جيش بلا وطن… ووطن بلا درع واقية

دكتور الوليد آدم مادبو

إنّ الجريمة التي تُرتكب باسم الوطن هي أبشع من الجريمة التي تُرتكب ضده.
— سيمون دو بوفوار

في الخرطوم كما في الجزيرة، وفي الفاشر كما في القرى التي لم تعد تُعرف بأسمائها، يواصل الجيش السوداني فعلته الكبرى: تحويل المواطنين إلى دروعٍ بشرية، والمدينة إلى ساحة اختبارٍ لأخلاق الانسحاب. حين يعجز عن التقدّم، يختبئ بين البيوت؛ وحين يقرر التراجع، يترك خلفه الأرواح العالقة بين الموت والنهب، كأنّها فائضٌ لا يدخل في حسابات “السيادة”.

إنها ليست أخطاء حربٍ عابرة، بل هندسة مأساةٍ واعية. انسحاباتٌ مدروسة تخلّف فراغًا أمنيًا، وفوضى تُستثمرُ إعلاميًا وسياسيًا، في حلقةٍ شيطانيةٍ تجعل الجريمة جزءًا من الاستراتيجية لا نقيضها. هذا الجيش الذي فقد بوصلته الأخلاقية، بات يحارب من أجل إثبات وجوده لا من أجل حماية وطنٍ ينهار.

كلّ مرةٍ ينسحب فيها الجيش تاركًا المدنيين لمصيرهم، نسمع التبريرات الواهية: “الظروف الميدانية”. لكن الحقيقة أعمق وأظلم: الظرف مصنوع، والفوضى مقصودة، لأن من اعتاد الحكم بالدم لا يعرف طريقًا آخر لتجديد شرعيته. لقد بات هذا الانسحاب الذي يجرّ معه الموت يُدارُ كما تُدار خطوطٌ إنتاجيةٌ، تُحتسب له نتائجُهُ الإعلامية قبل أن تُقاس خسائره الإنسانية.

لقد نجح التنظيمُ الإخواني في إعادةِ إنتاجِ الحرب كاقتصادٍ موازٍ، يبيعُ فيه الخرابَ بأثمانٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ باهظة. فالذهبُ الذي يُهرَّب من المناجم ليس سوى وجهٍ آخرَ للدمِ المسفوحِ في المدن، وعمولاتُ السلاحِ والمساعدات الإنسانية تُغذّي شبكةَ اللصوص الذين ينهبون محنةَ الشعبِ ليشتروا بها شرعيةَ البقاء. وهكذا تتحوّلُ المأساةُ إلى مصدرِ رزقٍ، ويتحوّلُ النزفُ الوطنيُّ إلى مشروعِ استثمارٍ طويلِ الأمد.

والحال هكذا، فإن التنظيمُ الإرهابيُّ هذا لا يخشى سوى أن يُحرَمَ من وسيلته الوحيدة: سوقِ الشبابِ نحو التهلكةِ بإعلان “التعبئة العامة” (التي هي تعبئة خاصة) كي تُهيَّأ قياداتهُ لمساوماتٍ وصفقاتٍ تبقيهم في سدّةِ الحكمِ مدةً تبدو قصيرةً على الورق، لكنها طويلةٌ على جسدِ الأمة، مستغلّين بذلك معاناةَ الناسِ ووجعَهمُ حبرًا على صفحاتِ البقاء الفاتر والحظ العاسر.

الجرائم في الفاشر ليست حادثة معزولة؛ هي امتدادٌ لما جرى في الخرطوم والجزيرة من قبل: قتلٌ متعمّدٌ للأسرى، استخدامٌ للأحياء كدروعٍ بشرية، وإدارةٌ مريبةٌ للانسحاب تسبقها تعبئةٌ إعلاميةٌ مدروسة. كأنّ من يحملون السلاح يقولون للشعب: ضحوا بأنفسكم من أجل اكتمال هيبتنا العسكرية. لكن الهيبة سقطت. وما بقي سوى العار المؤسّس: جيشٌ يحتمي بالمواطن، لا يحميه؛ ويتّجر بمأساته، لا يجبرها.

في غيابِ تدابيرَ إداريةٍ نافذة وأسسِ حكامةٍ راشدةٍ ووحدةٍ إعلاميةٍ قادرةٍ على فضحِ الجريمة لا تبريرها، سيظلُّ المشهد يتكرّر. وسيقعُ الدعمُ السريعُ في هذا الفخ مرارًا ما دام غيابُ الضوابطِ الأمنية وتفشي النزعة الانتقامية يسمحُ بتكرارِ نفسِ المشهد؛ وستتكرّرُ المآسي في الأبيضِ وفي الدبةِ وفي كلِّ قرىِ الشمالِ حين تزحف الجيوش لتحرير أرض الحضارات من بور الشعارات.

اليوم، يقف السودان على مفترقٍ وجودي: إمّا أن يواجه حقيقة جيشه الذي فشل في الميدان الأخلاقي قبل الميدان العسكري، أو أن يظلّ عالقًا في التاريخ. فما يبقى في السجلات هو رواية المجرم، لا ذاكرة المقتول. لا خلاص دون اعتراف، ولا اعتراف دون مساءلة. فالوطن الذي يُبنى فوق أنقاض الذاكرة سيظلّ هشًّا، والوطن الذي ينسى دماءه سيفقد بوصلته الإنسانية إلى الأبد.

ختامًا، المساءلة هنا ليست شعارًا رنانًا، بل شرطٌ لإعادة تأسيسِ الممكن: مساءلةٌ قانونيةُ للأفعال، مساءلةٌ اقتصاديةٌ لشبكات النهب، ومساءلةٌ أخلاقيةٌ لكلِّ من وظّفَ دماء المواطنينُ ورأى فيها ورقةَ بقاءٍ. والأهمُّ من ذلك كله، هو استعادةُ مفهومِ الجيش كحارْسٍ للمدنيين لا كموفد لاستثمار محنة المواطنين.

الشعوبُ ليس تجاربَ تُدارُ ولا سلعةً تُسوَّق؛ إنهم بشرٌ لا تُستعارُ كرامتُهم للدفاع عن الباطل، ولا تُتَّخذُ مشاعرهم دروعًا لحماية الوطن. إنهم أناس يحلمون بوطنٍ يحميهم بالعدل والدرع الواقية لا بعصابة أو شرذمة تغريهم بالإفك والحيل النافية.

‏November 3, 2025

auwaab@gmail.com

شاهد أيضاً

تحرير الفاشر: سقوطُ الوهم وولادةُ الوطن

دكتور الوليد آدم مادبو تُصرُّ بعض النخب المركزية على توصيف ما جرى في الفاشر بـ”السقوط”؛ …