دكتور الوليد آدم مادبو
“ما لم يُواجه الإنسان ظله، سيُسقطه على الآخرين، فيراهم أعداءً، ويقاتلهم في حين أنه يقتل ذاته.”
— كارل يونغ
ليست الحرب في السودان قدرًا أعمى، بل ثمرةُ وعيٍ فاسدٍ سُقيَ بماءِ الحقد والكراهية حتى أثمر موتًا. وما من سبيلٍ إلى وقف الانتهاكات إلا بوقف الحرب نفسها، لأن الانتهاك في الحرب ليس شذوذًا بل طبيعة؛ وما من سبيلٍ إلى وقف الحرب إلا بالجلوس إلى المفاوضات، فالمعركة التي تبدأ في الميدان لا تُختم إلا على طاولة السياسة، حيث تُرخى سياط اللغة بدلًا من أعناق البشر.
غير أنّ الكيزان ــ ورثة الاستبداد وعُشّ الدهاء الأسود ــ يدركون أن أيَّ تسويةٍ جادّةٍ تعني خروجهم الكامل من المشهد، وانكشافَ فسادهم الممنهج أمام الملأ، لذا فهم يفضّلون احتراق الوطن على ذهاب سلطانهم، ويستسيغون خراب الأرض على سقوط عروشهم، ولو كان الثمن أن يُلقى بالشعب كلّه إلى المقصلة لينجوا هم من حكم التاريخ.
غير أن أخطر ما خلّفته هذه الحرب ليس الدمار المادي، بل الخراب النفسي الذي أصاب جيلًا كاملًا من المقاتلين.
لقد كتب فرويد في ما وراء مبدأ اللذة أن الإنسان حين يُساق إلى دائرة العنف المستمر يفقد توازنه الغريزي ويستسلم لما أسماه بـ”غريزة الموت” التي تبحث عن التدمير كي تُبرّر وجودها. وفي الحروب الأهلية، كما شرح إيريك فروم في تشريح التدميرية البشرية، تتفكك البنية الأخلاقية للجندي لأن القتل يصبح وظيفة لا جريمة، وينقلب مفهوم البطولة إلى رخصةٍ للانتهاك. أما فيكتور فرانكل فبيّن أن الإنسان حين يُحرم من المعنى، يصبح العنف وسيلته الوحيدة لإثبات أنه ما زال حيًّا.
تلك هي حال كثير من الجند في بلادنا اليوم؛ شبابٌ حُرموا من المعنى، فاختزلوا وجودهم في البندقية. سُلبوا القدرة على الرحمة، فتخشّبت فيهم الحواس، حتى باتوا ـ كما يصف علماء النفس العسكري ـ ضحايا “التبلّد الوجداني”؛ لا يشعرون بالألم، ولا يمتثلون لأوامر القيادة إذا ما أمرتهم بمعاملة الأسرى بكرامة أو حماية المدنيين برأفة.
لقد تحوّلت الحرب إلى مختبرٍ فظيعٍ لتشويه النفوس، وأضحى القتل طقسًا من طقوس الانتماء، والدم وسيلةً لحفظ الهوية.
إن ما نشهده اليوم من جرائم ضد الإنسانية ليس سوى فائض تلك المخزونات التعبوية القديمة؛ فكلُّ رصاصةٍ تُطلق، وكلُّ قريةٍ تُحرق، إنما هي تكرارٌ لتلك اللحظة الأولى حين سُرِق من هذا الشعب وعيُه، وحُوِّلت ذاكرته إلى سلاحٍ ضده بواسطة أولئك الذين عبأوا الأجيال بشعارات الخلاص الزائف، وملأوا عقولهم بأوهام التفوّق الديني والعرقي والجهوي، ثم ألقوا بهم إلى أتون حربٍ كريهةٍ يدّعونها “معركة الكرامة”.
ولذلك، فإن أولى خطوات الشفاء هي الكفّ عن عبادة الدم، والاعتراف بأن النصر الحقيقي ليس في سحق الآخر، بل في استعادة إنسانية الجميع. فالسودان لن يُبنى بالانتقام، ولا بالهتاف للجراح، بل باستعادة المعنى الضائع في الإنسان.
حينها فقط، يمكن أن يولد السودان من رماده، لا بوصفه دولة المنتصرين، بل وطن الناجين من الكراهية — أولئك الذين خرجوا من الجحيم حاملين شعلة الوعي الجديد: وعي الحياة بعد الموت، والرحمة بعد الجنون.
October 30, 2025
auwaab@gmail.com
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم