صانع الظلال: تجلّيات خالد أبو الروس في مسيرة الكاشف
وفي العام 1989م، أُسدِل الستار على حياة خالد عبد الرحمن أبو الروس، بهدوء يليق برجلٍ عاش صاخباً بالفكرة، مدهشاً بالكلمة، عميقاً في حضوره، راسخاً في أثره. رحل الجسد، لكن بقي صوته يهمس في الأغنيات، والمسرحيات، والصحف، وفي ذاكرة لا تُبلى.
فلنتخيّله في مشهد الختام، جالساً في ركنه الأثير، يضحك بنصف ابتسامة، وفي عينيه سكون العارف، يرفع نظره قليلاً نحو الأفق، كأنه يصغي إلى صدى أعماله المتفرّدة ينساب من بعيد… ثم يكتفي بالصمت.
فبعض الخلود، حقّاً، لا يحتاج إلى كلام.
1. حين يتوارى الضوء في الكلمة: قصة خالد أبو الروس والكاشف …
- في ذاكرة الفن السوداني، تتلألأ أسماء تركت بصماتها العميقة في وجدان الناس، وبين هذه الأسماء يبرز اسم إبراهيم محمد أحمد أبو جبل، المعروف بـ”الكاشف”، ذلك الصوت الذي حمل شعلة الحداثة الموسيقية في السودان. بصوته الآسر وأسلوبه الفريد، لم يكن الكاشف مجرد مغنٍ، بل كان رمزاً لانطلاقة نوعية في الأغنية السودانية، ونقطة انطلاق لنهضة فنية ما زالت أصداؤها تتردد في قلوب الأجيال حتى اليوم.
- لكن خلف هذا الصوت الرخيم، يقف أدباء ومبدعون لم يحملوا المايكروفون، بل وظّفوا الكلمة، والفكرة، والروح من وراء الستار ليضيئوا درب الفن. منهم سيد عبد العزيز، وعبيد عبد الرحمن، وغيرهم كثير، وفي مقدمتهم خالد عبد الرحمن أبو الروس، الشاعر والمسرحي والمثقف متعدد المواهب، الذي كان بحق “صانع الظلال” في مسيرة الكاشف، يزوده بالإبداع ويوسع آفاق تجربته الفنية.
- في هذا المقال، نُزيح الستار عن فصلٍ من فصول الإبداع المشترك، حيث التقت روحان في محراب الفن، وتكاملت الرؤى بين رجلين شكّلا، بصمتٍ وجَلَد، ملامح وعي جمعيّ لا تزال أصداؤه تتردّد حتى اليوم. لسنا هنا لمجرّد إنصاف اسمٍ طال إغفاله – أبو الروس – بل لنبصر كيف تُنسج أعظم التجارب حين يتلاقى الإخلاص بالموهبة، ويثمر التعاون ما لا تقدر عليه العبقريات الفردية وحدها. إنّ في هذه الشراكة درساً بليغاً: أن الفن لا ينهض على مجدٍ شخصي، بل يُبنى في ظلال التواضع، ويتغذّى من وهج العطاء المتبادل.
2. خالد أبو الروس: من رحاب التعليم إلى أفق نهضة المسرح السوداني …
- وُلد خالد عبد الرحمن خالد أبو الروس في حي ود أرو العريق بمدينة أم درمان، في الثالث عشر من يونيو عام 1908م، فكان مولده إيذاناً بميلاد مبدع استثنائي، سيُخلَّد اسمه في سجلّ الشعر، والمسرح، والسينما، والصحافة، والغناء السوداني. لم تقتصر مساهماته على ميادين الفن فحسب، بل امتدت إلى حقل التعليم، حيث عمل مُعلماً، ناشراً بين طلابه روح المعرفة، ومحفزاً فيهم فضيلة التفكير والانفتاح.
- بدأ خالد عبد الرحمن أبو الروس تعليمه، كغالبية أبناء جيله، في الخلوة، حيث تعلّم القراءة والكتابة وأجزاء من القرآن الكريم. ثم التحق بـمدرسة العباسية الأولية، ومنها انتقل إلى مدرسة أم درمان الأميرية المتوسطة، ثم إلى مدرسة الأمريكان الثانوية بأم درمان، حيث درس فيها ثلاث سنوات. غير أن مساره التعليمي تغيّر، لا بقرار شخصي، بل بتوجيه من والده إذعاناً لرأي عمه، الذي رأى أن يلتحق الفتى بالمعهد العلمي، وهو ما كان. وهناك، بدأت ملامح وعيه الفكري والثقافي تتشكل، وسط بيئة علمية مشحونة بالحراك الأدبي والنقاشات الفكرية المتباينة.
- في المعهد العلمي، القائم بجوار جامع أم درمان الكبير قرب نادي الخريجين، نشب خلاف حاد بين خالد أبو الروس وأحد شيوخ المعهد، انتهى إلى فصله مع مجموعة من زملائه. لم يكن الخلاف شخصياً أو عابراً، بل كان نتيجة طبيعية للتباينات الأدبية والفكرية التي كانت تعصف بأوساط الطلاب آنذاك. فقد انقسم الطلبة إلى ثلاث كتل فكرية متمايزة: فئة أولى كانت تميل إلى أدب أحمد شوقي، أمير الشعراء، وكان من أبرز وجوهها الطالب الأديب التجاني يوسف بشير؛ وفئة ثانية رأت في حافظ إبراهيم، شاعر النيل، النموذج الأكمل للشاعر المعاصر؛ فيما انحاز أبو الروس إلى تيار ثالث، أكثر تمرّداً وتحرراً، متأثراً بمدرسة الأدب المهجري، لا سيّما بأفكار ميخائيل نعيمة، الذي كان معروفاً بانتقاداته اللاذعة لشوقي ومنهجه الكلاسيكي.
- وقد كان أبو الروس في طليعة هذا التيار المجدّد، رافضاً النماذج الشعرية التقليدية، ومنحازاً إلى صوت الذات، والتعبير الحر، والتجريب الأسلوبي. هذا الموقف، بطبيعته، وضعه في صلب المواجهة مع المؤسسة الدينية والتعليمية، وساهم في تفجير الخلاف الذي انتهى بذلك الفصل الذي ترك أثره البالغ في مسيرته اللاحقة، وفتح أمامه أفقاً جديداً من الوعي والإبداع.
- بعد خروجه من المعهد، التحق بالتعليم، فعمل مُعلماً لمادة التربية الإسلامية في مدرسة الهداية بأم درمان، التي عُرفت باسم مدرسة الشيخ الطاهر الشبلي، ثم ضُمت إلى وزارة المعارف (وزارة التربية والتعليم لاحقاً). وقد استمر في العمل بها قرابة ثلاثٍ وأربعين سنة، دون أن يُنقل منها، حتى تولّى منصب ناظر المدرسة، في سابقة نادرة في تاريخ الخدمة المدنية السودانية، تعكس مدى استقراره، وتفانيه، وعلو كعبه في ميدان التربية والتعليم.
- في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، بدأ مسرح الجاليات الأجنبية المقيمة بالسودان في الظهور، خاصة في مدينتي أم درمان والخرطوم، متأثراً بالحركة المسرحية النشطة في مصر آنذاك، مما شكّل ملامح بداية جديدة في الوعي الفني السوداني. وقد لفتت انتباه خالد أبو الروس المسرحية الشعرية “كليوباترا” لأمير الشعراء أحمد شوقي، والتي كانت متداولة بين أوساط المثقفين في الخرطوم. ومن فرط إعجابه بها، حفظها عن ظهر قلب، وظل أسلوبها وتكوينها الشعري المسرحي حاضراً في وجدانه، يلهمه ويحفزه على استكشاف هذا اللون من التعبير الفني.
- لم تكن “كليوباترا” بالنسبة إليه مجرّد نص مسرحي، بل كانت الشرارة الأولى التي أوقدت في أعماقه جذوة الشغف بفن المسرح، وأطلقت فيه الرغبة العارمة في الكتابة الدرامية، لتكون المنطلق الخفي لولادة أول مسرحية شعرية سودانية. وفي عام 1932م، ومن منبر نادي الخريجين العريق بأم درمان، خطّ خالد أبو الروس اسمه بحروفٍ من نور في سجل الريادة، حين قدّم إلى الخشبة مسرحيته الخالدة “تاجوج”، التي تُعد أول عمل مسرحي شعري سوداني متكامل، مكتمل الأركان من حيث البناء الفني، واللغة الرفيعة، والأداء المسرحي المتميّز.
- ومنذ تلك اللحظة المفصلية، استحقّ عن جدارة أن يُتوَّج بلقب “أب المسرح السوداني” دون منازع، إذ كان بحقّ المؤسس الأصيل لهذا الفن في سياقه المحلي، وقدّمه بروحٍ سودانية خالصة، تمزج بين عمق الأصالة الفنية وثراء الهوية الثقافية. ولم تكن “تاجوج” سوى فاتحة عطائه المسرحي؛ فقد أعقبتها أعمال أخرى لا تقل شأناً، مثل “خراب سوبا” و”الهموم”، إلى جانب مجموعة من المسرحيات التي أسهمت في ترسيخ فن المسرح في السودان، وفتحت آفاقاً جديدة للتعبير الدرامي، فكان بذلك أحد أعمدة النهضة المسرحية، وصوتاً إبداعيّاً لا يُجارى في زمن التأسيس.
3. حين تنفّست الكلمات لحناً: سيرة البدايات الشعرية لخالد أبو الروس
- تبدأ ملامح الصنعة الشعرية لدى خالد أبو الروس من نعمةٍ خفيةٍ أهدتها له المصادفات الجميلة؛ فقد كان والده شاعرَ دوبيتٍ متمرساً، لا تخطئه القريحة، وكانت داره، في بعض أيام الجمعة، ملتقى نخبة من روّاد شعر الدوبيت والحقيبة الأوائل، أمثال: يوسف حسب الله، الملقب بـ”سلطان العاشقين”، وإبراهيم أحمد بابكر “العبادي”، وخليل “العازة” فرح، ومحمد “تنبيه الغافلين” ود الرضي، وغيرهم من عمالقة الكلمة واللحن.
- في هذا المناخ الخصيب، تشرب أبو الروس الشعر من جذوره، ونبتت موهبته على تربةٍ وارفةٍ من السماع، والذوق، والمرافقة. بدأ يخط أولى محاولاته في نظم الدوبيت، مستنداً إلى جينات شعرية متوارثة، وإرثٍ حيٍّ يتنفس في مجلس والده العامر بالشعراء والمغنين والمجددين.
- ولم يكن وحده في هذا الدرب؛ فقد وجد في إبراهيم العبادي، رائد النقلة الكبرى من الدوبيت إلى مدرسة الحقيبة، أستاذاً وموجّهاً، يصحح له نصوصه الأولى، ويهذّب عباراته، ويشذّب معانيه، حتى نهضت تجربته على أساس متين من الصنعة والذائقة والرؤية، فكان ميلاده الشعري حقيقياً، أصيلاً، لا وليد مصادفة، بل ثمرة احتكاك حيّ بالتجربة، وملامسة مباشرة للعبقرية.
- وكانت النقلة المفصلية في مسيرة أبو الروس من شعر الدوبيت إلى فضاء الشعر الغنائي المسموع، مع رائعته الخالدة “أنا والحبيب عاوزين نكون على مقرن النيلين سوا”، التي شدا بها عميد الأغنية السودانية الحديثة أحمد المصطفى في عام 1945م، فكانت إيذاناً بانطلاقته في عالم الشعر الغنائي. ثم توالت إبداعاته، فكانت “ما أحلى ساعات اللقاء”، التي غنّاها أيضاً “العميد” أحمد المصطفى، مؤكداً بذلك مكانة أبو الروس كأحد أبرز روّاد الكلمة الغنائية المجددة، وصاحب بصمة فارقة في تشكيل الوجدان السوداني الحديث.
- وهكذا، أبحر خالد أبو الروس من ضفاف الشعر الغنائي بثبات الواثق، لينطلق نحو محيطات الإبداع الأرحب، محمولاً على أجنحة موهبةٍ نادرة، وبصيرةٍ لا تخطئها الأذن ولا يغفل عنها الوجدان. هناك، في قلب هذا الاتساع، التقى بنجمٍ آخر من كواكب الفن السوداني، هو عبد العزيز محمد داؤود، فكان ذلك اللقاء بمثابة شرارةٍ جديدة أضرمت وهجاً لا يخبو. ومن رحم هذا التلاقي، وُلدت “رُدِّي عَلَيَّ يا عَيْنَيَّا، سَفَرَكْ طَالْ، مَتِين الجِيَّة؟”، أغنية لا تُغنّى بل تُحسّ، خيطها الرفيع من حنينٍ موجِعٍ، ونسجها من لهفةٍ تسكن الذاكرة ولا تبرح.
- لم تكن مجرد كلمات على لحن، بل كانت نداءً إنسانياً مبللاً بالعاطفة، يطرق أبواب القلوب في رهافةٍ وشجن. بهذه الأغنية، رسّخ أبو الروس مكانته كشاعرٍ لا يكتب فحسب، بل يسكب روحه على الورق، يمنح صوته للحناجر الكبيرة، ويصوغ من وجدان الشعب مفرداتٍ تتردد في المجالس، وتتوارثها الأجيال كأنها بعض من ذاكرتهم الخاصة.
4. منبر الكلمة وبوصلة الذوق: خالد أبو الروس في رحلته الصحفية
- وفي غيض من فيض إبداعات خالد أبو الروس في رحاب “بلاط صاحبة الجلالة”، تألق كقلم بارع لا يقل حضوراً عن براعته في الشعر والمسرح. بدأت مسيرته الصحفية من بوابة العمل الحزبي، صحفياً في صحيفة “الأمة” الناطقة باسم حزب الأمة، حيث تمرّس في فن التحرير وسط مناخ سياسي وفكري متقد.
- ثم انتقل إلى آفاق أرحب، محرراً للصفحة الفنية في جريدة “النيل”، وهناك أتاح له هذا المنبر التعبير عن رؤاه الفنية ومتابعة الحراك الثقافي السوداني بأسلوبه الخاص، الذي يجمع بين الذوق الرفيع والنقد البنّاء. ولم يقف عند حدود العمل في الصحف، بل أسّس مجلته الخاصة التي حملت عنوان “اضحك”، مجلة ساخرة اتخذت من التهكم الذكي وسيلة للنقد الاجتماعي، وكانت انعكاساً لروحه المرحة ولسانه اللاذع، فجاءت تعبيراً فنياً وصحفياً في آن.
- وفي محطة لاحقة، التحق بمجلة “الناس” لصاحبها محمد مكي الناس، محرراً للصفحة الفنية، حيث واصل نشاطه النقدي، متناولاً قضايا الفن والمسرح والغناء بروح تحليلية عميقة، ورسّخ مكانته كواحد من أبرز الأصوات الصحفية في ميدان النقد الفني.
5. خالد أبو الروس: شُعلة الإبداع الأولى ونشأة التحالف الفني مع الكاشف …
- يقول خالد أبو الروس عن نفسه، تمهيداً للحديث عن نشأة علاقته بالفنان الكاشف، إنه لم يكن “أب المسرح السوداني” فحسب، بل يُعد كذلك من روّاد السينما في السودان، بل ومن أوائل من وضعوا لبناتها الأولى، حتى استحق – عن جدارة – أن يُلقب بـ”أب السينما السودانية”. وكيف لا، وهو صاحب أول فيلم غنائي سوداني، من إنتاج الشركة الوطنية السودانية، حمل عنوان “بنت البلد”، وأُنجز بمناسبة افتتاح أول دار عرض سينمائي وطني في السودان، وهي “السينما الوطنية” بمدينة أم درمان.
