بقلم: لوال كوال لوال
lualdengchol72@gmail.com
ما يجري في دارفور اليوم ليس حدثًا عابرًا في تاريخ السودان، بل هو لحظة كاشفة تختصر مأساة دولة انهكتها الحروب وتنازعتها الميليشيات، حتى غابت عنها ملامح العقل الوطني. لم تعد المعارك في الفاشر، ونيالا، وزالنجي، مجرد مواجهات عسكرية بين طرفين مسلحين، بل تحولت إلى مرآة تعكس عمق الأزمة التي يعيشها السودان في بنيته السياسية والاجتماعية والنفسية. فكل طرف يرى في الآخر تجسيدًا للشرّ، ولا أحد يسائل نفسه كيف وصلنا إلى هذا الدرك من العنف والخراب. لقد خرج الجيش السوداني والدعم السريع من رحم واحد، وتشكّلا داخل بيئة واحدة تتغذى على ثقافة القوة والغلبة لا على فكرة الوطن والمواطنة. كلاهما تشرب لغة الإقصاء منذ بداياته الأولى، وتعلّم كيف يحمل السلاح قبل أن يتعلم كيف يصغي إلى صوت العقل. الحقد بالنسبة لهؤلاء ليس طارئًا، بل هو إرث متجذر في عقلية النظام الذي أنشأهم، نظامٌ كان يرى في السلاح وسيلة للبقاء وفي الحرب أداة للحكم. لذلك لا فرق جوهريًا بين الجيش والدعم السريع، فكلاهما وجهان لعملة واحدة، كلاهما يتحرك بلا مشروع وطني واضح، وكلاهما يسعى إلى البقاء ولو على أنقاض الوطن. في بدايات تكوينه، كان الدعم السريع جزءًا من بنية النظام القديم، أُنشئ بقرار من رأس الدولة المشير عمر البشير وتحت إشراف المؤسسة العسكرية نفسها. لم يأتِ من الخارج، ولم يكن غريبًا عن منظومة الحكم التي رأت فيه أداةً لضبط الأطراف وقمع التمردات. لكن حين اختلفت المصالح بينه وبين قادته السابقين في الجيش، انفجر الصراع، واشتعلت النار التي أحرقت السودان كله. ومع كل رصاصة، كانت الحقيقة تتعرى أكثر: نحن أمام صراع أبناء البيت الواحد، الذين تشربوا الكراهية في المهد، وتربوا على منطق “من ليس معنا فهو ضدنا”. وما يحدث في الفاشر ليس إلا امتدادًا لذلك الإرث الدموي. فالقتل أصبح وسيلة لتأكيد الولاء، والتمثيل بالجثث صار رسالة سياسية، وكأننا عدنا إلى زمن الحروب الأولى في الجنوب حين كانت الجثث تحمل رسائل الكراهية أكثر مما تحمل ملامح الإنسان. لقد قُتل أحد قادة الدعم السريع علي يعقوب وتم التمثيل بجسده وتداول العديد في وسائل التواصل الاجتماعي تلك الفيديوهات ما بين مؤيدة ومعارض، فردّت قواته بالمثل، لتعيد إلينا نفس البضاعة الفاسدة التي لطالما صدّرها النظام البائد إلى الجنوب ودارفور على السواء. في تلك اللحظة، سقطت كل الشعارات التي كانت تتحدث عن “استعادة الدولة” أو “إعادة الشرعية”، إذ لا يمكن لمن يمارس ذات الأسلوب الوحشي أن يدّعي امتلاك مشروع وطني. لكن الأخطر من المعارك الميدانية هو الحرب النفسية التي تُدار من خلف الشاشات. فقد تحولت شبكات التواصل الاجتماعي إلى سلاح فتاك يزرع الكراهية ويؤجج الأحقاد. صار كل طرف يستخدم الإعلام لبناء روايته الخاصة وتزييف وعي أنصاره، حتى لم يعد السودانيون يعرفون أين تبدأ الحقيقة وأين تنتهي الأكاذيب. الكلمات تحوّلت إلى رصاص، والصور المزوّرة أصبحت ذخيرة في معركة الوعي. لم يعد هناك صوتٌ للعقل أو مساحة للحقيقة، بل جيوش إلكترونية تتبارى في التحريض، تنشر خطاب الكراهية وتبرر القتل تحت لافتات الوطنية أو المقاومة. وهكذا، تماهت الحدود بين الحرب الواقعية والحرب الرقمية، فأصبحت دارفور تشتعل بالنار في الميدان، وتُغذى بالتحريض على المنصات. لقد فقد السودان، في خضم هذه المأساة، بوصلته الأخلاقية والسياسية. لم يعد هناك من يستطيع الادعاء بالبراءة، فكل طرف غارق في دماء الآخرين. وحين تسقط القيم، يصبح الوطن ساحة مفتوحة لكل طامع. تدخلت القوى الإقليمية لتغذي النار بزيت مصالحها، فكل دولة تبحث عن موطئ قدم في الجغرافيا السودانية المنهكة. تتغير الشعارات لكن الهدف واحد: السيطرة على ثروات السودان وتفكيكه إلى كانتونات تابعة. بينما المواطن البسيط، الذي لا يملك إلا حلم السلام، يُساق يوميًا إلى الموت باسم الوطن الذي لم يعطه شيئًا سوى الحروب. لقد آن للسودانيين أن يدركوا أن ما يجري ليس صراعًا من أجل السلطة فحسب، بل هو معركة من أجل بقاء الوطن نفسه. فحين تتشابه الأساليب وتذوب الفوارق بين الجلاد والضحية، يصبح السؤال الأكبر: من بقي يحمل مشروعًا للحياة؟ من بقي يؤمن أن السودان يمكن أن يُبنى على غير ركام الموت؟ لا يمكن لوطنٍ أن ينهض طالما ظل جيشه وميليشياته يتنازعان على من يملك السلاح لا من يملك الرؤية. ولا يمكن لسلام أن يولد في ظل خطاب الكراهية الذي صار أقوى من صوت الضمير. إن الخروج من هذا النفق يبدأ بإعادة تعريف معنى الوطنية، وبفصل السلاح عن السياسة، وإعادة بناء الجيش على أسس مهنية لا أيديولوجية. كما يبدأ بإيقاف ماكينة التحريض على وسائل التواصل، وإحياء قيم الوعي والمسؤولية في الفضاء العام. فالمعركة اليوم ليست فقط على الأرض، بل على عقول الناس. إن لم يتحرر الوعي، فلن يتحرر الوطن. دارفور اليوم ليست مجرد إقليم منكوب، بل هي قلب السودان الذي ينزف أمام صمت الجميع. وإذا لم نُنهِ هذا الجنون، فإن الفاشر لن تكون النهاية، بل بداية لانهيارٍ أشمل، حيث لا يبقى من السودان سوى أطلال تتنازعها الميليشيات والجهات الأجنبية. ومع ذلك، ما زال هناك بصيص أمل؛ فالشعوب التي تتعلم من مآسيها قادرة على النهوض. يكفي أن نقول الحقيقة كما هي، دون تزييف أو خوف، وأن نكفّ عن البحث عن بطلٍ في ساحةٍ لا أبطال فيها. فكل من أشعل النار سيحترق بها، كما يقول المثل السوداني: الجمرة بتحرق الواطيها.
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم