصرية سوى أنه يزكي لراعي الجامعة من سيكون مديراً لها. وزج النظام بوزير المعارف في شأن الجامعة عودة إلى عام 1944 حين كان مدير مصلحة المعارف عميداً لكلية غردون. وغموض وظيفة الوزير ربما كانت مقصودة أراد بها النظام تنفيذ مشروعه للهيمنه على الجامعة بالقطاعي اعتماداً على أن وزير المعارف كان عسكرياً وتكفيه حاسته للضبط والربط ليتصرف في الجامعة بما يحيدها في الصراع السياسي.
ارتد نظام نوفمبر بالجامعة إلى نمط إداري إستعماري كانت قد تركته من ورائها وهي تتدرج في درب تطورين دراميين: تحولها من كلية جامعية إلى جامعة وتنسمها عبير الاستقلال الذي سيفسح لها ويمكنها من إدارة نفسها بنفسها. وارتكب النظام هذه الأذية للجامعة لا لشيء سوى استبداد هاجس الأمن به لا غير. فقد تورط في إدارة الجامعة بينما لم يكن يطلب أكثر من كف أذى الطلاب السياسي عنه. فلم يٌعرف عنه أنه تدخل في تعيين الأساتذة ولا وضع المناهج ولا تصريف ميزانية الجامعة. ولما تفجرت ثورة أكتوبر من جامعة الخرطوم كان استقلالها شاغلاً ثورياً كبيراً جرت به أنهر ميثاقها وعكفت بهديه اللجان لتحسن قانون 1965 ليمنح الجامعة استقلالاً ما حصل. وما كادت اللجان تفرغ منه حتى قام انقلاب مايو 1969.
قل لي بربك يا صاح أين حيدة الخدمة المدنية وحفاظ نظام عبود عليها. فسوءة النظام الكبرى خلال استيلاء هاجس الأمن عليه أنه أشعل فتيل الفتنة بين الطلاب وإدارة الجامعة (وهي من خيار الأساتذة) حول أشياء ليست في أصل وظيفة الجامعة. وكنت شاهداً على ذلك خلال عملي باتحاد الطلاب في تلك السنوات العجفاء. وأكثر من شقي بهذه المواجهة الرجل الفاضل العذب الدكتور النذير دفع الله مدير الجامعة خلال ثورة اكتوبر. رحمه الله. وتلك قصة أخرى.
عن تطهير سر الختم الخليفة: البربري دا طبعاً ما ممكن يديك الحقيقة
قرأت بكثير من الأسف كلمة للدكتور حسن أحمد إبراهيم، أستاذ التاريخ بجامعة الخرطوم سابقاً وبالجامعة الإسلامية بماليزيا حالياً، ينعى فيها خاله المرحوم سرالختم الخليفة، التربوي ورئيس ورزاء دولة ثورة أكتوبر (سودانايل 17 مارس 2006). ما تأسفت له أن كلمة حسن اقتصرت على ما لقيه المرحوم من عنت على بداية عهد انقلاب مايو. وحياة الرجل أعرض وأذكى وثمرها مما يدنو قطافه لمؤرخ في تمام تأهيل مثل حسن. وأسفت أيضاً لتلميح حسن أن خاله لقي الأمرين من الشيوعيين. فهو يذكر أولئك الذين خرجوا في مظاهرات عام 1965 يهتفون: "يا خرطوم ثوري ثوري خلي خليفة يلحق نوري." وسماهم أهل "الأجندة الحزبية الضيقة" و"بعض الحزبيين قصيري النظر". وياهم الشيوعيين ذاتم. لست أخفي أننا استنكرنا حل المرحوم لمجلس وزراء ثورة اكتوبر الأول تحت ضغط الأحزاب وإلحاحها قبل أن يكمل دورته. وهذه هي الملابسة التي نحتنا فيها مصطلح "نكسة أكتوبر." وددت شخصياً لو أن المرحوم لم يبق على رأس مجلس وزراء أكتوبر الثاني الذي تغير تكوينه ومحتواه كثيراً إبراء للذمة. ولا أعتقد أن المرحوم ممن يستحق أن يمثل ب "نوري السعيد"، طاغية العراق. ولكنها شعارات مغلوبين على أمرهم. وكنا نعلم أن كفة توازن القوى مالت لغير صالحنا: أحياناً لأخطاء منا ربما. وبلا جريرة في أغلب الأحيان لأن هناك من كرهوا أن يستمر فينا مجلس للوزراء في وسامة مجلس ثورة اكتوبر الأول. وهو ظل آخر وقف ما زاد. وتاريخ هذه الفترة غامض لم يتناوله حسب معرفتي مؤرخ شاطر بعد على أنها الفترة القصيرة العذبة التي تسنم فيها حلف القوى الاجتماعية الجديدة الحية دست الحكم لأول مرة وآخر مرة.
هذا ما أسفت له. ولكن ما أزعجني تلميح حسن إلى أننا في الحزب الشيوعي قد انتهزنا فرصة انقلاب مايو وطهرنا المرحوم الذي شغل منصب سفير السودان بالممكة المتحدة. ومع أنه خص رئيس الوزراء ووزير الخارجية السيد بابكر عوض الله بواقعة الفصل إلا أنه جعله أداة لجماعة كانت لها غصة من مواقف المرحوم المشرفة فتربصت به فطهرته. وهي لابد تلك الجماعة من قصيري النظر ونحوه التي ذكرها.
واتيح لي من بعد أن اقف على بعض تفاصيل واقعة تطهير سر الختم من الجزء الأول من كتاب الأستاذ علي ابو سن " المجذوب والذكريات" (القاهرة 1997). ولو صدقت هذه الوقائع لجلل العار وجوه جميع من اتصل بمايو الأولى بسبب حتى نحن الشيوعيين الذين لم نألوا جهداً في تمييز أنفسنا عنها في شغل لم يسفر تاريخه بعد. وليس مصدر استنكاري الأكبر هو التطهير. فقد كان هذا وما يزال كيد أفندية. ولم يكن تطهير ثورة أكتوبر كيدي مع ذلك. ولم يقع ذلك لأن ثوار أكتوبر فوق الضغائن بل لأنهم لجموه بالقانون. وقد توسع السيد شوقي ملاسي، عضو لجنة من لجان التطهير في أكتوبر، في وصف ضبط القانون لذلك التطهير في كتاب ذكرياته المسمى "أوراق سودانية" (2004). تلقت هذه اللجان بلاغات عن الفساد في عهد الفريق عبود فحققت فيها وبرأت ساحة من لم تثبت عليه تهمة بما فيهم اللواء المقبول الأمين الحاج عضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة. بل قال ملاسي إنه خلافاً لما اتفق للناس فالذي تشدد في التطهير هو المرحوم محمد صالح عمر ممثل الأخوان المسلمين في اللجنة. وكان السيد احمد سليمان (المظنون فيه تشدد الشيوعيين)، لين الجانب.
المعيب في تطهير سر الختم الخليفة هو ما خالطه من روح ثأرية جزافية لا ضابط لها ولا رابط. فقد قال أبو سن، الذي ربطته علائق سياسية مع بابكر عوض الله في الحزب الوطني الاتحادي ثم في حركة القوميين العرب، إن بابكر استدعاه من موقعه الدبلوماسي في لندن ليعينه وكيلاً لوزارة الشباب المستحدثة. وكان هذا منه غطاء. فما كان يريده منه حقاً فهو أن يتخذ من المنصب قاعدة لبناء التنظيم السياسي لانقلاب مايو (ما حأقول ثورة لو شنقتوني. نحن كده). واتضح لأبي سن أن كل ذلك لم يكن غرض الاستدعاء. كان مولانا يريد أن يستخدمه ضد سر الختم سفيرنا بلندن. وجاء أبو سن والتقى بمولانا. وانقل من كتاب أبي سن نص ما جرى بينهما:
بادرني بابكر: ماذا يفعل سر الختم الخليفة؟ هل ما زال يمارس مهام السفير. كيف؟ لماذا؟ لقد رفتناه. هل ما زال يسكن في مقر السفير؟ ماذا تفعل وزارة الخارجية؟ تلفون . . هالو يا جمال (محمد أحمد)، وكان ووكيل الخارجية، معاي علي أبوسن قال لي إنو سر الختم الخليفة لسه ماسك السفارة إنت تقول لي ما ماسكها؟ اهو علي معاي . . تعال اسمع كلامه). يقفل الخط.
وفي إنتظار جمال سأل أبو سن مولانا عن من هو الرأس المدبر للانقلاب. وتعذر مولانا بالعمر دون تصدره لمهام مثل الانقلاب تحتاج إلى طاقة شابة. ودخل جمال محمد أحمد. تغير وجه بابكر. جمال، كالعادة هادئ وكبير. بابكر لجمال: اهو قدامك أسأله. جمال لبابكر: بس ..يعني علي حيقوليك شنو. . يا مولانا؟؟ بابكر ينظر إليَّ ساخراً ويقول لي: البربري دا طبعاً ما ممكن يديك الحقيقة . . . . وأصدر وزير الخارجية تعليماته إلى وكيل وزارة الخارجية ليأمر سر الختم الخليفة بعدم دخول السفارة ومغادرة منزل السفير فوراً. قلت له يا مولانا! مغادرة السفراء لها نظام وبروتكول. لابد أن يقوم السفير بتوديع السلك الدبلوماسي. رد علي باقتضاب: كلام فارغ! وحينما علمت الخارجية البريطانية بتصرف حكومة الانقلاب عرضت على سر الختم الاستضافة أو اللجوء الساسي ولكنه لم يقبل. توقف عن الحضور إلى السفارة ولكنه بقي في منزل السفير حتى غادر لندن بطريقة طبيعية.
هذه قصة حزينة أخرى للتطهير في انقلاب مايو. وسيتعذر على أولئك الذين كرهوا من مايو التطهير والتدني بالروح في الخدمة المدنية نسبتها إلى الشيوعيين بحال من الأحوال. فقارئ كتاب أبي سن سيجد أن جذور واقعة تطهير سرالختم جاثية في سيرة مولانا بابكر من لدن ثورة أكتوبر 1964 حتى استقالته من رئاسة القضاء في 1965. وليطلبها من أراد ذلك في مظانها. بل أن واقعة تطهير أساتذة جامعة الخرطوم (البروف عبد الله الطيب وآخرين) ما تزال مجهولة المؤلف واكتفى الشيوعيون من جناح عبد الخالق باستنكار ارتكاب مايو لها من وراء ظهرهم أي من غير شورى الثوريين الآخرين في الحلف. وهذا قريب من قولهم عن 19 يوليو: تهمة لا ننكرها وشرف لا ندعيه.
لم أرد بهذه العودة إلى موضوع التطهير في عهد مايو تجريم أحد ولا تبرئة أحد. فقد كانت مايو التي عشت سنواتها حتى انقلاب 19 يوليو 1971 فترة عاصفة أخذتنا على حين غرة فاضطربنا فيها (بقدر ما كان بيد أي منا من سلطة ونفوذ) بين الباطل والحق. وكثيراً ما أويت إلى فراشي إلى يومنا هذا مثقلاً بذنب جنيته بحق أحدهم في تلك الأيام. أذكر أنه جاءني رفيق من طلاب جامعة الخرطوم منزعجاً بعد تطهير الأساتذة وقال لي لقد حصرنا الطلاب وأحرجونا حول هذه المسألة فماذا نفعل. فقلت له بما هو قريب من التأنيب: "أليس بوسعكم الدفاع عن هذه الخطوة؟ أيخذيكم الأخوان المسلمون؟" ولم يكن هذا راياً يشفي غليل السائل بل تهرباً من موقف صعب لا علم لي به. ولم نكن في أحسن احوالنا. فلم تكن مايو حقيقة سياسية مقطوعة عنا. فقد اقتحمت أسوار الحزب وقسمته فأختلط الحابل بالنابل. بل كنت تجدنا في غالب الأحيان مشغولين عن رداءات مايو العديدة بتأمين موقعنا في وجه رفاق ضالين هم أقرب إلينا من حبل الوريد. فمن المؤسف أن استقر دور الشيوعيين في مايو على دور "الخائن". وهو ليس كذلك. وهناك من يرغبون في تطويل هذه الصورة عن الشيوعيين دون غيرهم من صناع مايو لأنه الحزب (القديمة!) ذو الخيار التاريخي لأجل الكادحين والنهضة الوطنية الديمقراطية. وكلما جرجروه في طين رذائل الأفندية من البرجوازيين الصغار والكبار في "ثوراتهم" المزعومة كلما تناقصت فرص وعده الحق.
في حكاياتنا مايو: حين طلب هاشم العطا العفو والعافية من إبراهيم دقش
يصادف غداً الأحد الذكرى التاسعة والثلاثين لانقلاب 25 مايو 1969. ولا تزر وازرة مايو إلا وَزِر الشيوعيون. لم ينفعهم طول تنفيهم من مايو لحمل الناس إلى غير عقيدة أن الانقلاب شيوعي المنشأ. فسيك سيك معلق فيك. ولم تنجح كتب في وسامة كتاب المغفور له الدكتور محمد سعيد القدال المعنون "الحزب الشيوعي السوداني وانقلاب مايو" (1986) في فض اشتباك الانقلاب والشيوعيين. وهذا التشبيك الذي لا خلاص منه تاريخ كاسد ضرير. ولا أقول هذا راثياً (عاميتها: راتياً) للشيوعيين. فهم من أسوأ من يتعاطى التاريخ. وقد أخذت عليهم إسقاطهم ذكر السادة أحمد سليمان وعمر مصطفى المكي وغيرهما من عرض سيرة حزبهم في عيدهم الأربعيني في 1988 . وقلت لهم إنكم حركة تاريخية وستكون خسارتكم هي الأفدح إذا دغمستم التاريخ وحرفتم كلمه. وعليه فدعوتي للتمييز بين مايو والشيوعيين دعوة مهنية محض نريد بها لتاريخنا أن لا يكون علم شماتة وإخذاء وتبكيت بل وعياً نترحل به عن الماضي إلى الحاضر والمستقبل.
أجد ( كناشط سياسي تام النصاب يوم وقع الانقلاب) أن من أشق الأمور على نفسي تحميل الناس لنا،نحن الشيوعيين، مغبة التطهير الذي دمغ الانقلاب بخرق حقوق الإنسان. وهي تهمة على العواهن ما تزال بعد نحو أربعين عاماً لم ينهض عليها دليل مادي دامغ. لقد كان الشيوعيون ضمن جماعات عديدة انشغلت بالانقلاب. ففي جامعة الخرطوم وحدها نشأ تنظيمان للأساتذة الاشتراكيين. وكان دا ما بريد دا. وكان التنظيم الذي ضم الدكاترة عون الشريف وعبد الوهاب بوب وبشير عبادي هو الأقرب لأذن الحكومة بعد استرابة الشيوعيين في مايو وهم فيها. بل كان الشيوعيون أنفسهم أجنحة من قولة تيت. فهناك شيعة أستاذنا عبد الخالق محجوب الذين انصاعوا لإرادة أغلبية اللجنة المركزية بالتعاون مع النظام في وجه خطة عبد الخالق التي دعت لتركه وشأنه. وكان هناك بين هؤلاء وهؤلاء. واضطربت أنا شخصياً بين بين حتى استردني أستاذنا من البلبلة. باختصار كانت الساحة غاصة بمراكز سياسية. بل ظهرت مركز لم تكن في الحسبان أغراها السلطان الجديد. وكان لكل هذه القوى أجندتها وتصورها لما يكون عليه النظام "الثوري" الجديد ومنازل الأفندية فيه. ولم اقرأ بعد بحثاً علمياً يعالج صراع هذه القوى ووقائعها ويقوم تأثيرها في سائر قرارات النظام بما في ذلك التطهير في الخدمة المدنية.
لم انتزع الوقت بعد للكتابة عن هذه المادة بعد درس وتمحيص. ولكنني بدأت ألاحظ الدور البارز للسيد بابكر عوض الله في حملة التطهير المايوية في ما قرأت من مذكرات وكتابات أخرى تيسرت في السنين الأخيرة. وقد انزعجت لصورة بابكر التي رسمتها وقائع التطهير التي كان رمح حربتها. فهو لا يتورع عن تطهير زملاء مهنة مرموقين غير واضح ذنبهم للعيان. وهو في أحوال أخرى يختزن مرارت يظن المرء أنها مما يتجاوزه من كان في سنه وتدريبه في فروع القضاء والتشريع في الدولة.
فالمعروف أن بابكر طهر نحو 13 قاض عدلاً منهم 5 بالمحكمة العليا. وقد أغم هذا الفصل الناس لأن ذلك الجيل الأول من القضاة كانوا كالنجوم واشتهروا بالمعرفة والقسط. فقد روى الأستاذ شوقي ملاسي في كتاب مذكراته كيف سخط على قرار بابكر حتى من أيدوا الانقلاب بغير تحفظ. فقد طلب السيد فاروق أبو عيسي، وزير شئون الرئاسة وصديق بابكر، من الأستاذ شوقي ملاسي أن يرتب له لقاء مع المحامين ليتداول معهم حول موقف الحكومة وآفاقها. وتحول اللقاء إلى حساب دقيق لفاروق (ومنه لبابكر) حول تطهير القضاة الجزافي. وقال ملاسي إن فاروق خرج من ذلك الاجتماع وقد قر في ذهنه أنه شرب مقلباً دبره له ملاسي. وانعكس ذلك سلباً على مودتهما.
وروى الدكتور إبراهيم دقش (وسنعود لقصته هو نفسه مع بابكر بعد قليل) كيف لقي نميري. وحكى الرئيس أنه في أول عهد الانقلاب جاءه بابكر بقائمة قضاة يريد تطهيرهم. فقال له نميري إنه لا يعرف من القضاة إلا مولانا عبد العزيز شدو الذي درس معه بمدرسة حنتوب. وسرعان ما قال له بابكر إنه سيدرج اسم شدو ضمن قائمة الفصل. ولمّا مانع نميري هدد بابكر بتقديم استقالته. وهي قصة تحتاج إلى مثن لصدورها عن نميري بالطبع.
ولربما خف غلواء تحميل الشيوعيين وزر تطهير مايو جملة واحدة متى توقفنا عند حالات التطهير وزارة بعد وزارة بل متى جردنا المطهرين حالة بعد حالة. فقد روى دقش في كتابه الموسوم "في حكاياتنا مايو" معاناته مع التطهير في بداية انقلاب مايو. ولن تجد في ما رواه تذنيباً واضحاً صريحاً للشيوعيين بالتطهير. خلافاً لذلك تجده يثني على مروءتهم خلال محنته وما بعدها بما يدخل في عداد الشعر.
فقد تم فصل دقش من هئية توفير المياه والتنمية الريفية مع آخرين في ملابسات ضغط "ثوري" في أشهر الانقلاب الأولى. وتشتم رائحة شيوعيين ونقابيين من وراء هذا الضغط للتطهير. ولم ترد في القصة أسماء الناهضين بالتطهير ولا ولاءاتهم. ولكن دقش اهتم بذكر فساد بعض من طالبوا به مما يصعب تصنيفهم بين شيوعيّ ذلك العهد بسهولة. غير أنه من الواضح في القصة أن من سعوا لتطهيرهم كانت لهم مآخذ لأنهم أصلاً منتدبين من وزارات أخرى. فهم لم يفصلوا بل أعيدوا لتلك الوزارات. وربما كان من وراء مطلب تطهيرهم الضيق بهم كضيوف ثقلاء. ثم انتهى الأمر بإرجاع الوزير عثمان أبو القاسم لهم لاحقاً للهئية ما عدا دقش الذي تحول إلى وزارته القديمة: التربية والتعليم.
واكتسبت قصة محنة دقش في وزارة التربية والتعليم تفاصيل برأت ساحة الشيوعيين (من جناح عبد الخالق) من سوء الزمالة كما كشفت عن نهج بابكر في التصرف الجزافي في حقوق العاملين. فقد سعى الدكتور محي الدين صابر، وزير التربية والتعليم، ليبعث بدقش إلى لندن مساعداً للملحق الثقافي لسابق مودته له بصحيفة الزمان التي كان يصدرها الأستاذ عبد العزيز حسن في الخمسينات. وكانت دارها بطرف السوق العربي على جهة كلية الطب. وعاد محي الدين يراجع القرار لأن نقابات المعلمين قد لا ترضى. فذهب دقش إلى قادة اتحاد المعلمين وهم الأساتذة عبد الله علي عبد الله ، نقيب المعلمين، ومكاوي خوجلي، سكرتير الاتحاد، فقالا له إنه لا اعتراض لهما على شخصه أو قرار الوزير. بل ذهب عبد الله بنفسه للوزير بحسب طلب دقش وبارك الخطوة. ولما طلب الوزير من دقش في يوم آخر أن يأتيه بموافقة مكتوبة ذهب لثلاثة أيام طوال يبحث عن ضابطي اتحاد المعلمين بدار الاتحاد بمدرسة الخرطوم شرق فلم يجدهما. وأشفق عليه رفيقنا الجنتلمان صالح خليل سكرتير العلاقات الخارجية بالاتحاد. ووصف دقش المشهد كما يلي:
وقلت لصالح ما عندي بوضوح والرجل يعرفني حقاً فعبر لي عن أسفه أن أتردد على مقر اتحاد المعلمين لثلاثة أيام دون نتيجة. وأخيراً ضاق هو مثلي فيما يبدو فطلب مني أن أقص عليه الرواية. وقد فعلت فأنفعل قائلاً: "أصدقك. فمادام الرجلان (ويعني النقيب والسكرتير) قالا ما قالاه أمام الوزير وحضورك فنحن لا نعرف التعامل بلسانيين أو وجهين. فتدخلت هنا وقلت له: حماية لك كسكرتير للعلاقات الخارجية في اتحاد المعلمين أنا على استعداد لرد مكتوبكم للوزير متى أنكر الطرفان المعنيان ما قالاه. وقبل هو ذلك كوعد شرف. ومن ثم كتب أمامي ما طلبه الوزير صادراً من اتحاد المعلمين. وأفهمني أنه سيتحمل تبعات المواجهة والمحاسبة إذا دعا الحال (وهذه محرية في أبي خليل: يا أيها الجبل الأشم). ومن ثم كتب لي ما طلبه الوزير وأكبرت في الرجل حميميته ووعدته بأنه متى ما ثبت له عكس ما أفدته به فأنا متنازل عما طلبت. وأخذ الرجل كلمتي في وقت ندر فيه الصفاء والوفاء."
واجتاز دقش عتبة الرفاق الشيوعيين ولسانه كما رأينا يلهج بمروءتهم. ولكن جاءته الطامة من بابكر نائب رئيس مجلس قيادة الثورة ووزير الخارجية. فبينما كان دقش يمني نفسه الأماني بعودة إلى لندن، التي عرفها مبعوثاً، طاشت بأحلامه برقية من بابكر تقول له إنه لا يشرف ثورة مايو أن يكون لها وجهاً في الخارج. وتلتها برقية أخرى من وزارة التربية تقول إنها قد جمدت وظيفة لندن لأجل غير مسمى لعدم الاعتماد المالي. ومضى دقش يفتش عن سبب غضبة بابكر عليه. فوجد أن محي الدين قد زار بابكر في الشأن. ففتح الأخير درجاً أيمناً وأخرج له ملف دقش "الأسود". وكان فيه قصاصات من صحف. في الأولى مناظرة بين دقش والرفيق الحاج عبد الرحمن، نائب سكرتير اتحاد العمال، حول إضراب عمال هئية توفير المياه. وحوى بياناً وضح فيه دقش، السكرتير الإعلامي بالهئية، الموقف الرسمي من الإضراب. أما القصاصة الأخرى فقد حوت مقالة لدقش (جريدة الناس 1965) انتقد فيها تعليقاً سلبياً لبابكر عن ثورة أكتوبر. وكان من رأي دقش أنه لا يحق لبابكر لوم أكتوبر لأن أمانتها جاءته فردها, فقد كان بابكر أول من رشحه الناس ليكون رئيساً لوزراء حكومة الثورة فرفض. وفي السياق نفسه فهناك مقالة أخرى (جريدة السودان الجديد 1968) قسا فيها دقش على بابكر الذي كان يزمع ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية في 1968 ضد الزعيم الأزهري والإمام الهادي. وتعجب دقش لحرص بابكر على هذه القصاصات وسأل الأستاذ عثمان حسن أحمد الكد، المعروف بالصبر على جمع الوثائق، عمن عساه جاء بهذه القصاصات. فقال عثمان إن فاروق أبو عيسى، وزير شئون الرئاسة، اتصل فيه وطلب منه توفير هذه المقالات ففعل.
وبقية القصة طريفة جداً. وحكى دقش فيها عن مجريات مسألته مع بابكر وتداولها في مجلس الثورة والوزراء وفي ما بينهما. وأترك للقارئ أن يطلبها حيث هي في كتاب دقش. واستوقفني منها مشهد مع ذلك لدقش مع المرحوم هاشم العطا زعيم انقلاب 19 يوليو القتيل. فقد لقيه بعد خلعه من مجلس قيادة الثورة في نوفمبر 1970. وقال دقش إن هاشم، وكان يقود سيارته،أوقفه عند حديقة الموردة. ولدهشته طلب منه هاشم العفو والعافية لأنه أخطأ التقدير وصدَّق مطاعن بابكر فيه حين عرضوا المسألة على مجلس الثورة. وقال دقش :" أذكر كلماته التي كانت تخرج من بين أسنانه : "لو حسمنا قصتك معه لما كنا خارج اللعبة الآن."
قصوا أحزن قصص التطهير وستحرركم من الباطل وتورثكم الحق والسداد.
خبرك خبر يا مذكرة الشفيع أحمد الشيخ عن الإدارة الأهلية (1965)!
انتهزت سانحة حديث الدكتور أبو شوك عن مذكرة رفيقنا المرحوم الشفيع أحمد الشيخ عن الإدارة الأهلية (1965) في مقالاته الأخيرة عن تاريخ الانتخابات في السودان، فطلبت منه أن يبعث لي بنصها. وفعلها الرجل الأرباب الورّاق الذي لم يقل "لا" قط إلا في تشهده. ومذكرة الشفيع سارت بها الركبان وأصبحت مثلاً في الإسراف السياسي حذارى أن نقول الطيش السياسي. فمحنتنا السياسة في أرياف السودان وهامشه الزمنة مما تنسبه الصفوة السياسية إلى تلك المذكرة التي ذاع أنها أمرت بحل الإدارة الأهلية. ووقع الحل الفعلي في 1970 في طور نظام نميري اليساري. وهكذا أصبح اليسار ملعوناً في نظر النادي الصفوي لأنه حل الإدارة الأهلية "غفيرة" الريف وترك الحبل على الغارب. وعينك ما تشوف!
وأصبح النظر في "عنف البادية" السودانية يبدأ عند لعن اليسار والمطالبة بإصلاح خطئه بعودة الإدارة الأهلية عودة ناجزة. كم مرة سمعت هذا القول ايها القاريء الكريم؟ ربما أخطأ اليسار ولكن أليس من حيلة العاجر أن تكون مؤسسة جرى حلها عن طريق الخطأ (ونقول بهذا جدلا) ستنزل برداً وسلاماً على بلدنا متى عادت بعد 40 عاماً؟ دا حصل وين يا جماعة الخير! هذه مجرد أضغاث استغنت عن التحليل العياني للمؤسسة (باستقلال عن تذنيب من حلها) لتتيقن بصورة جديدة عن نفعها متى عادت. ولأننا لم نقم بهذا "الجرد" الفكري ظللنا نعيد هذه المؤسسة أو نخترعها مرة بعد مرة والحال في حالو.
أردت أن أحصل على نص مذكرة الشفيع لأنني لا أذكر أنني قرأتها نصاً. ولي ذكريات بالطبع عنها مما دار من جدل حولها وحول ما تفعله ثورة أكتوبر للإدارة الأهلية في سعيها لديمقرطة الريف. وهذه الدمقرطة هي عصب تجديد الوطن على نهج وطني ديمقراطي. وسأتطرق لهذه الذكريات متى عدت لصحافة الفترة وقرأت المادة المنشورة في هذا الباب. فلا يكفي أن نقف عند طلبنا معرفة موقف اليسار من الإدارة الأهلية بمذكرة الشفيع. فهي مذكرة خضعت لنقاش طويل في الوسط الحكومي وغير الحكومي. وربما خفف هذا النقاش من غلوائها أو زادها طيشاً كما يزعم خصومها.
واتفق لي أن أبدأ بعرض هذه المذكرة أولاً ثم التعليق عليها وعلى ذيولها السياسية في ما بعد.
كتب الشفيع المذكرة بتاريخ 21 يناير 1970 بصفته وزير شئون الرئاسة لحكومة ثورة أكتوبر الأولى برئاسة السيد سر الختم الخليفة. وجاء الشفيع لموقعه الوزاري منتخباً من نقابات العمال لتمثيلها في جهاز الحكم بعد نجاخ ثورة أكتوبر. وكان هذا التمثيل بمثابة عرفان لدور العمال المشهود الطويل في القضاء على نظام 17 نوفمبر ودولة الفريق عبود.
تكونت مذكرة الشفيع من خطاب منه إلى سكرتير مجلس الوزراء بتوقيعه هو كوزير لشئون الرئاسة. وكان موضوع الخطاب هو مقترحه لإعادة النظر في الإدارة الأهلية. وجاء الموضوع في 5 أبواب هي 1) مقدمة تاريخية عن نشأة الإدارة الأهلية، 2) وضع الإدارة الأهلية الحالي، 3) سلطات وواجبات الإدارة الأهلية، 4) نظرة إلى فساد الإدارة الأهلية بجمعها السلطات القضائية والإدارية (أي أن يكون الناظر مثلاً إدارياً يجمع الطلبة وقاضياً يحكم بالسجن والغرامة)، 5) ثم التوصيات بما ينبغي فعله بالإدارة الأهلية.
شمل خطاب الشفيع لسكرتير مجلس الوزراء عرضاً موجزاً لسيل الشكاو من جور الإدارة الأهلية التي وصلته من جماعات عديدة.. فقبيلة البني عامر تطالب بإقصاء ناظرها مكرراً وقد سعت إلى ذلك قبل قيام ثورة أكتوبر. وشكوى من قبيلة الرزيقات يطلبون حق اخيتار زعاماتهم وتعيين قاض للفصل في النزاعات. وشكوى أخري من كنانة أبي جبيهة بالجبال الشرقية بالنوبة ضد عمدتهم المفروض عليهم بواسطة نظام الفريق عبود المباد. ومطالبة من عمودية ود راوه لينفصلوا عن مجلس ريفي رفاعة الشكرية. وتلغرافات من أبناء دنقلا يطالبون بإقصاء ناظرهم القبلي.وكذلك تلغرافات من القضارف تطالب بإزالة نظارة ود بكر. كما طالبت جماعة المعاليا بالانفصال من إدارة الرزيقات. كما تعرض الخطاب ل "ثورة ودحامد" ضد شيخ خطها بما أقنع القاضي المقيم بشندي بإغلاق محكمته. ثم شكوى من عمودية حمدنا الله بمركز سنار تستنكر إبعاد عمدتهم المنتخب وتعيين عمدة عليهم. وكانت هذه المادة وغيرها في الاحتجاج ضد الإدارة الأهلية نصب عين مذكرة الشفيع لتغيير نظامها.
ونستعرض فصول المذكرة "الملعونة" في حديث قادم.
مذكرة الشفيع أحمد الشيخ عن الإدارة الأهلية (1965): إلا شقي الحال يقع في القيد
قرأت ما قاله الأستاذ عبد الرحيم حمدي لجريدة الرأي العام (30 مايو 2009) عن الإدارة الأهلية. ووجدت فيه مصداقاً لقولنا المجانين كتار ولكن شقي الحال يقع في القيد. وشقي الحال الواقع في القيد هو مذكرة المرحوم الشفيع أحمد الشيخ التي كتبها في يناير 1965 من موقعه كوزير شئون مجلس الوزراء في حكومة ثورة أكتوبر 1964 الأولى. وقد دعا فيها إلى حل الإدارة الأهلية في شمال السودان. فحمدي كان واضحاً في أنهم كانوا والشيوعيين سواء بسواء في عداء الإدارة الأهلية بعد ثورة أكتوبر. بل قال إنهم فازوا بدائرة يتيمة في دارفور لوقوفهم ضد تلك الإدارة. وقال إن من "قسسهم" لعداء الإدارة الأهلية هما المرحوم محمد صالح عمر وسليمان أبكر النائب الدارفوري عن جبهة الميثاق الإسلامي. من الصعب القول بان تنظيماً ما تبنى خطة في خطر خصومة الإدارة الأهلية محرشاً من عضوين من أميز أعضائه. الحكاية أعمق وعائدة إلى أصول في حركة الخريجين الوطنية ومزاج ريفي ديمقراطي كما سنعرض لذلك لاحقاً.
وتنصل حمدي اليوم عن حمدي الأمس. وبالطبع قال إنه لو استقبل من أمره ما استدبر لامتنع عن منازلة الإدارة الأهلية ولقبل بها أساساً في نظم الحكم السودانية. ومع هذا الموقف الصريح من الإسلاميين ضد الإدارة الأهلية فقل من يأخذه عليهم كزعزعة كبرى لموروث البلاد وأعمدتها. بل لن تجد من يؤاخذ الأستاذ على محمود حسنين (في طوره الوطني الاتحادي بعد هجره الإخوان المسلمين) وهو النائب الأعلى صوتاً في مقارعة الإدارة الأهلية. فاللوم على التعجيل "الطائش" بحل الإدارة الأهلية معلق برقبة القشيرين مقطوعين الطاريء ومذكرة شفيعهم سيئة السمعة: مجنونة وقعت في القيد دون المجانين الكثر.
لم تكن خصومة الإدارة الأهلية وساوساً شيوعياً أو إخوانياً. كان لمطلب التخلص من الإدارة الأهلية قواعده الاجتماعية في الأرياف نفسها وبين صفوة الخريجين. ولكن تاريخ الناقمين على تلك المؤسسة لم يكتب بعد. وما نقرأه عنها هو تباكي صفوة الحكم والإداريين التي لا مداخل لها للرعية سوى الإدارة الأهلية. وجعلوا من هذه الخيبة مأتماً قومياً لشق الجيوب على تضعضع تلك المؤسسة. يالبكاء الجاهلية الأولى!
اعتنت مذكرة الشفيع بتأكيد أنها دعت لحل الإدارة الأهلية استجابة لمطلب شعبي. ووفقت في بدئها بعرض سريع لمواقع شعبية ضاقت ذرعاً بالإدارة الأهلية وطالبت بحلها. ووفقت المذكرة أيضاً في إعطاء تاريخ موجز لنشأة المؤسسة لتنزع عنها هالة التقليد: "من واقعنا مامن من أكتر يا بلادي". وأصبح الرأي أن الإدارة الأهلية صنيعة استعمارية من المعلوم بالضروة في علم السياسة الأفريقي والمجتمع. وسنعرض لكتاب الدكتور محمود محمداني "مواطنون ورعايا" (1996)في حلقة قادمة. وهو الكتاب الذي ناقش غربة الإدارة الأهلية عن نظم أفريقيا الإدارية السابقة للاستعمار بصورة غنية حصل بها على جائزة الجمعية الأفريقية الأمريكية لأحسن كتاب عن أفريقيا لعام 1996.
قدمت المذكرة لغرضها في بيان أجنبية الإدارة الأهلية في ظل الإنجليز بتاريخ لها عاد بنا إلى عهد الفونج. وهذه حيلة فكرية للقول إن نظام الإدراة الأهلية لم يكن هو ذاته في كل زمان ومكان. فهو ليس أرثاً مؤبداً كما يزعم كثير ممن نعوا ذهاب هذا النظام واشتهوا عودته ليرتق النسيج الاجتماعي الذي تهرأ من بعده.
خلاصة وضع تلك الإدارة في عهد الفونج أنها كانت ديمقراطية من جهة اختيار الجماعة لأميرها على ضوء مؤهلات في الكرم والشجاعة. وأهم قسمات حكمها أن الجماعة هي المرجع يعود لها الزعيم للشورى ولا يمكث إلا بها. وقالت المذكرة إن الأتراك خرقوا هذا السمت الديمقراطي. فقد أدخلوا زعامة القبائل في إطار وحداتهم الإدارية الأكبر وهي المديرية. واستبدلوا الزعماء الذين قاوموهم بمن خضع حتى كان من الأخيرين من أصبح مديراً لمديرية. والخلاصة أن الزعيم القبلي أصبح تابعاً للأتراك منفذاً لسياستهم في ضبط الأمن وجباية الضرائب. ولم تعد مرجعيته القبيلة بل السلطان التركي. أما المهدية فقد أضعفت النظام القبلي الذي تورط زعماؤه في ظلم الأتراك. وأنبنت المهدية على نظام مركزي يمثله محاربون مهدويون في العمالات أو المحافظات. ولم يعد للزعامة القبيلية من دور.
ثم توقفت المذكرة عند الإنجليز ونظم حكمهم. فاتبع الإنجليز من بعد المهدية سنة الأتراك في تطويع زعامات القبائل لخدمتهم هم لا أهلهم المزعومين. فقد حكموا البلد بصورة مباشرة حتى 1921 حين قرروا بناء حكم الأرياف على زعامات القبائل. فبدأوا في منح هؤلاء الزعماء سلطات قضائية. ثم مكَّن الإنجليز لهم بعد ثورة 1924. وتوجس الإنجليز شراً من بواكير الحركة الوطنية حتى قال جون مافي، الحاكم العام، في 1927 "إن تنظيم القبيلة ونفوذها وتقاليدها القديمة ما زالت باقية رغم أنها تختلف قوة ونفوذاً من مديرية إلى أخرى ولكنها ستنهار تحت تأثير الأفكار الجديدة وبظهور جيل جديد إلا إذا دٌعمت قبل فوات الأوان".
وقد اشتهر عصر الحاكم العام مافي بنشاط تشريعي وسياسي"محموم" لإنقاذ الإدارة الأهلية من حكم الأفكار الجديدة المحمولة بجيل جديد. وتراجع الإنجليز أنفسهم من "غي" مافي الشديد. فلما تصاعدت الحركة الوطنية لم يجد الإنجليز بداً من مسايرة هذا الوعي الجديد بتطوير نظم الحكم المحلي. وتوجت ذلك باستدعاء الدكتور مارشال الذي وضع قانون الحكم المحلي في 1951. ولم يحد القانون من سلطان الإدارة الأهلية مع ذلك. فقد دخلوا تلك المجالس برغم نص في القانون يحرم كل متول مسئولية إدارية وقضائية ومتقاض لأجر من الحكومة (وهذا وضع زعماء الإدارة الأهلية) من الترشيح لمقاعد المجالس المحلية. وبدا أن الإنجليز استخدموا الرخصة المكفولة بالقانون للاستثناء لإدخال الإدارة الأهلية كلها في الحكم المحلي.
وخلص التقرير من هذا العرض التاريخي إلى 1) الإدارة الأهلية التي ورثناها عن الإنجليز خلق استعماري،2) يرجع استمرار نفوذها بعد إصدار قوانين الحكم المحلي في 1915 إلى حاجة كل من الإنجليز والأحزاب السياسية لخدماتها، 3) ومع ذلك فنفوذ الإدارة الأهلية إلى محاق تحت تأثير أشكال الاقتصاد النقدي المتسعة والوعي المصاحب لها.
اليسار والإدارة الأهلية: وضعاً للأمر في نصابه
أختم في هذه المقالة عرضي لمذكرة الأستاذ المرحوم الشفيع أحمد الشيخ عن ما ينبغي لحكومة ثورة أكتوبر 1964 عمله بشأن نظام الأدارة الأهلية. وقد كتب المذكرة بصفته وزبر شئون الرئاسة بمجلس وزراء الثورة ممثلاً لنقابات العمال. وقد أصبحت هذه المذكرة "نعلة" (لعنة) لليسار لأنها وصت بحل الإدارة الأهلية. فصفوة الإدارة ترد "الفوضى" المزعومة في الهامش السوداني إلى تلك المذكرة التي أخلت الريف من حارسه وهم النظار والعمد والمشائخ فأضطرب ولم ينصلخ بعدها أبداً. وقد تجدد ذكر هذه المذكرة بفضل الدكتور الورَّاق أبو شوك. فهو لم يأت بذكرها في كتابة عن الانتخابات السودانية (بالاشتراك) فحسب بل وفرها لمن طلبها بأريحية. فعلها معي. وكتب علي جمَّاع (أفضل إداريينا احتكاكاً بالريف ومجالس صلحه) أنه حصل على نسخة منها ببريده الشبكي من أبو شوك المسافر العابر وقتها بمطار طوكيو.
أريد في هذا العرض الأخير أن أحدس من هو الباحث الكامن وراء الوثيقة. كما أريد تجديد زعمي الذي فاتحت به أبو شوك أول مرة وهو أن مجلس وزراء أكتوبر لم يقبل بمقترح مذكرة الشفيع بحل الإدارة الأهلية في شمال السودان قاطبة بغير فرز. أما الكاتب الكامن فقد بدا لي أنه الدكتور المرحوم معتصم البشير أستاذ علم الإدارة بجامعة الخرطوم. وأقول ذلك كدحاً بعد أن أطلعت بصورة عامة على رسالته للدكتوراة عن الإدارة والاستعمار والحركة الوطنية. وأفكارها مقاربة لافكار مذكرة الشفيع. وأتمنى على الله أن ينهض من شباب الباحثين من يجدد ذكرى دكتور معتصم النابه بترجمة رسالته الجيدة ونشرها صدقة جارية لروح أنسان تقدمي محب لوطنه وشعبه وعلمه. أما من جهة علاقة قرار حكومة أكتوبر عن الإدارة الأهلية بمذكرة الشفيع (هل هو نسخ منها أم هو شيء آخر؟) فسأترك الحديث عنه حتى أفرغ من استعراض ما تبقى من المذكرة.
عرضت المذكرة كما تقدم لشكاو الناس من الإدارة الأهلية للحكومة ولمنشأ الإدارة الأهلية التي نعرف كبروقراطية ريفية مستبدة من صنع الإنجليز. ثم انتقلت لوصف سلطان الإدارة الأهلية في البلاد ذلك الوقت. فمن بين سكان السودان يعيش 82% تحت سلطان تلك الإدارة. وسمت المذكرة هذا السلطان ب "قبضة وتسلط بيروقراطية الإدارة الأهلية". وقالت المذكرة إن معظم النظار رؤساء للمجالس المحلية بحكم المنصب. ثم يأتى العمد وغيرهم إلى المجالس بالتعيين أو الانتخاب. وللإداري الأهلي سلطات إدارية تمثلت في تقدير جميع الضرائب المباشرة وجمعها (بمكافأة هي نسبة من ربط القبيلة الضريبي) والإشراف على الأراضي القبلية وتوزيعها على السكان. كما له الإشراف على جنائن الصمغ وتوزيعها وفض الخلاف حولها. وله ومراقبة تنفيذ أوامر المجالس المحلية مثل تطبيق الأوامر المحلية بخصوص حمل السلاح الناري والتوصية بمنح رخص الحرف والمطاعم "الأنادي". ومن مهامه بناء الاستراحات الصغيرة من المواد المؤقتة لسكنى موظفي الحكومة اثناء تأدية أعمالهم نظير مال من المجالس (وعادة ما تم هذا العمل بالسخرة). ثم تطرقت لسلطان الإدارة الأهلية القضائي. وهي محاكمة القضايا في الحدود المسموح بها من رئيس القضاء وحفظ دفاتر المحكمة.
ووضح من عرض مذكرة الشفيع لإلتزامات الحكومة المحلية نحو الإدارة الأهلية أنها جهاز بروقراطي حق. فالحكومة تبني محاكمه واستراحاته وتتحمل الجزء الأكبر من مرتبات رجال تلك الإدارة وعلاواتهم وتشرف على علاجهم وترحيلهم. ولهم حق في سلفيات المباني والعربات والركائب وعلاوة ميل وبدل عليقة. ولهم بعد التقاعد أو الموت مكآفات ولبعضهم معاش من الدولة. فالإدارة الأهلية ليست نظاماً خفيض التكلفة كما يروج أنصاره.
وركز التقرير على سوء الإدارة الأهلية من جهة جمعها لسلطات إدارية وقضائية معاً. وهذه سمة معروفة في المستعمرين ومفتشيهم. ووصفت المذكرة الإداري الأهلي المدجج بهذا السلطان بأنه ديكتاتور صغير أي حاكم عسكري على أفراد قبيلته. وهو سلطان موضوع تحت خدمة النظم الباطشة من لدن الأتراك لحشد أهلهم في مواكب البيعة والتأييد. ولم يأت معظم هؤلاء الزعماء في نظر التقرير بسبب إرث تليد بل عينهم الإنجليز تعييناً. وقال التقرير إنه طالما كان هذا النظام ممول بكامله من الحكومة فيصح أن نبحث عن بديل له أعدل واقتصادي. وتوقف التقرير بالذات عند نقطة سلطان الإدارة الأهلية الضريبي. ونبه إلى أنها مما يوظفه رجال الإدارة الأهلية لترويع الأهالي وإخضاعهم. وأثروا من الرشوة وحيازة الأرض والأنعام قسراً.
ثم انتقلت مذكرة الشفيع إلى توصياته بما ينبغي عمله بشأن الإدارة الأهلية. فخلص إلى أن نظام الإدارة الأهلية متخلف ومن صنع النظم المستبدة. وأن الإدارة الأهلية كمؤسسة بروقراطية ما تخلفت عن مسايرة تلك النظم الجائرة أبداً. وظلت ضالعة معها مستفردة بجمهرة الريف تضطهدها وتنهب ثمار كدحها. ووصى التقرير بالنظر إلى البعث الوطني الديمقراطي المتمثل في ثورة أكتوبر أن يسود بين شعبنا نظام ديمقراطي من خلال مجالس الحكم المحلي. وسيكون لهذه المجالس تقدير الضرائب وجمعها. ثم وصى بالغاء الإدارة الأهلية في شمال السودان وتوزيع سلطاتها للجهات القضائية والتشريعية والإدارية. ووصى بعقد لجان تحقيق في فساد زعماء الإدارة الأهلية وإثرائهم الحرام.
والقاريء المدقق للتقرير يجد أن الشفيع انتبه لأن ما كل ما يتمنى المرء يدركه. فقال إن توصياته التي سلفت هي "الحل الثوري بعيد المدى لكافة أنحاء القطر". واعترف بعسر تحقيق خطته في المدى القريب. ولذا فهو يقترح الغاء الإدارة الأهلية في مديريات شمال السودان وهي تحديداً النيل الأزرق والمديرية الشمالية ومديرية كسلا ومديرية الخرطوم ومديرية كردفان ودارفور. واستثنى من ذلك الالغاء المديريات الجنوبية. وترك أمر الغاء نظامها الأهلي إلى لجنة يتولاها وزير الحكم المحلي. وتوقف التقرير عند أسباب إلغاء الإدارة الأهلية في النيل الأزرق دون غيرها. فقد وصفها بأنه مغطاة بشبكة مجالس محلية لا تحيجها لزعماء القبيلة. علاوة على أن قراها اعتادت مجالس تنعقد بديمقراطية لحل كل إشكال. وزاد بأن حل الإدارة الأهلية كان يرد ضمن مطالب اتحاد المزارعين بصورة دائمة وبخاصة في مذكرته بتاريخ 17-9-1964 التي طالبت بتوسيع مواعين مجالس القرى.
إذا وثقت في ذاكرتي لقلت أن حكومة أكتوبر لم تحل الإدارة الأهلية على الصورة التي اقترحتها مذكرة الشفيع. فأذكر أنها قسمت السودان في قرارها إلى ثلاث وحدات. فاستغنت عن الإدارة الأهلية في المناطق الموصوفة بالمتقدمة في المدن والأرياف المتقدمة. واحتفظت بها في أرياف أخرى وسيطة بعد أن نزعت منها السلطة القضائية. ولم تمسسها بشيء في أرياف أخرى ربما وصفت ب "المتخلفة". فقاريء مذكرة الشفيع سيجدها ترددت نوعاً ما بغير تصريح حيال إلغاء الإدارة الأهلية في كردفان ودارفور. فقد وضعت خطاً تحت المديريتين حين قررت حل الإدارة الأهلية بهما. وهو ليس خط تشديد لأن راسم الخط أعقب ذكر المديريتين بعلامتي استفهام كمن هو غير متأكد من سلامة الغاء الإدارة الأهلية بهما. أما النقطة الأخرى التي ربما زكت لكم ذاكرتي عن الموضوع في أيامه الأكتوبرية الميمونة فهي أن المذكرة شددت كثيراً على نزع السلطة القضائية عن رجال الإدارة الأهلية. وهو تشديد لا معنى له إن لم يكن خطوة أولى لحلها على مراحل. ومتى واصلنا الحديث عن الإدارة الأهلية اتضح لنا أن تجريد الإدارة الأهلية عن السلطة القضائية مطلب قديم سبق اليسار وتبناه مؤتمر الخريجين في مذكرته الشهيرة عام 1942 وكانت أنشط أقسامه لتحقيقه هم القضاة الشرعيون. وتلك قصة سنرويها.
أردت بكلمتي هذه عن مذكرة الشفيع أن اقول إنه يستحسن بنا أن نعود إلى قرار حكومة أكتوبر عن الإدارة الأهلية لا إلى مذكرة الشفيع متى ما أردنا أن نقوم "طيش اليسار" الأكتوبري. وسيريحنا هذا من خلاف كثير كنت أنا على صواب أم على خطأ.
ياما في سجن الإدراة الأهلية من مظاليم
لا أعرف عدد المرات التي حاول أحدنا أن يقول للصحافة إن استحقاقها للحرية هو أقرب إليها من حبل الوريد. فهذا الاستحقاق في ملعبها هي بصورة دقيقة وطويلة المدى. وعلى سداد النظر لهذا الاستحقاق من جهة جحود الدولة له إلا أن حرية الصحافة هي تبعة مهنية في نهاية المطاف. وحتى أذى الدولة لحرية التعبير هو مما يستأهل جراءة مهنية وحيل. فالصحافة العاطلة تخسر في معركة حريتها ضد الدولة وتكثر من العياط.
وآخر من نقل معركة حرية الصحافة إلى ميدان الصحافة هو الأستاذ السر سيد أحمد في كلمة له عالية المهنية قبل أيام بجريدة الرأي العام (11 يونيو 2009). وقد شكوت قبله لطوب الأرض من إحجام صحافتنا من "إرتكاب" النظر النافذ الناقد لشغلها المهني. وكأني بها تنتهز سانحة لؤم الدولة البائن حيالها لتعفي نفسها من مواجهة الذات بتقويم نقصها بلا شفقة. فنبه السر إلى عاهة ضآلة المعلومة بطرف الصحفي التي تقعد به دون ملاحقة النبأ أو التصريح او الواقعة بأسئلة كاشفة.
ووجدت مصداقاً لذلك دائماً في قبول الصحافيين بعض أساطير الحكم والسياسة بغير زمجرة مهنية. وعلى رأس هذه الأساطير ما شاع من أنه لو كانت بيننا الإدارة الأهلية لما انفلت البلد وأضطربت أطرافه وهاج هامشه وماج. وعشعشت هذه المعلومة فينا كالحق لا معقب عليه. وهي مجرد وجهة نظر تحملها طائفة من السياسيين والإداريين الذين تأسس شغلهم منذ عهد المستعمرين على بلوغ الريفيين في السودان من وراء حجاب هو الإدارة الأهلية. ومن العيب أن يرتضي إداري سوداني بهذه الوكالة عن جمهرة شعبه كما ارتضاها (أو دبرها في الواقع) الإنجليز وهم الدخلاء (وكانت هذه العبارة من مصطلح الحركة لوطنية).
لم يطلب الصحافيون زواية أخرى للنظر لمسألة الإدارة الأهلية حذراً من أن تستلبهم رواية وحيدة الجانب لمأثرتها. فياما في رواية الإدارة الأهلية من مظاليم. ومتى امتنعنا عن تضمين شكواهم منها صرنا إلى رواية شكارتها دلاكتها وهو أقصر الطرق إلى إنشاء الأساطير عن المسائل الاجتماعية. ومتى صار الأمر أسطورة فحلَّالها فوق.
أنا واحد من الناس لا أشتري ما يروجه بعض الناس عن مأثرة الإدارة الأهلية ولا فرش البكاء الذي طال تجديده بين صفوة الإدارة والسياسة والفكر. عرفت من رجالها من يملأون العين. خذ عندك الأرباب الطيب مصطفى ابو حجل عمدة الكدق بالرباطاب. هذا شخص نادر. وعرفت الشيخ موسى علي التوم في الكبابيش. رجل مثقف كبير بين أهله ومن خريجي مدرسة حسن نجيلة التي أقامها في البادية. وسمعت لنوادر آخرين من رجال تلك الإدارة وهي أطرف من كثير ممن أعرف من المحدثين وأبلغ. ولكننا لا نناقش أمر الإدارة الأهلية من زواية أقدار الرجال بل اقدار النظم الإدارية. ولسنا نقول إنه ليس من بيننا من تصدى لتلك الإدارة بطيش أو بغيره وأصلحها فأفسدها ربما. ولكن ليس فينا شق الجيوب ودعاء الجاهلية. فنحن بإزاء نظام إداري تحكم في حياة نسبة 85 في المائة من السودانيين. ولا بد أن نرتقي بمساءلته فوق عادة "فتح البكاء" الذائعة.
أنا واحد من الناس لا اشتري ما تروجه الصفوة المحدثة عن فقدنا الفاجع العظيم للإدارة الأهلية لأنني نشأت من بين من أكتووا بها ووأكتويت بها شخصياً. فقد كان أهلي الشقتاب من أهل جزيرة أم درق بجهة كورتي على خلاف عميق مع العمدة الطاهر وقيع الله بجلاس. فقد شكوا أنه اقطع أرضهم بالجزيرة، بعد عودة أطراف منها بعد طول غرق بغير حق، لمن اصطفى. وتقاضينا مع العمدة أمام المحاكم منذ نعومة أظفاري حتى متى لا أدري. يكفي أننا "تورنا" أجيالاً من المحامين للقضية بدأ بالمرحوم ابراهيم المفتي المحامي حتى بلغنا الصديق يسن عطا ممن يلده إبراهيم مراراً. كانت "حِجة" الجزيرة حاضرة بين أهلي متى اجتمعوا في فرح أو كره. وبينما جمع الآخرون المال لتحسين حالهم في المدينة جمع أهلي المال لمناهضة العمدة أمام المحاكم. وربما اتبعوا وسائل أخري بحسب رواية الحاجة الوالدة جمال أحمد حمد التي لم تعد تحبنا معشر الشقتاب. فقد نسبت المرض "الكعب" الذي أقعد العمدة إلى أحدنا ممن تمرسوا في سحر الصعيد. وستجد أصداء هذه التربية المعادية للإدارة الأهلية في مسرحياتي: "السكة الحديد قرَّبت المسافات وكثيراً"
أما القصة الثانية فهي عن وكالتي عن الوالدة وأختي المرحومة قمر القسوم عن قطع أراض اشتروها في الكلاكلة بواسطة عصابة الثلاثة المعروفة التي روعت الحي. ووقفت أول مرة أمام المحكمة فإذا على منصة أعضائها الرجل الذي اشترينا منه الأرض وغشنا. وطلبت من رئيس المحكمة أن "يعفي" العضو من النظر في القضية لأنه صاحب غرض. ولا أذكر أن رئيس "محكمة الفراودة" عبرني. وانغبنت أختي قمر القسوم فقاضت في أرضها سنوات طويلة حتى كسبت القضية. وأخذت تعويضها وحجَّت به ولم تكترث لحاجتها الدقيقة لذلك المال التي أعرفها. فقد كان ظلمها حقراً وأرادت بالحج أن تزيل آثار عدوان ذلك الجور. ما تنشلللاها. وهذه عبارة الوالدة في الاستحسان.
اليسار والإدارة الأهلية: مذكرة الشفيع الما شَهَّدوها
بعد عودتي للبلاد غشيت دار الوثائق لمراجعة صدق قول القائلين إن مذكرة رفيقنا المرحوم الشفيع أحمد الشيخ في يناير 1965 هي التي صفت الإدارة الأهلية ومحَّنتنا إلي يومنا هذا لأنها استعجلت بحلها قبل تدبير البديل. وبعد تقليب صحف 1965 تبين لي أن المذكرة بريئة من تصفية الإدارة الأهلية براءة الذئب من دم ابن يعقوب. وأن دمغها بالتصفية هو "حدرة في الظلام" لليسار ممن ربما لا يطيقونه. وأنا نفسي كثيراً ما لم اطق اليسار الذي أنا منه وباريء منه في وقائع عديدة. ولكن تقتضي الرجاحة أن نفرق بين اليسار وثورة أكتوبر 1964. فكثيراً ما اقترن الزعم بفساد مذكرة الشفيع بشجب ثورة أكتوبر لطيشها من جهة تصفية الإدارة الأهلية وزعزعة الخدمة المدنية وهلمجرا. فمع الدور المشهود لليسار في الثورة غير أن الثورة كانت أرجح عقلاً وأغزر عدداً وسقفاً منه.
لم يجد اليسار ضالته من الثورة دائماً. فقد رفض مجلس وزراء الثورة (المتهم بالوقوع في قبضة الشيوعيين) مثلاً تخصيص دوائر للعمال والمزارعين. وكانت هذه بعض مشتهيات اليسار الإنتخابية وربما لا تزال. واحتجت نقابات العمال والمزارعين والشيوعيون على ذلك. ولم ينفعها الاحتجاج.
ووجدت من إطلاعي على صحافة 1965 أن مجلس الوزراء لم يتفق مع مذكرة الشفيع (21 يناير 1965) التي دعت إلى حل الإدارة الأهلية في شمال السودان وتكوين لجنة لدراسة مآلها في جنوب السودان. فقد ناقشها في اجتماعه بتاريخ 13 فبراير 1965 وأحالها للجنة. وصدر البيان التالي في صحف الغداة:
إتخذ مجلس الوزراء أمس في جلسة امتدت إلى ما بعد الظهر بعض القرارات الهامة الخاصة بتصفية الإدارة الأهلية. فقد وافق المجلس مبدئياً على فصل القضاء عن الإدارة الأهلية على أن يطلب من رئيس القضاء أن يعين الأماكن التي يمكن أن يعين فيها قضاة أو مجلس قضاة في شمال السودان وتكاليف المشروع وكل التفاصيل المتعلقة به. كما قرر المجلس تكوين لجنة لدراسة أنجع السبل لتصفية الإدارة الأهلية من مندوبين من وزارات الحكومة المحلية والداخلية والمالية والهيئة القضائية وذلك لدراسة مذكرة شئون الرئاسة الخاصة بتصفية الإدارة الأهلية على أن ترفع لمجلس الوزراء في أسرع وقت ممكن تقريراً حول سبل إنجاز المشروع والبديل للإدارة الأهلية والتوقيت الذي يمكن أن تتم فيه التصفية. وخول للجنة أن تضم في عضويتها من تريد من ذوي الخبرة الأيام (14 فبراير 1965).
وشرع وزير الحكومة المحلية المرحوم أستاذنا عابدين إسماعيل في تنفيذ القرار. وقال في صحف اليوم التالي إنه سيفرغ في اليومين القادمين من تشكيل لجنة تصفية الإدارة الأهلية. ولم يكتب لتلك اللجنة أن تقوم بالنظر إلى انتكاسة الثورة. ففي أقل من أسبوع نجحت القوى المحافظة من النادي الحاكم (الأمة والوطني الاتحادي وجبهة الميثاق الإسلامي وشيعتهم) في قلب ميزان قوى الثورة لصالحهما. ففرضا على السيد سرالختم الخليفة الاستقالة. فقد ألبا عليه الشارع والشارع الأنصاري خاصة. جابوا شوارع العاصمة شاهرين السيوف. ووجهوا المنظمات التي لههم فيها نفوذ لخلع أنفسهم من جبهة الهيئات (سوفيات الثورة) كما صرح بذلك الاستاذ عبد الرحيم حمدي. فخرج على تلك الجبهة كل من اتحاد طلاب جامعة الخرطوم ونقابة اساتذتها والبياطرة والقضاة الشرعيين. بل جاء وفد من الإدارة الأهلية إلى المدينة وهدد بالإضراب إن لم ينظر مجلس الوزراء في تظلمهم من قرار التصفية (أو وجهتها ومراميها). وطوق ساسة الأحزاب المحافظة رئيس الوزراء وأسهروه. ولم يعرف عن الرجل اشتغالاً بالسياسة أو مزاجاً لها. وجاء على رئاسة الوزارة إكراماً للجنوب الذي خبره كإداري تربوي. وكان رائي دائماً في استقالته أنها لم تأت عن رداءة سياسية. صفوة القول أنه لم يحتمل ضغط المحافظين ومكرهم اللذين لم يتهيأ لهم في حياته المهنية الرشيقة.
وما غلب المحافظون على مجلس الوزراء حتى راجعوا الموقف من الإدارة الأهلية. فنزعوا منه فتيل الجذرية اليساري الذي أراد منه أهله تحرير الريف من قبضة بيوت للحكم مكنها الإنجليز لغايات لا علاقة لها ب "الأهلية" الخادعة. وذهب بيان للحكومة نشرته الصحف يوم 29 مارس 1965 إلى تطمين رجالات الإدارة الأهلية إلى أنهم في مأمن من اليسار المنهزم. فإلى البيان الذي صدر عن وزارة الحكومة المحلية:
إشارة إلى قرار مجلس الوزراء الصادر بتاريخ 13-3-1965 (بعد مناقشة مذكرة الشفيع وتسويفها) الخاص بموضوع الإدارة الأهلية تود الحكومة أن تصدر التوضيح الآتي:
من الواضح أن بعض المواطنين قد أساء فهم المقصود الحقيقي من ذلك القرار مما أحدث كثيراً من البلبلة وتضارباً في الآراء على الأخص في المناطق المتخلفة في بعض المديريات. وقد دفع هذا الموقف المسئولين في تلك المديريات أن يلفتوا النظر إلى ذلك موضحين بعض نتائج تلك البلبلة التي حدثت بالفعل والتي ينتظر أن تحدث إن استمر ذلك الفهم الخاطيء. وعليه فقد رؤي من المناسب أن نوضح للجميع أن المقصود من القرار هو العمل على إصلاح وتطوير الإدارات الأهلية بما يجعلها تتمشى مع مع ما بلغته البلاد من وعي وتطور في كل المجالات هادفين إلى توفير العدالة المطلقة للمواطنين والإدارة الحسنة الرشيدة في أقاليم السودان المحتلفة. ولعله من المناسب أيضاً أن نوضح أن مثل هذا الإجراء يحتاج إلى دراسات مستفيضة. وواضح أيضاً أن الدراسات تحتاج لوقت ليس بالقصير يتفاوت من منطقة إلى أخرى. ومن أجل ذلك فقد اشتمل القرار على تكوين لجنة من الوزارات المعنية للقيام بهذه الدراسات والتقدم بتوصياتها.
هذا ونود أن نوضح في هذا المجال أن فصل السلطات القضائية من الإدارية سياسة ليست بالجديدة ولكنها أيضاً تحتاج لدراسة وافية. والإتحاه هنا أن يستمر تطبيقها في المناطق التي انتشر فيها الوعي وأصبح الفصل علنياً. وإلى أن يتم ذلك فسيظل رؤساء المحاكم الحاليين يمارسون سلطاتهم القضائية. هذا وليس من سياسة الحكومة خلق رئاسات منفصلة للمحاكم في الوقت الحاضر لأن ذلك لا يحقق أي فائدة بل على العكس سيؤدي إلى مضاعفة المصروفات وخلق مشاكل كثيرة على القبيلة الواحدة تؤدي إلى تدهور في حالة الإدارة والأمن.
بناء عليه قصدنا بإصدار هذا البيان أن نوضح للمواطنين جلية الأمر حتى نزيل هذه البلبلة وتعود الأمور إلى مجاريها. ويمارس الشعب ورجالات الإدارات الأهلية حقوقهم وواجباتهم دون زعزعة أو اضطراب وأن يعلم الجميع أن ما يشمل الإدارات الأهلية من تطوير سيكون شأنه في ذلك شأن أي جهاز آخر في الدولة.
وختاماً نود أن ننتهز هذه الفرصة ونوجه المواطنين أن يقوموا بواجباتهم وأن يظل التعاون كاملاً بينهم وبين مشائخهم وأن يعلموا أن أي تقصير في سداد الضرائب لن يمكن مجالسهم المحلية من أن تستمر في تقديم خدماتها العديدة لهم كما أننا لا نشك بأن رجال الإدارة الأهلية سيؤدون واجباتهم بنفس الروح الوطنية العالية التي اتصفوا بها دائما (الأيام 29 مارس 1965).
إن الوثائق متى تناظرت وتناصرت لا ترجح كفة من نسبوا إلى مذكرة الشفيع بلاوينا بأسرها لأنها صفت الإدارة الأهلية. فالمذكرة لم يكتب لها أن تنفث جذريتها في أضابير الدولة سوى لنحو 3 أشهر بالأكثر. ثم لفظتها الدولة المخافظة لفظ النواة وأرجعت الفارغة لليسار. وعادت حليمة لقديمها.
كليف تومسون: شاهد عيان ثورة اكتوبر الذي يدرس تاريخها بجامعة أمريكية
إذا كانت ثورة أكتوبر 1964 قد جاءت بالإضراب السياسي العام لإسقاط نظام الفريق عبود فقد يصح القول إننا نعاقبها على أيامنا هذه بالإضراب التاريخي عن بعث ذكراها ومغازيها. وأكثر ما تسمعه عنها هو الذكرى المضادة أو الذم. فعادة ما قيل إنها هي التي أفسدت الخدمة المدنية بالتطهير. وهذا هراء كشفنا سوء نيته. وأصبح النظام الذي أطاحت به بالإجماع الصفوي السكوتي هو ثاني حكومتين أحسنتا للسودانيين. والنظام الآخر هو دولة الإنجليز. فأنظر كيف هوينا إلى هذا الدرك السخيف من قلة القيمة والهزء والعيب لا نقيم وزناً للحرية ولا نظن أننا نستحقها.
فقد مر عيد الثورة الثاني وأربعين بلا صدى. فحتى المعارضة اختارت أن تغطي على ذكراها بتظاهرة لذكرى انقلاب رمضان 1990 المؤود. وهو حادث سياسي ( مهما قلنا عن تراجيدته ودمه المسفوك ومقابر ضحاياه المجهولة) خلافي جداً. فهو مما يمكن وصفه ب "انقلاب المسبوق". دبره حزب البعث العربي السوداني، كما جاء في اعترافات توالت من زعاماته مؤخراً، ليزيل النظام الديمقراطي (1985-1989) غير أن الإسلاميين كانوا أشطر. والانقلاب مهما زيناه لن يرقي لأكثر مما فعل انقلاب 19 يوليو 1971: فجيعة حزبية شيوعية غراء تطراها جريدة الميدان في ما يشبه الواجب لا الشوق.
لقد طال إضرابنا عن فهم دلالة ثورة اكتوبر كثورة سياسية إجتماعية على بينة من تاريخها. وحصل علينا قول أحدهم إن من جهل التاريخ كان كمن يأوي إلى منزل بلا نوافذ. ولهذا صار بلدنا ضريراً يتخبط في الظلام من مس الجهل والمزاعم وسوء الطوية. وأحاول مع الدكتور بدر الدين الهاشمي (وهو قسيم اهتمام طويل حميم مع أنني لم اتشرف بعد برؤيته برغم كثرة أحاديثنا واتصال رسائلنا) رعاية مشروع للتعريف بثورة أكتوبر كما كتبه شاهد عيان. وهذا الشاهد هو الدكتور كليف تومسن العميد السابق لكلية القانون ومدير معهد الدراسات الأفريقية بجامعة ويسكونسن-ماديسون.
وكان كليف إبان اندلاع الثورة محاضراً حدثاً للقانون بجامعة الخرطوم يطرق اسمه سمعي من زملائي بالكلية من أمثال المرحوم عبد الله صالح والمرحوم الشيخ (حسب الرسول) رحمة الله والدكتور على سليمان. ولم اتحسب وقتها لأنني سأسمع عنه ثانية من السيد عبد الحميد عبد الرحمن، طالب الدكتوراه بجامعة ويسكونسن الأمريكية، أو ألقاه شخصياً بعد نحو ثلاثين عاماً. فقد حدثني عبد الحميد في 1993 عن أستاذ بالجامعة استأجره ليترجم له في الإنجليزية مقابلات أجراها في السودان مع قادة ثورة اكتوبر وطائفة صالحة ممن شاركوا فيها. وأعجبتني همة الرجل. ثمم انصرفت إلى شأني. وظللت اصطدم باسم كليف خلال قراءاتي في أدب القانون السوداني وأنا أعد كتابي عن تاريخ القضائية الذي صدر عن دار بريل بهولندا ونشرت أطرافا منه في كتابي "الشريعة والحداثة". وأعتقد أن مقالتيه عن القانون السوداني ما زالا من أفضل ما كتب في تاريخ ذلك القانون. وحين فرغت من مخطوطة كتابي سألته أن يقرأها ويعينني في مادتها العلمية ولغتها. وكان الرجل عند حسن الظن بل بالغ. ونقول عن الرجل لين الجانب إنك تأكل وتقش يدك في طرفه. وقششت يدي في طرف كليف حين وضعت اسمه ضمن من سيقيمون المخطوطة لتعتبرني الجامعة التي أخدم فيها ضمن طاقمها المستديم. واختارته الحامعة ليعلق على المخطوطة وكتب عنها خريدة من التقريظ.
ثم كان لقائي به في مدينتي كولمبيا بولاية ميسوري حين جاء ليلقي محاضرة بكلية القانون بجامعتنا. وكان ينوي أيضاً زيارة والدته التي تقيم بمنزل لرعاية المسنين بمدينة برانسون بولايتنا. وبرنسون مدينة ملاهي يفد اليها أهل الغرب الأمريكي الأوسط للترفيه. وتحدثت إليه خلال الزيارة عن مشروعه للكتابة عن ثورة أكتوبر السودانية. وطلبت منه أن أقرأ ما كتب إن فرغ منه. فعلمت منه إنه عاكف على اللمسات الأخيرة منه. وقد إنبني كتابه على مشاهداته وملاحظاته عن الثورة التي هبت حيث كان يدرس بجامعة الخرطوم لأربع سنوات وأخذته بروعتها في نشدانها للحرية بقوة وسحرته بطولة طلابه. فقد كان يعلمهم القانون للعدل فإذا بهم يطلبونه جهاراً نهاراً في عمل سياسي بطولي قاصد. وقد ساعده في ضبط ذاكرته التقليد الأوربي المعروف في كتابة اليوميات أو journals . وهي أن تكتب ما مر بك في يومك من أحداث وما سمعت من أشياء قبل أن تأوي إلى نومك. وفي هذا تأمين للذاكرة من السهو والنسيان.
ويبدو أن شهيته لتدوين وقائع هذه الثورة المدنية الأفريقية قد اخذت منه كل مأخذ. فراح يجرى مقابلات مع قادة الثورة وأفراد وقودها في سنوات 1964-1965. ثم واصل تلك الأحاديث، التي شملت نحو 70 شخصاً، في فصل الربيع من عام 1966. ثم عاد في 1969 إلى الخرطوم ليستكمل تلك المقابلات. واستعان بالدكتور سعيد محمد أحمد المهدي والدكتور الفاتح حامد، مساعد أبحاثه، ليترجما له المقالات عن الثورة في الإنجليزية. وبدأ كتابة المخطوطة في خريف 1975 وظل يوالي الكتابة حتى ساعة لقائنا في نحو 2001.
وكان كليف خلال حديثنا مفتوناً بمولانا عبد المجيد إمام الذي قاد إضراب القضاة وشق طريقه إلى كردون البوليس على القضائية ليأمر الضابط المسئول بفضه والانصراف بلغة القاضي العدل الثائر. فسألته أن يبعث لي بما كتبه عن مولانا عبد المجيد فترجمته ونشرته قبل عامين في مناسبة ذكرى الثورة. وما فرغ كليف من المخطوطة حتى استأذنته أن نترجمها للعربية وننشرها بالصورة والحرف في السودان. وكان كما كان سباقاً إلى الفضل. وقال إن الثورة هي إرث للسودانيين بشكل رئيسي ومن حقهم الإطلاع على تاريخها قبل الآخرين. وفاتحت الدكتور بدر الدين الهاشمي، وهو عالم صيدلاني ومحب للتاريخ ومترجم مجيد، أن ينهض بأمر الترجمة وقد فرغ منها. وتنتظر المخطوطة بعض التحرير والتمويل لتكون جاهزة للمشاهد والقاريء (نشرت مسلسلة بجريدة الأحداث أول ظهورها).
وقد فاجأني كليف قبل نحو عام بقوله إنه سيقوم بتدريس كورس في القانون الأفريقي عن ثورة أكتوبر. وقد بعث لي بفكرته المكتوبة التي ستكون بأيدي الطلاب متى سجلوا للكورس. وحين تضرب أوساطنا الصفوية عن ذكرى أكتوبر وتتخبط في ظلام الغرف التي بلا نوافذ من نيفاشا حتى أسمرا يجلس نفر من طلاب جامعة ويسكونسون في المدرج يقلبون تاريخ تلك الثورة من شاهد عيان. ويظن البعض إن العلم هين وأن التاريخ غلاط أو زائد عن الحاجة. ولهذا تأخر العرب والمسلمون وتقدم غيرهم.
من دارفور إلى أكتوبر: 32 طالباً جامعياً أمريكياً يدرسون مأثرة ثورة أكتوبر السودانية
اندلعت ثورة 21 أكتوبر 1964 بينما كان الدكتور كليف تومسون يقضي عامه الرابع في السودان كمحاضر مبتديء بقانون جامعة الخرطوم. وقد صار فيما بعد عميداً لكلية القانون بجامعة ولاية ويسكنسون الأمريكية بمدينة ماديسون ومديراً لمعهد الدراسات الأفريقية بها. وكانت تلك ستينات القرن الماضي التي تميزت بحركة غير عادية لتغيير العالم كما عرفناه. كان الاحتجاج هو العادة والسكون هو النشاز. ووجد كليف، الفتى الأمريكي (وكانت بلاده وجامعاتها أكبر بؤر الدعوة لتجديد شباب العالم)، نفسه في طيات تلك الثورة وخفاياها. فسهر يدون يومياته عنها ثم تعقب قادة الثورة وروادها في السنوات المباشرة اللاحقة يسألهم عن أدوارهم فيها. وتوفرت له مادة كثيفة طازجة ظل يكتب بفضلها تاريخ تلك الثورة حتى فرغ منها قبل سنتين أو نحوها. وقد قيض لي الحظ الحسن أن أتعرف عليه قبل فراغه من الكتاب وكلمته عن رغبتي، والدكتور بدر الدين الهاشمي، في ترجمة المخطوطة في العربية وتحريرها. وأَذِن بذلك بسخاء منوهاً بأن السودانيين أحق الناس بالإطلاع على إرث أكتوبر قبل غيرهم.
ويبدو أن الذي بين كليف وثورة أكتوبر مما لا يستنفده مداد كلمات كتاب. فقد فوجئت برسالة منه منذ عام أو أقل تحدثني عن نيته تدريس كورس عن ثورة أكتوبر والقانون لطلاب القانون والدراسات الأفريقية بجامعة ويسكونسون. وهذا الكورس منعقد على وقتنا هذا من خريف 2006 بقاعات الجامعة. ويؤمه 32 طالباً. وقد بعث لي كليف بكلمة أخيرة كشفت لي عن تعلقه المهني قبل السياسي بثورتنا. فقد قال إن جامعة ماديسون ظلت تفخر بمنزلة الدراسات القانونية فيها بما دربت من قانونيين بارزين وعديدين. وقد تميزت بتغليب القانون كممارسة نحو تحقيق العدل لا كمادة أكاديمية فقهية بين طيات الكتب. وترتيباً على ذلك فإن ثورة اكتوبر السودانية هي غاية الغايات لجامعة مطلبها من القانون تنزيل العدالة على الأرض.
وأطلعني كليف على ديباجة كورسه عن ثورة أكتوبر الذي انطوى على فكرة أن العلم بثورة أكتوبر باب في إحسان الأكاديمية وتوطينها في المجتمع لا لجاجاً سياسياً تتربص به المعارضة لشقلبة الحكومة والبادي أظلم. وهذا ابتذال للثورة مشهود عندنا. فالمعارضة تهدد الحكومة ب "رياح أكتوبر التي تتجمع في الأفق". والحكومة تنكر ثلاثاُ أن ثورة مثل أكتوبر قد حدثت أصلاً. فيصمت مذياعها وينضب تلفزيونها وتبتلع عطلة اليوم المشهود (السخية بالبطالات) وتعف عن الإبرة. ويبلغ الجهل بالثورة حداً قال طالب نابه يوماً لمحرر بصحيفة أن أكتوبر شيء رائع حدث في الغناء والنشيد. وكفى.
وإلى القاريء ترجمة في العربية لديباجة كورس كليف لطلابه الاثنين وثلاثين في مادة القانون الأفريقي عن ثورة أكتوبر السودانية بجامعة ويسكونسن:
"انتهى حكم بريطانيا للسودان في يناير 1956. غير أن الاستقلال لم يسعد السودانيين. فقد وصف ج ت روبرتسون (السكرتير الإداري الاستعماري السابق بالسودان) السودان المستقل ب "تلك البلاد التعيسة". استحكمت فيه حرب أهلية بين الشمال والجنوب. وأنجزت من قريب حكومته استئصالاً عرقياً في دارفور. وساد البلاد حكم الجيش وضمر حكم النظم الديمقراطية.
وشهدت البلاد مع ذلك هبات مثل ثورة أكتوبر 1964 انقدحت منها شرارة الديمقراطية وفاح مسكها. وكانت ثورة أكتوبر هبة وطنية قام بها مواطنون مدنيون عٌزل صمموا على إسقاط نظام عسكري طغى وبغى ونجحوا في اقتلاعه. ولم تدم الديمقراطية المستعادة بالثورة سوى سنوات قليلة فعاد الحكم للعسكريين في 1969. ولم يزد ذلك السودانيين غير عزة بالثورة فهي مصدر فخر لمن شاركوا فيها ورأي فيها الجيل الحدث بارقة أمل يأوون إليها في الملمات كما رأى فيها غير السودانيين سبباً للاعتقاد بحق الشعوب في أن تقرر لنفسها وبنفسها صورة الحكم الذي تريده لبلدها تخطيء وتصيب.
المقرر الرئيسي للكورس هو مسودة كتابي عن ثورة اكتوبر. وفيه قصصت إنتفاضة السودانيين في 1964 ووقفت على حيثيات النبض الوطني الذي استولدها وبث فيها حياة وأنفساً شجاعة صميمة. فأكتوبر قصة إنسانية غراء تستحق أن تروى على الملأ لازدحامها بمشاهد من الشجاعة المثيرة غير المتوقعة. وكان أكثر قادتها من القانونيين طلاباً وأساتذة ومحامين وقضاة.
عند اندلاع الثورة كنت في سنتي الرابعة بالسودان أحاضر في القانون بجامعة الخرطوم وأدير مشروعاً وثقنا به للقضايا بمحاكم السودان. وقد وصفت في المخطوطة أحداث الثورة وضمنت وصفي ملحوظاتى من واقع معايشة مباشرة للأحداث وزخمها. ولكن الكتاب انبني بصورة رئيسية على مقابلاتي للقادة الأعلام للثورة وغيرهم من المدنيين والعسكريين وأحاديثي المطولة معهم. فقد تحدثت إلى 68 قائداً ونفراً من هؤلاء والذاكرة خضراء بين 1964 و1976. واستثني من هؤلاء شخصين تحدثت إليهم في ما بعد. كنت مشغولاً لأعرف خفايا أحداث الثورة لأقف على خطرها وديناميكيتها ومغزاها للمجتمع السوداني.
واستغرقني النظر في مادة لقاءاتي وبحثي وكتابة الفصول وقت طويل قبل اكمال كتابة المخطوطة. ولم أتفرغ للكتابة بل فعلت ذلك في أوقات الفراغ الخاصة. وأصبحت الكتابة عن أكتوبر بين 1971 و2003 هوايتي المفضلة. وأردت بحكايتي عن أكتوبر الثورة أن يستشعر القاريء إنني أتحدث من طيات الحدث حتى يتاح له أن يفهم الحقائق المتغيرة والفوضوية حتى التي كمنت من وراء مسميات مثل "جبهة الهئيات" و"مذبحة القصر" و"الميثاق الوطني" مثلاً لا حصراً.
وفي عام 2004 كتب لي أستاذ بجامعة ميسوري-كولمبيا من العالمين بإهتماماتي السودانية (وهو العبد الفقير) إذا كان انشغالي بالأمر قد شمل مولانا عبد المجيد إمام. وهو قاض عدل شارك في الثورة وقال عنه سفير سوداني بلندن يوماً مفاخراً: "لقد عشنا في عصر عبد المجيد إمام" (أنظر الهامش). فزودته بما أراد. ونشر الأستاذ الجزء الخاص بعبد المجيد إمام من مخطوطتي بصحف السودان السيارة. ويقوم هذا الأستاذ الآن بترجمة المخطوطة في العربية لنشرها (الذي يقوم بالترجمة هو الدكتور بدر الدين الهاشمي وإنما اشرف على المشروع وأحرره وأروج له ما استطعت سبيلا).
أما عن سير الدراسة في الكورس فسيجتمع الفصل ساعتين أسبوعياً (ويمكن أن نمدد ذلك لثلاث ساعات). ولأنني لم أستقر بعد على خطة لنشر الكتاب في لغته الإنجليزية فإنني اتوقع من طلابي أن يعينوني لاستقر على شيء بقراءة المخطوطة قراءة حصيفة. فسأوفر لكل طالب نسخة من المخطوطة. وسأقرر للقراءة فصلاً في كل أسبوع. وسأطلب من كل منكم أن يعيد الفصل في نهاية الأسبوع وعلي هامشه تعليقاتكم. وسنحلل ما وقع من حوادث في الفصل المقرر في نقاشنا ونحدس بناء على ذلك ما سيقع من حوادث في فصلنا القادم. وسيكون الامتحان مما نأذن فيه باصطحاب المخطوطة إلى غرفة الاختبار والرجوع إليها في الإجابة. وسأقرر إن كنت سأطلب منكم كتابة مشروع بحثي متى اجتمعنا في الفصل."
هذه ديباجة هذا الكورس الذي وصفه صاحبه نفسه بأنه "غير عادي" والذي سجل لدراسته 32 طالباً أمريكياً وهو عدد غير عادي للكورسات المتقدمة في الجامعة، وبالنسبة لطلاب القانون الذين هم طلاب دراسات عليا قليل عددهم. وسيفرغون منه قبل حلول موسم أعياد أمريكا في منتصف ديسمبر. وقد كتبت لكليف ليشرك القاريء السوداني في معرفة خبرته في تدريس هذه المأثرة السودانية لطلاب في أمريكا تنام على محنة دارفور وغير دارفور وتصحو.
تصويب: لقد ضللت كليف حين قلت له أن سفيرنا في انجلترا (وهو القائم بالأعمال الأستاذ سيد احمد الحردلو) قال عن عبد المجيد إمام بفخر إنه يكفينا أننا عشنا في عصره. والصحيح أن الحاردلو قال عبارته الغراء عن الأستاذ عابدين إسماعيل سفيرنا في انجلترا إبان محنة 22 يوليو. وقد وقف عابدين بين الإنقلاب والإنقلاب المضاد على حافة الخلق القويم ورباطة الجأش فاستحق ثناء الحاردلو. وتنطبق كلمة الحاردلو على عبد المجيد حذوك النعل بالنعل. فكلنا فخور لحسن طالعنا لأننا عشنا في عصر عبد المجيد وعابدين ورجال آخرين ونساء أخريات.
هذا نص كلمة تومسون وأراء طلابه في لغتهم الإنجليزية:
Since this course is unusual, this background information may be of interest:
African Law - Fall 2006
Prof Cliff Thompson
A Case Study: Sudan’s October Revolution
Background
British rule ended in Sudan on January 1, 1956, but independence has not been a triumph. In The Penguin History of the Twentieth Century, J.T. Roberts refers to Sudan in the post-colonial period as “that unhappy land.” There has been a lingering and devastating civil war between the north and the south. More recently, the government’s genocide in Darfur is a disaster. Repressive military rule, not democratic civilian government, has predominated nationally in the years since independence.
Nevertheless, there were events in October 1964 during which the sparks of democracy flew upwards. The October Revolution was a national uprising of unarmed civilians who wanted to overthrow a military dictatorship, and succeeded. The democracy lasted until the next military coup in 1969. But the revolution became a source of pride for those who joined, and remains a beacon for many in Sudan, and for anyone who believes in the aspirations of people for self-rule.
The draft book that is assigned for the course recounts the uprising and the democratic pulse that helped to give it life. It is a human story worth telling, full of unexpected and courageous acts. Many of the leaders were law students, law professors, lawyers, and judges.
At the time of the revolution, I was in my fourth year in Sudan as a Law Lecturer at the University of Khartoum, and Direector of the Sudan law Project. Descriptions of public events often include my own observations, but the book is principally based on interviews with the leading participants, civilian and military. After talking with hundreds of people, I had prolonged interviews with 68 persons, all but two of them in the period 1964-67. I was keen to learn what went on behind the scenes. Working through the written notes of my interviews and writing a narrative was a much longer process, mostly part-time, mostly like a favorite hobby, from 1971 to 2003. The narrative attempts to convey a sense of being there, so that the reader can understand, for example, the shifting and chaotic reality behind labels such as the “Professional Front,” “the Palace Massacre,” or the “National Charter.”
In 2004, a history professor at U Missouri, who knew of my Sudan interest, wrote to ask if I had anything on Judge Abdel Mageed Imam, about whom the Sudanese Ambassador to UK had recently said, “We were fortunate to be alive in the age of Abdel Mageed Imam.” I did, and an excerpt was translated into Arabic and published in Sudan. The prof is now proceeding with a translation of the book.
Procedure for the Course (Two hours; third hour can be arranged)
I have done nothing about publishing in the US, and that is why those enrolled in this course could potentially be a big help to me. Each week I will hand out a chapter, which the student will return to me with comments the next week. In class we will analyze what is happening, and what might occur next. The final exam will be open book.
The grade for three hours will be the same as the two hour exam, but with an additional hour to reflect a research/writing project agreed with me.
Some student reactions to Cliff Thompson’s course on Sudan’s October Revolution that was held in the University of Wisconsin Law School, Fall Semester 2006. In the US, law school is a graduate program after the first university degree. There were 32 students who enrolled (a large number for a specialty course, which is usually around 15 -20 or as few as 2)
Three were final year undergraduates, and the other 29 were second and third year law students. The final exam is next Monday Dec. 18.
Feel free to edit
N. Meredith Porembski-
“When I signed up for this class, I expected to learn about a different part of the world. However, the story of the October Revolution exceeded my expectations. The book is not only informative, it is a wonderful story about the Sudanese people and how they were able to lay the foundation for democracy through sheer courage, hard work and of course, some luck.”
Houston John Goodall-
“I really enjoyed getting to know the details of a revolution that we in America know nothing about. The Sudan is clearly a country that has suffered for many years, and while the impression of most Americans is probably of a country torn apart by war, I have been surprised by the calmness and intelligence of the leaders (both in the military and in civilian life) that we have read about. After reading Professor Thompson's account of the revolution, the Sudanese are clearly as intelligent a people as I know of.
It is always difficult to unite different cultures, religions and peoples, as can be seen by America's efforts in Iraq. I hope that this country (the Sudan), which has been torn by war for so long, can have peace and embrace its people for their differences instead of using these differences to tear it apart.”
Lindsay Ann Byrne-
“The thing I took away from the events recounted in this book was the Sudanese determination and ability to compromise between some of the widest diversity in the world. Their ability to construct a system of representation that satisfied the plethora of interest groups is a lesson that is incredibly relevant to world politics today.”
Nicholas P. Honkamp-
“While I thoroughly enjoyed reading about the October Revolution of 1964, there are a few suggestions [about the readability for an American audience, which are omitted]…Other than these general suggestions, I thought the book was well written, informative, and somewhat compelling in its narrative.”
Michal James Peterson-
“I was struck with the ability of the delegates to agree despite their duties to the various factions from which they derived their power. All of those involved in the negotiations were determined to offer the “public interest” both change and hope for a better future in the Sudan. It is rare that persons of comparative prestige can put aside their status in favor of basic human liberties. Even those who thoughtlessly labeled people “commies” remained determined to provide the people relief from the military forces that had oppressed them.
