دليل الحكمة في دوامة “يوم لك ويوم عليك”

من بطون كتب
sanhooryazeem@hotmail.com
أمس مضى والغد مجهول:
دليل الحكمة في دوامة “يوم لك ويوم عليك”

مقدمة:

في مواجهة الدهر المتقلب
يُعدّ التساؤل عن طبيعة الحياة وتقلبها من أقدم الأسئلة التي أرقت الفلاسفة والشعراء. هل الدنيا “حلوة” دائمة أم “دوارة” تحمل الخير والشر بالتناوب؟ هذه الثنائية – “يوم لك ويوم عليك” – ليست مجرد وصف لتقلبات الزمن، بل هي مفتاح لفلسفة الوجود التي تضع الإنسان أمام محكّ المسؤولية والتعلم. نحن نعيش بين ماضٍ انقضى لا نملك استعادته، ومستقبل لا نعرف مداه، ويبقى الحاضر هو “كورس التجارب” الوحيد الذي نملكه، حيث نُبحر بين دور المُتعلِّم ودور المُعلِّم. هذا المقال يغوص في عمق هذه الأبعاد، مستخلصاً الحكمة من أصول معرفية راسخة لتشكيل دليل للعيش الواعي في دوامة الحياة.

  1. يوم لك ويوم عليك: حكمة التقلب الرواقية
    إن أول دروس الحياة هو عدم الثبات. هذا التقلب، الذي يُعبّر عنه بـ “يوم لك ويوم عليك”، ليس عقاباً، بل هو آلية كونية للنمو.
    لقد أدركت الفلسفة الرواقية، كما في تأملات ماركوس أوريليوس، أن جذور القلق تكمن في محاولة السيطرة على ما هو خارج عن إرادتنا. التقلب هو جوهر الدهر. الحكمة هنا تكمن في تبني مفهوم “حب القدر” (Amor Fati)؛ أي تقبّل كل ما يأتي به اليوم – سواء كان خيراً أو شراً – ليس باستسلام، بل كجزء لا يتجزأ وضروري من خطة الوجود الأكبر. فاليوم الذي “عليك” هو المختبر الذي يُختبر فيه صبرك وقوة تحملك، تماماً كما أن اليوم الذي “لك” هو فرصة للشكر والتواضع. وفي الأدب العربي، نجد صدى هذه الفكرة في حكمة ابن المقفع الذي أكد أن التقلب هو سنة الوجود، وأن الحصيف هو من يستعد للوجه الآخر للعملة قبل أن تظهر.
  2. الحياة كـ “كورس تجارب”: صناعة المرونة النفسية
    الحياة، في جوهرها، هي بالفعل “كورس تجارب” غير مُعنون. والسؤال ليس عن طبيعة التجربة، بل عن كيفية تفاعلنا معها.
    يُقدم لنا علم النفس الإيجابي، وعلى رأسه مارتن سليغمان، مفهوماً جوهرياً هو المرونة النفسية (Resilience). هذه المرونة لا تعني أننا لا نتأثر بالتجارب الصعبة، بل تعني قدرتنا على الارتداد والنهوض منها، بل والأهم: تحقيق ما يُعرف بـ “النمو ما بعد الصدمة” (Post-Traumatic Growth). التجارب المؤلمة هي التي تُعرّفنا على أقصى حدود قدراتنا الداخلية وتُعيد ترتيب أولوياتنا. بهذا المعنى، يصبح “الكورس” فعالاً عندما نحيل الإخفاقات إلى بيانات معرفية والآلام إلى دوافع للتحسين، بدلاً من اعتبارها محطات نهائية في طريق الفشل.
  3. فلسفة الزمن المحدود: قيمة الحاضر
    “أمس مضى”، و”غداً أمره ليس بيدنا”، و”عمر مكتوب لا نعلم مداه”. هذا الاعتراف يضعنا وجهاً لوجه أمام حقيقة الزمن المتقطع والمحدود.
    إن أحد أعمق التحليلات للزمن يأتي من القديس أوغسطين في كتابه “الاعترافات”. أوغسطين يرى أن الماضي والمستقبل موجودان فقط كأبعاد في عقل الإنسان (حاضر الماضي كذكرى، وحاضر المستقبل كتوقع). أما الزمن الوحيد الحقيقي الذي نمتلكه، فهو الحاضر الذي نعيش أحداثه. من هنا، تستمد اللحظة الراهنة قيمتها القصوى، وهي اللحظة التي يُمكننا فيها فقط أن نُفعل إرادتنا ونُمارس التعلم ونُمارس التغيير.
    وفي الفكر الإسلامي، يؤكد الإمام الغزالي في “إحياء علوم الدين” على هذه القيمة، حيث يُعتبر الوقت “رأس مال العبد” الذي يجب أن يُحاسب عليه في كل نَفَس. إن التركيز على اللحظة الآنية هو فن العيش الواعي الذي يُدرك قيمة الحياة المكتوبة، لكنه لا يستسلم لـ”أمر الغد” المجهول، بل يعمل اليوم بيقين.
  4. هل نتعلم أم نُعلّم؟ المسؤولية الأخلاقية للممارسة
    طالما أن الحياة كورس، فنحن بالضرورة نُعلّم ونتعلم في آن واحد. إن ممارساتنا الحياتية ليست معزولة؛ هي ليست دروساً لنا فقط، بل هي منهج حي للآخرين.
    تُفسّر نظرية التعلم الاجتماعي التي قدمها ألبرت باندورا هذا التفاعل المزدوج، حيث يؤكد أن الأفراد يتعلمون بشكل كبير عبر الملاحظة والنمذجة. عندما نتصرف بمرونة، عندما نتحمل مسؤولية أخطائنا، وعندما ننهض بعد السقوط، فإننا نُقدم بذلك نموذجاً حياً ومقنعاً للآخرين، خاصة الأجيال الأصغر. نحن نُعلّمهم بـ “ممارساتنا” أكثر مما نُعلّمهم بـ “نصائحنا”. إن الوعي بهذه الحقيقة يضع على عاتقنا مسؤولية أخلاقية لتجسيد الحكمة التي اكتسبناها، ليصبح مسار حياتنا إرشاداً يضيء دروب الغير.

خاتمة:

فن العيش الواعي
إن الحياة “الدوارة” ليست قدراً سلبياً، بل هي حركة دائمة تضمن استمرارية التعلم. العنوان الذي اخترناه، “أمس مضى والغد مجهول”، يُلخص دعوتنا لـ “فن العيش الواعي”. الحكمة لا تكمن في محاولة ترويض الدهر أو معرفة مكنون الغد، بل في إتقان اللحظة الحالية، والتعامل مع اليوم الذي “عليك” بنفس اليقين الذي تتعامل به مع اليوم الذي “لك”. هذه الدوامة هي مصنع الأبطال والعلماء والحكماء. فلتكن ممارساتنا اليوم هي الدرس الأعظم الذي نُقدمه لهذا “الكورس”، وبذلك نكون قد استوفينا حق الحياة
علينا.

المراجع المعتمدة

ماركوس أوريليوس، التأملات (الفلسفة الرواقية).
ألبرت باندورا، نظرية التعلم الاجتماعي.
مارتن سليغمان، علم النفس الإيجابي والمرونة النفسية.
القديس أوغسطين، الاعترافات (تحليل فلسفة الزمن).
الإمام الغزالي، إحياء علوم الدين (فلسفة قيمة الوقت).
ابن المقفع، الأدب الكبير والأدب الصغير (حكمة التقلب).

عن عبد العظيم الريح مدثر

عبد العظيم الريح مدثر

شاهد أيضاً

من الذي سرق الفقراء؟ الأسواق، ،ام السياسات

من بطون كتبsanhooryazeem@hotmail.comمنبر بنيان مقالات من بطون كتب ليس جديدًا أن يرتفع الفقراء كل يوم …