روح التجربة الأمريكية في بيان الرباعية وغياب السياسي السوداني

طاهر عمر
taheromer86@yahoo.com
بيان الرباعية فيما يتعلق بالمشكل السياسي السوداني أمريكا و السعودية الامارات و مصر روحه روح التجربة الأمريكية فيما يتعلق بفهم ظاهرة المجتمع البشري و ما نتج عنه من إبداع العقل البشري المتجلي في مجد العقلانية.

لذلك عقلانية أمريكا هي التي تجلّت في الضغط على مصر التي لا تريد للسودان نظام حكم ديمقراطي ينعكس على إرتفاع مستويات المعيشة في السودان بسبب الإزدهار المادي الذي يتأتى من نظام الحكم الديمقراطي الذي تكون فيه السلطة مصدرها الشعب.

إرتفاع مستوى المعيشة في السودان كنتاج للإستقرار السياسي و الإزدهار الإقتصادي لا تريده مصر التي تعشم على الدوام في إستغلال موارد السودان المهدرة من مياه و مواد خام غير مصنعة لذلك من المستحيل أن تقول مصر رغم أنها حاضرة في بيان الرباعية قولا يؤكد على عودة الحكم المدني في السودان و ما ينطبق على مصر ينبطق على السعودية. لذلك قلنا أن روح بيان الرباعية هو روح التجربة الأمريكية فيما يتعلق بإيمانها بقيم الديمقراطية و قيم الحرية و قيم الجمهورية.

نظام ديمقراطي في السودان سيكون محرج لعبد الفتاح السيسي الذي يؤسس لنظام حكم تسلطي في مصر و كذلك سيكون نظام حكم ديمقراطي مصدر حرج للملكيات التقليدية و الأمراء و السلاطيين في دول الخليج. لذلك روح بيان الرباعية و هي إبعاد طرفي الحرب و إبعاد الإسلاميين هو نتاج طريقة تفكير العقل الأمريكي و ليس عقل مصر و السعودية و الامارات.

و من هنا نقول للنخب السياسية السودانية ما قامت به أمريكا في بيان الرباعية و ما فيه من عودة للتحول الديمقراطي فقد ساوتكم فيه بنفسها و من ساواك بنفسه ما ظلمك. و لكن هذا التساوي يكون مشروط ببلوغ النخب السياسية السودانية لنصاب السياسي الذي يفهم فكرة الشرط الإنساني.

و للأسف وجود السياسي السوداني المدرك لفكرة الشرط الإنساني وسط النخب السودانية نادر ندرة الكبريت الأحمر و أكبر دليل على ندرته غيابهم و عدم حضورهم في الإجتماع الذي صدر بموجبه بيان الرباعية و هذا أكبر دليل على أن السياسي السوداني في مقام الحاضر الغائب.

بالمناسبة عدم دعوة السياسي السوداني لحضور إجتماعات الرباعية فيه درس بليغ لمن يفهم من السياسيين السودانيين بأنهم كانوا دون المستوى المطلوب من عينة السياسيين الذين يستطيعون لعب دور رجال المرحلة و خاصة أن السودان كان في لحظة إنقلاب زمان و ما أحوجه للحكماء و الفلاسفة و الأنبياء كما قال المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي.

و سيظل السودان في حوجته لرجال المرحلة من السياسيين و سيظل إحتياجهم لفكرة المعجّل أو المسّرع في النظريات الإقتصادية التي تقفز بمستوى وعيهم لإدراك ما يتطلبه مجتمعنا لكي ينقل من حالة المجتمع التقليدي الى أعتاب المجتمع الحديث.

بالمناسبة هناك سبيين ربما يكون وراء إصرار أمريكا على عودة التحول الديمقراطي في السودان و أظن أن الإتحاد الأوروبي و أمريكا قد تفاعلوا مع الشعب السوداني في ثورة ديسمبر المجيدة و ذكّرتهم هذه الثورة المجيدة بالثورات الكبرى ثورات الإنعتاق من أفكار العالم القديم مثل الثورة الفرنسية و قبلها الثورة الإنجليزية.

لذلك سيظل الغرب متعاطف مع الشعب السوداني في ثورته التي إقتلعت نظام الكيزان و بشاعته المتمثلة في شهوة السلطة و سطوة الإستبداد و ثورة ديسمبر وضحّت للغرب أن الشعب السوداني متقدم على نخبه و جسّد فكرة تقدم الشعب و سقوط النخب. و لهذا السبب يستحق الشعب السوداني الدعم من الشعوب الغربية التي تؤمن بقيم الحرية و قيم الديمقراطية الليبرالية و قيم الجمهورية.

و من هنا جاء ضغط أمريكا على كل من مصر و بقية الدول العربية في أن يخرج بيان الرباعية منتصرا لعودة التحول الديمقراطي و إبعاده للجيش الكيزاني و صنيعته الدعم السريع و كذلك إبعاده للكيزان من أي فعل سياسي.

و السبب الثاني على إصرار أمريكا على عودة التحول الديمقراطي في السودان هو أن خطاب الإسلام السياسي في العالم العربي الإسلامي التقليدي قد وصل الى نهايته المحزنة بعد نهاية الكوميديا الإلهية التي خاضتها إسرائيل و قد دمّرت حماس دمار نهائي و أبعدتها من أي فعل سياسي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية و جردتها من سلاحها. و كذلك فعلت مع حزب الله اللبناني بمقتل حسن نصر الله و أجبرت إيران بعد هزيمتها بأن تعود الى داخل إيران و هي مهزومة و تغييرها لنظام بشار الأسد و بالتالي قد إنفتح الطريق لشرق أوسط جديد لا مكان فيه لأوهام الخطاب الإسلامي.

غياب تجربة ديمقراطية راشدة في الدول العربية جعلت سوريا تؤول لأحمد الشرع بعد أن تبنته السعودية و توسطت له عند ترامب و هذا عادي بأن يورث سوريا احمد الشرع لأن الدول العربية تفتقر لتجربة ديمقراطية راشدة يسير على دربها أحمد الشرع. لذلك نقول للسياسي السوداني المطلوب منك بأن تشق طريق نحو الديمقراطية و هذا الطريق غير مسبوق بعهد في العالم العربي و الإسلامي التقليدي. و هذا يتطلب فكر جديد و عقل مدرك لفكرة أن السياسة هي فكرة الشرط الإنساني.

و هذا و على أقل تقدير ما يقوله أدب فلسفة التاريخ الحديثة في القرن الأخير و هو الأدب الذي ينتصر لفكرة الشرط الإنساني في إهتمامه بفكرة المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد و المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد هي روح فكرة العقد الإجتماعي في إنتصارها للفرد و هي الطريق الوحيد للخروج من أدب الهويات الذي ساد في السودان وسط النخب السودانية و الدخول على أدب الحريات التي تنتصر للفرد فهل إلتقط السياسي السوداني الغائب من إجتماعات الرباعية مقصد ترامب و أمريكا بعودة التحول الديمقراطي في السودان مع التأكيد على إبعاد طرفي الحرب العبثية و إبعاد الكيزان؟

المهم في الأمر كما قلت أن روح بيان الرباعية و إنتصاره لعودة التحول الديمقراطي في السودان يعكس روح و تجربة أمريكا و ليس رؤية الدول العربية في الرباعية. و عليه إنجاح بيان الرباعية و إنزاله على أرض الواقع في السودان يحتاج لفكر التجربة الغربية في فهمها لدراسة ظاهرة المجتمع البشري و ليس لفكر الثقافة العربية الإسلامية التقليدية.

و مثل هذا القول صعب جدا تحقيقه وسط نخب سودانية يسيطر على أفقها عداء الثقافة العربية الإسلامية التقليدية للحداثة و أفكار عقل الأنوار بل ما زالت شراسة مقاومة الحضارة العربية الإسلامية التقليدية للحداثة تتجسد في إصرار كثر من النخب السودانية على محاولات الترقيع و محاولة المصالحة بين الحداثة و الأصالة في توفيق كاذب.

و محاولة المصالحة بين الأصالة و الحداثة تعكس وجهي الإنكفاء و الإلتواء للنخب السودانية الهاربة من مواجة مصيرها في زمن كما قال محمد أركون أنه زمن ورطة الفكر الأصولي و إستحالة التأصيل. و هنا ندعوك أيها القارئ أن تقارن بين محمد أركون في حديثه عن ورطة الفكر الأصولي و إستحالة التأصيل و المثقف السوداني و عقله عقل الحيرة و الإستحالة و هو يدعو الى المصالحة بين الحداثة و الأصالة و هيهات.

و لشرح فكرة أن نجاح بيان الرباعية في السودان رافعته فكر التجربة السياسية الامريكية بفلسفتها السياسية يمكننا هنا القول أن تجربة الفلسفة السياسية في أمريكا يتقدم فيها السياسي المدرك لفكرة الشرط الإنساني ليقود كل من الإقتصادي و عالم الإجتماع و الأنثروبولوج و تقدم السياسي المدرك لفكرة الشرط الإنساني و إختياره للفلسفة الإقتصادية التي تحقق معادلة الحرية و العدالة هو قمة دالة فلسفة التاريخ الحديثة و هذا هو البعد الغائب من أفق النخب السودانية في وقتنا الحاضر.

و لتوضيحه أي تقدم السياسي نضرب مثلا بأمريكا نفسها في فترة الكساد الإقتصادي العظيم و تقدم السياسي المدرك لفكرة الشرط الإنساني نجدها في أمريكا و أوروبا مثلا أن روزفلت لكي يخرج أمريكا من فترة الكساد الإقتصادي العظيم أختار فكرة التدخل الحكومي و في ذلك الزمان و فيه تسود فكرة اليد الخفية لأدم اسمث يعتبر شئ لا يصدق إلا أنه أدرك أن أمريكا تمر بلحظة إنقلاب زمان و لا حل غير فكرة التدخل الحكومي و عندما قابله كينز وصف روزفلت بأنه سياسي مشبع بالنظريات الإقتصادية و تاريخ الفكر الإقتصادي و أن إختياره للتدخل الحكومي قد أصبح ممرا إلزاميا لأمريكا لكي تعبر طريقها و تخرج من كسادها الإقتصادي العظيم.

و من هنا يمكننا القول بأن أمريكا لم تدع السياسي السوداني لإجتماع الرباعية لأنها لم تر فيه ملامح السياسي المدرك لفكرة الشرط الإنساني المتقدم على الإقتصادي و عالم الإجتماع كما رأي كينز في روزفلت السياسي المشبّع بأدب النظريات الإقتصادية بل قدم فكرة التدخل الحكومي كبديل لفكرة اليد الخفية و حتى ترامب نفسه و قد أنتخب و أمريكا تعاني من أزمة النيوليبرالية فقد قدم ترامب فكرة الحماية الإقتصادية و هي كبديل لديناميكية النيوليبرالية لذلك نلفت إنتباه النخب السودانية الى فكرة تقدم السياسي على كل من الإقتصادي و عالم الإجتماع و الأنثروبولوج و لكن أي سياسي؟ قطعا السياسي المدرك لفكرة الشرط الإنساني و يعرف أفكار النظريات الإقتصادية التي تعيد للمجتمع و الإقتصاد توازنهما كما فعل روزفلت.

و تأكيدا على فكرة تقدم السياسي على الإقتصادي و عالم الإجتماع في عام 1975 حيث كانت تاتشر زعيمة المعارضة و كانت بريطانيا تعاني من أزمة إقتصادية و هي متزامنة مع نهاية ديناميكية النظرية الكينزية قابلت تاتشر الإقتصادي فردريك هايك لكي تختارأفكاره المتجسدة في النيوليبرالية و كانت تاتشر بإختيارها للنيوليبرالية كانت تجسيد لفكرة السياسي المتقدم على الإقتصادي و أنه هو أي السياسي صاحب القرار و الإختيار لما يعيد لمعادلة الحرية و العدالة حيوتها.

و أخيرا نضرب مثلا بنهرو و هو سياسي كان متقدم جدا في فهمه للسياسة و مناسب لزمن الهند المضطرب أقنع المهاتما غاندي بأن عودة الهند القديمة مستحيلة لذلك ينبغي أن نختار هند ديمقراطية و علمانية و تقنية و بالفعل فقد أصبح أب الديمقراطية في الهند بل أب لأكبر ديمقراطية في العالم و عندما سئل نهرو لماذا اختار الديمقراطية للهند و لم يختار للهند الشيوعية فقال أنه قراء كتاب رأسمال للماركس و لم يجد فيه ما يجعله أن يكون ماركسيا.

و من هنا نقول للنخب السودانية نجاح بيان الرباعية يحتاج لظهور السياسي المدرك لفكرة الشرط الإنساني و المتقدم على الإقتصادي و عالم الإجتماع و الأنثروبولج و نكرر مثل هذا القول لأن النخب السودانية ما زالت يتقدم صفوفها القانوني التقليدي و قد رأينا كيف نتجت من أفكار القانوني السوداني التقليدي وثيقة دستورية إرتضت بشراكة العسكر و فتحت الطريق لإنقلاب البرهان و من هنا نقول للنخب السوداني قدموا السياسي أمثال روزفلت و نهرو و تاتشر و أبعدوا القانوني التقليدي السوداني و المؤرخ التقليدي السوداني الذي لم يدرك بعد أن التاريخ على المدى الطويل يصير علم إجتماع.

و أخيرا في ختام المقال وجب التأكيد على أن يتقدم السياسي المشبّع بالفكر الإقتصادي لأن عالمنا المعاصر قد أصبحت أقانيم مثلثه هي علم الإجتماع و الفلسفة و السياسة و من هذا المثلث تخرج الفلسفة السياسية و الفلسفة الإقتصادية التي ينزلها على أرض الواقع السياسي المدرك لفكرة الشرط الإنساني و أكثر ما يزعج في ساحتنا السودانية ليس غياب السياسي المدرك لفكرة الشرط الإنساني فحسب بل الوجود المزعج للقانوني التقليدي السوداني و المؤرخ التقليدي السوداني و محاولتهما لعب دور السياسي المدرك لفكرة الشرط الإنساني.

عن طاهر عمر

طاهر عمر

شاهد أيضاً

أنثروبولوجيا عمانويل كانط وفك إرتباطها من اللاهوت وما أثر غياب عقل أنوارها من ساحتنا السودانية

طاهر عمرtaheromer86@yahoo.comأنثروبولوجيا عمانويل كانط وفك إرتباطها من اللاهوت وما أثر غياب عقل أنوارها من ساحتنا …