I think that the story of the revolution in the Sudan shows the ability of regular folk to stand up and to demand change when a government goes too far in impeding on their very basic human liberties. It is a glaring example of the willingness of people to look past class structures and to realize the power of the individual when he or she stands up for themselves. To place faith in the hope that collective action and refusal to heed the status quo will produce change for the better is both the riskiest and the most courageous act that any person can perform. The events in Sudan benefited from both luck and from the fact that the public was not passive. The people were unified in their determination to provide better conditions for themselves and for all other Sudanese, and that energy pervaded even the smoky backrooms where the crucial decisions were made. “
Jessica C. Fernandez-
It was truly our privilege to have studied the history of Sudan’s October Revolution through Professor Thompson’s book. The book’s insight into the factual events, the human aspects of the revolution, and the stories of the people behind this great effort was very enriching. The courage and bravery exhibited by the students, the university staff, the professionals, and the civilian population in general was admirable. I was particularly struck by the leap of faith taken by those citizens from Kassala who traveled by train to Khartoum to support the revolution without really knowing what awaited them there, they could have well been chasing their deaths. After finishing the book, it was clear to us that the revolution’s success was owed to people’s hard work and their commitment to freedom. As a Mexican student studying law in the US, I realize that we often forget that the freedom we enjoy today was gained through the toil and blood of our forefathers. Studying about your revolution reminded me of the one in my own country and how important it is to never forget our history and take pride in the sacrifice made by those who came before us in the fight for freedom. I truly hope Sudan will soon find peace and freedom again.
Jenni Dye-
[This student was one of the few in the class who was reasonably well informed about the Sudan. She was disappointed that some of the heroes of the Revolution later joined military regimes.] “ I’m left feeling a sense of loss, completely disappointed that these men failed to meet expectations. And if I am feeling that as an outsider, I can’t imagine what that feeling is like for the Sudanese.”
Amen Iyi-Eweka-
“The new Prime Minister Sir El Khatim immediately took care of the [the problem raised by the Southern Front] and it shows his willingness to have all sides represented fairly which is the bedrock of democracy.”
Marthew J. Gardner-
“I really enjoyed reading this book and learning about this profound event in Sudan, a nation that is culturally foreign to me. I thought that the events that took place and the character’s feeling and motivations were extremely well documented. It was powerful to see how united and courageous the citizens of Sudan were, and the end result that was accomplished.”
Collin Fisher-
“Professor Thompson’s book retells an inspiring and courageous event, the 1964 Sudanese Revolution. The Sudanese people, through largely non-violent means, brought about the end of a dictatorship. Professionals, academics, students, political party members, average citizens and even some military members all worked toward, in varying ways, the goal of obtaining a democracy. The Sudanese, in 1964, demonstrated that great things could happen when people put self-interest aside and collectively focus on achieving a goal that benefit society as a whole.”
شعبك أروع وأكبر: ماذا قال طلاب جامعة ويسكونسن الأمريكية عن ثورة اكتوبر 1964؟
قدم تومسون كورسه من خلال كلية القانون بجامعة ويسكونسون باسم "القانون الأفريقي: ثورة أكتوبر في السودان" بالنظر لدور أهل القانون من زملائه في الثورة ولأنها انطوت علي مسائل دستورية في المواطنة ما تزال معنا. وقد لقي الكورس إقبالا من الطلاب فاق التوقع من مساق من جنسه. فقد سجل له 32 طالباً (29 طالب قانون في الفصول النهائية. والقانون دراسة عليا بالجامعة الأمريكية. وطالبان نهائيان بالجامعة) بينما لا يزيد من يسجلون أنفسهم لمثل هذا الكورس المتخصص عن عشرين وقد يتدنى الرقم إلى اثنين. وقد علم الدكتور جعفر كرار، وهو من أعضاء جبهة الهيئات التي قادت ثورة أكتوبر، بخبر كتاب تومسون وكورسه فراسله وحياه على حفظه ذكرى هذا الجزء الجوهري من تاريخ السودان. وسر ذلك تومسون جداً.
كنت قد ألحفت على تومسون أن يطلعني على رأي طلابه في مادة ثورة أكتوبر متى فرغوا من الكورس وكتبوا ملاحظاتهم عنه. فوعدني بذلك وبر بوعده. ووجدت الطلاب قد فتنوا بهذا التغيير العميق في السودان. واسترعاهم طلب السودانيين الحثيث للحرية بعزيمة لا تفتر وتحقيق مرادهم بقوة لا بالقوة وبسماحة تميزت بملكة المساومة وبلوغ الغاية عن طريق الإجماع. سأكتفي بترجمة بعض ما كتبه هؤلاء الطلاب. وسمح النضم في خشم سيدو.
كتب ن ميديث بوريمبسكي: "حين سجلت لهذا الفصل توقعت أن أكتسب علماً عن جزء مختلف عن العالم. غير أن قصة ثورة أكتوبر فاقت توقعاتي. فليس كتاب تومسون غاصاً بحقائق التاريخ فحسب بل اشتمل على قصة عن السودانيين وكيف تمكنوا من إرساء الساس للديمقراطية من خلال شجاعة محضة، وكدح كادح وبعض الحظ بالطبع."
وكتب هوستن جون قودول: "لقد انشرحت جداً للفرصة لمعرفة تفاصيل عن ثورة لا نعرف عنها شئياً في أمريكا. واضح أن السودان بلد ظل يعاني الأمرين لسنوات كثيرة مما جعل الانطباع السائد عنه في أغلب أمريكا أنه ربما تفرق أيدي سبأ من فرط الحرب. لقد أٌخذت بالسكينة والذكاء لقادة الثورة من المدنيين والعسكريين الذين قرأنا عنهم. وقد خلصت من قراءة كتاب تومسون عن ثورة أكتوبر إلى أن السودانيين من بين أذكياء الناس بلا خفاء.
من المتعذر جداً أن توحد الثقافات المختلفة والأديان والناس الشتى كما رأينا في شغل أمريكا في العراق. وأتمنى على السودان، الذي ظلت تمزقه الحرب لأمد طويل، أن يتمتع بالسلم وأن يجمع أهله بين دفتيه من واقع تنوعهم لا أن يكون هذا التنوع سبباً في خرابه."
كتبت ليندسي آن بيرن: " لقد خرجت من الحوادث التي ذخر بها الكتاب بصورة واضحة عن عزيمة السودانيين وقدرتهم على المساومة التي أذنت بمزاوجة أوجه التنوع الضارب في الاختلاف في حياتهم. إن تمكنهم من إنشاء نظام تمثيلي في الحكم أرضى شتيت جماعاتهم لهو درس ينبغي للسياسة العالمية الراهنة أن تعتبره وتستصحبه."
كتب ماثيو قاردنر: "لقد استمتعت بقراءة الكتاب وسرني اطلاعي على هذه الحادثة عميقة الدلالة في السودان الذي لم يسبق لي علم به. وأعتقد أن المؤلف قد أحسن توثيق وقائع الثورة ومشاعر الفاعلين فها ودوافعهم. لقد هزني أن أرى ما تمتع به السودانيون من تضامن وشجاعة حتى أنجزوا تلك الثورة."
بعد دراستها لثورة أكتوبر 1964 طالبة أمريكية تقول: "حبيت عشانك كسلا!"
للسودانيين كلمة حكيمة عن داء الجهل. قالوا الما بعرفك بجهلك. وهم لا يريدون ب "بجهلك" الأخيرة أنه لا "يعرفك". ولو صح هذا لم تزد العبارة عن قولنا إن الذي يجهلك يجهلك. ولكانت تفسيراً للماء بعد الجهد بالماء. ولكن أرادوا ب "يجهلك" أن الذي لا يعرفك يفتري عليك ولا يقيم لك وزناً. وقد لمست صدق العبارة في الطريقة التي لم يعرف بها بعض زملائي الكتاب ثورة أكتوبر في حولها الثاني والأربعين . . . فجهلوها.
فقد كتب الأستاذ إسحاق فضل الله أن ثورة أكتوبر هي ثمرة لمؤامرة استعمارية صهيونية. وقد أسفت أنني لم أقف على أعمدته كلها بهذا الخصوص لأعلم إن كان هذا الرأي الطارف في ثورة أكتوبر هو مما تنزل لإسحاق نتيجة بحث متأن في وثائق مستجدة في أرشيف استعماري صهيوني ظهر للعيان بعد خفاء أم أنه مما وقع له "كشف" كده. من الجهة الأخرى كتب زميلي العارف بالمعاني الدكتور حنفي (الرأي العام 30 أكتوبر 2006) يطلب من مؤلف ومغني نشيد "شعبك يا بلادي" إصدار طبعة منقحة منه ليتحول من نشيد سياسي اقتصر على حادثة سياسية هي ثورة اكتوبر إلى نشيد وطني "نسمعه في أي زمان فتسري بداخلنا رعشة الوطن". فالنشيد السياسي في قول حنفي لا يرشح فينا هذه الرعشة بل يصيبنا ب "الهرش السياسي". وصب حنفي جام نقده على مقطع النشيد الذي يقول :"شعبك أقوى وأكبر مما كان العدو يتصور". ومصدر هرش حنفي السياسي أنه لا عبود ولا طلعت فريد (مثلاً)، وهم من نظام 17 نوفمبر 1957 الذي ثار عليه الناس في أكتوبر 1964، أعداء للسودانيين. وحجة حنفي على نفي التعدي عن هؤلاء الحكام هي أن للأول "صفحات سودانية ومنتزه" ببحري وللثاني "سطور وصالة العاب أولمبية" بحي المطار. وإذا استقام منطق حنفي فلن يكون لشعبنا، وأي شعب آخر في المعمورة، عدواً طالما كان للخصم صفحات وسطور ومنتزه وصالة العاب ما. ولم تكن عداوتنا مع نظام 17 نوفمبر حول المباني بل حول المعاني مثل الحرية وهلمجرا. وقد أزعجني أن قرأت في تحقيق مع الفنان وردي أنه بصدد نزع لحن "يا حارسنا وفارسنا" عن قصيدته المايوية المعروفة ليزين به قصيدة أخرى. لبس تكسب. ولو صدق النبأ لكان فعل وردي هذا أول تطبيق لدعوة حنفي في تنقيح الأنشيد الوطنية لتكون غير ما كانت. وهذا تزوير في التاريخ يجري على مشهد من الملأ.
كنت قد بدأت عرض آراء الطلاب الأمريكيين الذين درسوا ثورة أكتوبر 1964 على يد البروفسير كليف تومسون في مساق بكلية القانون بجامعة ويسكونسون بمدينة ماديسون الأمريكية في موسم خريف 2006. وتومبسون شاهد عيان على ثورة أكتوبر التي وقعت في عامه الرابع مقيماً بالسودان محاضراً بكلية القانون بجامعة الخرطوم. وقد كتب يومياته عنها وظل لسنوات يتعقب قادتها وغير قادتها يسألهم عن أدوارهم فيها حتى توفرت له المادة التي بنى عليها كتابه المخطوطة ما يزال. وكان تومبسون قد أذن لنا بترجمته للعربية ونشره بصور مختلفة. وربما كان هذا الكتاب، متى صدر ، هو الأول في بابه. فلم ينشر بعد كتاب تاريخي منهجي عن الثورة. فقد كتب الأستاذ شاموق كتاباً عنها لما كان السؤال عمن أشعل الثورة سؤالاً ملحاً بل استثمارياًً. ونشر الشيوعيون كتاباً ضخماً عن الثورة أميز ما فيه أنه الأرشيف الحي لمعظم ما صدر عن الحزب الشيوعي خلال صراعه لنظام عبود مع وصف سياقاته ومناسباته. وانتظر بفارغ الصبر صدور كتاب الدكتور جعفر كرار عن الإضراب السياسي العام، أداة ثورة أكتوبر في إزاحة نظام الفريق عبود. فلجعفر قلم حاذق كشف كتابه عن موقف الحزب الشيوعي من مسالة الجنوب عن بلاغته وبعد تقصيه.
وسيرى القارئ في هذه الدفعة الأخيرة من آراء الطلاب الأمريكيين في ثورة أكتوبر بحسب كتاب تومسون أنها ثمرة علم بالثورة. فقد عرفوها عن كثب ومن عالم وشاهد عيان فسدت هذه المعرفة عليهم باب الجهالة أو التجاهل. وقد درسوا ثورة السودان في عام هو عام أمريكي عالمي للاستهانة بالسودان والإزراء بسياسته وثقافته. وستجد في آراء الطلاب مقايسة غير معلنة بين وحدة الشعب السوداني وإرادته لنيل الحرية في ثورة أكتوبر 1964 وبين حاله في 2006 يتخبط في دارفور وغير دارفور ويتخطفه الناس والأمم المتحدة. لقد كان درسهم لأكتوبر سبباً لتفاؤلهم أن بلادنا ستنجو لأنها جاءت بالعجب العجاب في طلب الحرية في وقت باكر في عهد استقلالها. والكلام حلو في خشم سيدو:
كتبت الطالب كولن فيشر عن مساق ثورة أكتوبر: "يعيد كتاب بروفسير تومسون رواية حادثة ملهمة شجاعة هي ثورة أكتوبر 1964 في السودان. لقد استطاع السودانيون أن يزيحوا نظاماً مستبداً بوسائل سلمية في الغالب الأعم. لقد عمل المهنيون والأكاديميون والطلبة ومنتسبو الأحزاب السياسية وغمار الناس وبعض العسكريين حتى بدرجات متفاوتة بهدف نيل الديمقراطية. لقد برهن السودانيون في 1964 على أن الأشياء الجليلة يمكن أن تقع لنا متى أطرح الناس الأنانية وحب الذات وركزوا بصورة جماعية على الهدف الذي يعم نفعه المجتمع بأسره."
وكتبت جيسكا س فيرناندز: "أعد نفسي من السعيدات المائزات لدراستي ثورة أكتوبر السودانية من كتاب بروفسير تومسون. لقد أثرى عقلي نظر الكتاب الثاقب في وقائع الثورة وجوانبها الإنسانية وحكايات الناس الذين تحقق على يدهم هذا العمل السياسي الكبير. فلا يملك المرء إلا فرط الإعجاب للشجاعة والفدائية التي أسفر عنها طلاب الجامعة وهيئة التدريس فيها وموظفوها والمهنيون وسائر قوى المجتمع المدني. ولقد أعجبني بخاصة توكل مواطني مدينة كسلا الذين استقلوا قاطرة خاصة للخرطوم لدعم الثورة. فلم يكترثوا للخطر الذي ربما خبأه لهم القدر. فقد توكلوا رغم أنه ربما كانوا يسعون لحتفهم بظلفهم. وقد تبين لي بعد الفراغ من قراءة الكتاب أن نجاح الثورة عائد لكفاح السودانيين الشاق والتزامهم بنيل الحرية. وقد قر في نفسي كطالبة مكسيكية تدرس بالولايات المتحدة أننا كثيراً ما ننسي أن الحرية التي نتمتع بها قد انتزعها لنا سلف من بين أنياب الاستبداد. لقد عادت بي ثورة السودانيين إلى ثورتنا في المكسيك وتيقنت أنه لا ينبغي لنا أن نهمل تاريخنا وأن نفخر بالتضحيات التي تطوع بها من جاءوا قبلنا في الصراع من أجل الحرية. أتمنى من أعمق أعماقي أن ينعم السودان من جديد وعن قريب جداً بالسلم والحرية."
وكتب مايكل جيمس بيترسون: "لقد راعتني قدرة مندوبي الهيئات المهنية والنقابية والأحزاب للاتفاق على الأمور برغم التزامهم بشتيت الجماعات التي استمدوا منها القوة. وكان سائر من شارك في المفاوضات لميلاد عهد ما بعد أكتوبر مصممين على البشارة ب "المصلحة العامة" وتعليق الأمل عليها في أن ينعم السودان بمستقبل طيب. فمن النادر أن يطرح أنداد في الشوكة مثل قادة أكتوبر شاغلهم عن قدرهم ومكانتهم ليؤمنوا لمواطنيهم الحريات الإنسانية الأساسية. فحتى أولئك الذين وصفوا الآخرين بغير لياقة بأنهم "شيوعيين" ظلوا مصممين على إزاحة النظام العسكري الجاثم على صدور الناس.
أعتقد أن قصة ثورة أكتوبر في السودان توضح ملكة الناس العاديين للوقوف بقوة يطلبون التغيير حين تغالي الحكومة في حجب الحريات الإنسانية الأساسية عنهم. إنها مثل يضرب عن استعداد الناس لينظروا لأبعد من أرنبة بنياتهم الطبقية ويفيقوا لشوكة الفرد حين يقف دفاعاً عن حقه في الحياة الكريمة. فمن أشد المخاطرات التي يضطلع بها الإنسان شأواً ومن أعلاها قدراً من جهة الشجاعة أيضاً أن يضع المرء أمله في العمل الجماعي لتغيير ما بنفس مجتمعه ويرفض أن ينصاع لمقتضى الأمر الواقع. لقد استفادت التطورات في السودان من أمرين هما البخت السعيد وحقيقة أن الشعب لم يكن سلبياً في طلبه الحرية. فقد توحدوا بقلب رجل واحد مصممين أن يوفروا لأنفسهم عيشاً كريماً ولكل السودانيين الآخرين. وقد سادت هذه الطاقة للخير والتغيير حتى الغرف الخلفية المعججة بدخان السجائر التي كانت تطبخ فيها القرارات المصيرية للثورة."
وكتبت جني داي وهي افضل طلاب الفصل معرفة بالسودان عن خيبة أملها في بعض قادة الثورة الذين تورطوا لاحقاً في القيام ب أو خدمة نظم استبدادية :"لقد أدخلني هذا التنصل للثورة في حيرة. فقد فجعت في هؤلاء القادة الذين لم يرتفعوا للتوقعات المنتظرة منهم. وليس بوسعي تصور ما يحسه السودانيون تجاه تنكر هؤلاء القادة للثورة إذا كنت أنا، الأجنبية، قد استهولت الأمر.
أستاذي تومبسون: شكراً لتدريسك هذا المساق الذي زكانا لطلابك فأشرق به السودان (الذي ما هان أبداً علينا) في كتاباتهم الرشيقة. البلد الطيب يخرج نباته طيباً.
ثورة أكتوبر والجامعة: يوم هتفنا بعقلنا
(مقال في تقويم ثورة أكتوبر نشر في يوم 24 يناير 1998 بجريدة الفجر التي صدرت بلندن وحررها الأستاذ يحي العوض)استضافني الدكتور أحمد خير في برنامجه المشرف "على المائدة " بالشبكة العربية الأمريكية بواشنطن للحديث في مناسبة الذكرى الرابعة والثلاثين لثورة أكتوبر 1964 في العام المنصرم (1998)، وقلت في كلمتي إننا بحاجة، بعد هذا الزمان المتقادم على الثورة، أن نردف طقوس الاحتفال بها إلى طقوس "جردها" في لغة رجال الأعمال. وأعني بالجرد هنا تقليب الثورة على جمر الخبرة التاريخية منذ 1964، عام وقوع الثورة، حتى يومنا هذا لنرى كيف شكلت فكرنا وجسدنا السياسي والثقافي سلباً ويجاباً . فالثورة ما تزال الحادثة المعارضة الموفقة التي نجترها لغة، وشعائر، وزعامات، وتوقعات، وآمالا كلما أحدق بنا ظلم النظم السياسية الحاكمة . فقد أضحت ثورة أكتوبر هي الشفرة التي تستبطن أداء السياسة في الحكومة والمعارضة، وقراء هذه الجريدة (3/1/1999، وهي جريدة الفجر المعارضة الصادرة في لندن) ربما لاحظوا العنوان الرئيسي على الصفحة الأولى القائل: "اقتراب المواجهة الحاسمة، الخرطوم تعيش أجواء أكتوبر" لوصف تطورات جارية على أيامنا هذه بين المعارضة والحكومة في السودان. ولمَّح الخبر إلى أن الحكومة لم تتعرض لندوة طلابية معارضة بجامعة الخرطوم خشية أن تكون الندوة هي فتيل الثورة عليها كما جرى تماما في أكتوبر 1964.
لابسني أخيراً خاطر ملحاح أن ثورة أكتوبر، في حساب الخسارة، هي التي جردتنا من المؤسسة الأكاديمية، في خصائصها الأساسية في بلوغ الحقيقة " المجردة" حين تسيست جامعة الخرطوم تسيسياً خرج بها عن طورها. فخلال ثورة أكتوبر خرج هذا البرج العاجي في مستوى هيئة التدريس، ناهيك عن الطلاب الذين فطموا على السياسة، إلى العمل السياسي العام خروجا فجاً تساقطت به شرعية الجامعة الأكاديمية سقوطاً شنيعاً. وظلت المعارضة المدنية لنظم الطغم العسكرية تقصد سوح جامعة الخرطوم تستحصل على كبش فداء من الطلاب في مقام المرحوم أحمد القرشي طه لزحزحة الطغمة الحاكمة عن السلطان. وقد انتهزت الحركة الإسلامية، التي ظل الطلاب وما يزالون وقودها والحجارة، المؤسسة الأكاديمية، ذات الإمكانيات الطيبة، لتحول اتحادها الطلابي على الأقل، إلى حزب سياسي من الطراز الأول. و الذي يقرأ رسالة الدكتور التيجاني عبد القادر عن الحركة الإسلامية سيرى بغير مواربة كيف خدم اتحاد الطلاب بجامعة الخرطوم، الذي سيطر عليه الاتجاه الإسلامي دهرا طويلا في السبعينات والثمانينات، مباديء وتوجهات الحركة خدمة لم تكن الحركة نفسها قادرة عليها.وكلذلك مجانا، ولوجه الله، وعلى حساب دافع الضرائب ولم تكن جامعة الخرطوم بعيدة عن السياسة من زاوية عناية طلابها بهذا الأمر دائما منذ عهد الاستعمار. غير أن الذي جد في الأمر أن أكتوبر جعلت السياسة والسياسة الحزبية، لو تحرينا الدقة، هي العليا والأكاديميات هي السفلى مما أفرغ الجامعة من ميزة الأصل والتأسيس. واضرب لذلك مثلا في المواجهة بين اتحاد الطلاب وهيئة التدريس التي عرفت باسم " معركة الميكروفونات". فقد بلغ استخدام الميكرفون في ميادين كلية الآداب والاقتصاد خاصة حداً لم يعد معه المدرسون قادرين على تبلغ أصواتهم بالمعارف لطلابهم في الفصول. واشتكى المدرسون، و على رأسهم الدكتور علي عبد الله عباس، من هذا العنت إلى إدارة الجامعة . واقترح الأساتذة أن ينقل الطلاب نشاطهم السياسي الميكرفوني إلى مباني اتحاد الطلاب على شارع النيل قريبا من وزارة التربية. غير أن التنظيمات الطلابية أصرت على كسب الميكرفونات التاريخي الأكتوبري-المايوي- الأبريلي في إذاعة معارفهم نهاراً جهاراً وفي حرم المدرجات. وتوصلت الجامعة إلى حل وسط هو أن يكف الطلاب عن استعمال الميكرفونات طالما كانت المدرجات منعقدة، وأن يعودوا إليها بعد انتهاء الدوام. ولم تلتزم التنظيمات قاطبة بنص أو روح هذا الاتفاق . فأنظر كيف أصبح التدريس هو الأدنى وكيف أصبحت السياسة الحزبية هي الأعلى. جاءت ثورة أكتوبر 1964 للجامعة بسلطان السياسة. وبدلا أن تأخذ الجامعة منه بقدر حاجتها لبلوغ مجتمعها وتغييره، وجدناها قد أخذت ذلك السلطان كله: بقضه وقضيضه، بغثه وثمينه، بما ينفع وبالزبد الذي يذهب جفاء. لقد أعجب الجامعة دور الريادة السياسة فتنصلت عن ريادتها بمقتضى تأسيسها: البحث عن الحقيقة . ومع ذلك استمسكت "ببقية أكاديمية" في القبول والترقيات والامتحانات بفضل نفر ذوي كبرياء من الأساتذة والإداريين المجهولين تحت ركام ضجيج السياسة ولغطها المكرفوني الغليظ
جاء عند الدكتور عبد الوهاب الأفندي أن اتحاد طلاب جامعة الخرطوم، الذي هزه العدوان الثلاثي على مصر عام1956، جاء إلى المرحوم عبد الله خليل (البيه)، رئيس الوزراء، يطلب منه، ضمن أشياء أخرى، أن يمنع الطائرات البريطانية أن تهبط في مطار الخرطوم بمثابة احتجاج وعقوبة، وقيل إن البيه قال لهم : وماذا لو هبطوا رغماً عنا جميعاً. هل تريدون أن أذكرهم أن اتحاد طلاب جامعة الخرطوم غير راض وسيرد الصاع صاعين . أذهبوا يا أولادي إلى مذاكرتكم الله يهديكم .
ليست هذه النادرة مما أستسيغه لأسباب في تاريخي الشخصي وقناعاتي . وليس المرحوم البيه من رموزي السياسيين حتى في زمن النوستالجيا هذا. غير أن في الكلمة حكمة من حكم الخوف والواقعية . فللسياسة حدود مهما قلنا في شأن الإدارة والبسالة .
ولست معجبا بالمرحوم الأزهري حتى في زمن النوستولجيا هذا . غير أنني سأحكي عنه نادرة عن جامعة الخرطوم أيضا لبيانها الجيد للحد بين بيض الصحائف وسود الصحائف أي بين السياسة والأكاديمية . وتلك وقفة أخرى أن شاء الله .
17 نوفمبر 1958: نعي الديمقراطية الأول
تمر علينا اليوم ذكري طغمة 17 نوفمبر 1958. وهذا يوم الشؤم العظيم لبلدنا. فعصابة نوفمبر ، في لغة التصوير، هي "النجتيف" الذي طبعنا منه نظم الطغم التي توالت علينا. فقد صادر الإنقلاب الحوار الوطني الذي دار حول منهج الحكم آنذاك وعرض المعونة الأمريكية لنا في ملابسات الحرب الباردة. ولم تقبل دوائر واسعة منا بهذه المعونة. وقد تحالف هؤلاء في موكب 21 اكتوبر 1958 الذي اقتحمه السفير الأمريكي آنذاك لسبب غامض ما يزال. وصور المنقلبون هذا الحوار بأنه قلاقل استحقت القمع والوصاية. وقد رد اتحاد طلاب جامعة الخرطوم علي هذا المنطق بمذكرتهم للطغمة في سبتمبر 1959 قائلين: "وكنا نري منذ البداية أنه في ظل الديمقراطية لا في غيبتها يتدرب الشعب علي الحكم النيابي والاستمساك به". وهكذا فرط الانقلاب في عادة الديمقراطية وارسي عادة الاستبداد. وقد فشت العادة في الحكومة والمعارضة معاً وتأبطت الطغم شر السلاح وشرهه وافرغوا السياسة من الشعب مصدر السلطات.
لقد اخذت الطغم اللاحقة قسماتها الدميمة كلها من نطفة نوفمبر الأولي. فقد اصدرت قانون دفاع السودان الذي اساء للعدل بسنة المحاكم العسكرية للمدنيين والاعتقال التحفظي. وتعدت علي حرية التنظيم بالغاء قوانين العمل النقابي بأخري موسوسة مثل قانون نقابات العمال 1960 وقانون رقم 9 لإتحاد طلبة جامعة الخرطوم وقانون المجلس المركزي الذي ترأس رئيس القضاة وقتها اللجنة التي وضعت مسودته الظالمة. وصادرت استقلال الجامعة حتي ضمتها للتربية والتعليم في 1963. وأرادت تأميم الصحافة واكتفت بصحيفة لسان الحال: البرش بقرش. وضيقت علي الصحف تضييقاً جعل الكتابة مستحيلة. وشملت قائمة المحرمات "الكتابة عن كيشو ولجنة نادي الهلال" و "التعرض بالنقد للإذاعة ومراقبها التاج حمد". وبدأت الطغمة حرب الجنوب الثقافية باستخدام الأسلمة والتعريب كأداوات حكومية. فقد هدفت "البلدوية"، المنسوية الي علي بلدو، عكس مجري السياسة الاستعمارية بنشر الاسلام والعربية بدلاً عن الانجليزية والمسيحية. واحتج الجنوب علي ذلك حتي توج ذلك بتأسيس حركة أنانيا. وعلقت نوفمبر رفاق السلاح المعارضين علي المشانق وقتلت الأنصار في المولد ورحلت جماعة النوبة التاريخية من موضعها بغير استئذان. وقد مشت الطغم اللأحقة علي دربها.
انتهت طغمة نوفمبر الي شيء من القبول عند بعض العامة والخاصة. وقد يصدق عليهم قولنا أن الكلب يحب خانقو . . . الأول. ويثني البعض عليها بزعم انها استسلمت للأرادة الشعبية بغير ملاواة مع أنها أزهقت في أكتوبر أربعين نفساً في مدن البلاد المختلفة. ولم يكن بوسع الطغمة البقاء لأكثر ما بقيت. فقد حانت ساعة أزمتها الثورية. وهي أزمة يكون بها النظام المقوض ليس قادراً علي الحكم وحسب بل لا يعود الناس يطيقون البقاء في ظله لأطول مما فعلوا. وقد صور ذلك استاذنا عبدالخالق محجوب بقوله أن نظام نوفمبر رأي الدولة نفسها ،ناهيك عن المجتمع المدني، تنفصل عنه بالكلية وتتركه عارياً من الغطاء.
نشأ خلط الكثيرين منا حول طبيعة طغمة نوفمبر من فساد منهج معارضي الطغم اللاحقة. فقد تبنوا في تهافتهم علي السلطان فكرة أن الطغمة المكتوين بها في يومهم نظام لم يقع لنا من قبل "و"ورانا جديد ما كان علي بال". ولهذا غابت عن وعينا شفرة نوفمبر التي هي في صميم كل الطغم. ومن الجهة الأخري ركزت المعارضة علي الأحتفال بثورة اكتوبر كأداة مجردة لتغيير النظم وليس كحدث تاريخي لا يستقيم فهمه بغير تحليل نظام نوفمبر. وهكذا دعا د. الترابي من أيام الطلاب الي القيام بثورة إكتوبر كأنها يمكن أن تقع لمجرد أن شيخنا قد ترك طغمته مغاضباً.