- وقد كتب أبو الروس سيناريو الفيلم بالكامل، جامعاً فيه بين القصة والغناء، بمشاركة نخبة من أعلام الطرب في تلك الحقبة، من بينهم: “العميد” أحمد المصطفى، والحاج محمد أحمد “سرور”، والسر عبد الله. فجاء الفيلم تجربة رائدة، مزجت بين الصورة والصوت والكلمة، وقدّمت للفن السوداني نموذجاً مبكراً للسينما الغنائية ذات الطابع المحلي.
- لكن، ويا للأسف، لم يُكتب لهذا العمل أن يُخلَّد بصرياً؛ إذ التهمه حريق أثناء عرضه في سينما “عروس الرمال” بمدينة الأبيض عام 1949م، ولم تُحفظ منه أي نسخة أخرى. وهكذا، غاب الفيلم عن الذاكرة البصرية للسودانيين، لكنه ظل شاهداً على أولى المبادرات السينمائية في البلاد، تلك التي كان خالد أبو الروس رائدها، وصاحب فكرتها، وكاتب سطورها الأولى.
- حملت نهاية عام 1949م بشارة اللقاء الأول بين خالد أبو الروس والفنان الكاشف، وكان ذلك في أحد بيوت الأعراس بمدينة أم درمان. هناك، تلاقت الأفكار، وانسجمت الأرواح، وولدت الألفة الفنية من النظرة الأولى. ومن تلك اللحظة، بدأت شراكة إبداعية أثمرت عن واحدة من أخلد روائع الكاشف: “المقرن في الصباح”، من كلمات خالد أبو الروس، قصيدة تنبض بالجمال والتجديد، وتُعدّ شاهداً أول على كيمياء فنية فريدة جمعت بين شاعر مجدّد وصوتٍ استثنائي.
- لقد كان هذا العمل هذا العمل الفني، “المقرن في الصباح”، وما يزال، تجسيداً حيّاً للجمال والترف الفني الآسر؛ ففيه من الصورة ما يُشبه المشهد السينمائي الحيّ، يتحرك في فضاء مفتوح من الزمان والمكان، مانحاً المتلقي حرية الانتقال والتخيّل دون قيود. لقد استطاع أبو الروس أن يكتب نصاً يُرى كما يُسمع، ويُنقل كما يُتذوّق.
- وفي رائعته “المقرن في الصباح”، يقول أبو الروس، ويشدو الكاشف بصوته العذب الشجي، في تناغمٍ بديع بين الكلمة واللحن:
يا حبيبي، قوماك ننفردْ
عَلَى مقرن النيلِ الظليلْ
الرَّوض بَسَمْ، والطير غَرِدْ
والطَّقس لا حرَّ، لا بَرْدْ
والشمس إِدبان الشروقْ
هِنا يا الحبيبْ نجلسْ نروقْ
وَسْطَ الزهور العاملة روّقْ
تبْسُمْ، أشوفْ دنيا وبُروقْ
بَعْدينْ نَقومْ للنيلْ نَرِدْ
ونَلاعِب الموج يا جميلْ
نور الصباحْ بدا وانتشرْ
ومن المنامْ صِحَت البَشَرْ
لَمَّا السواقي بدَت تسوقْ
والقُمري غنّى بكل ذوقْ
أجملْ صباحْ زاد قلبي شوقْ
إنتَ الحياةْ وأنا ليك عَشوقْ
أَنَا لِيكْ عَشُوقْ، يَا زُولْ عَشُوقْ
لِيكْ طابَ زماني اللِّي كَشَرْ
ورّيني ليهْ ناوي الرحيلْ
شُوفْ “توتي” يا المحبوبْ بدَتْ
كالطفلة باكية تَنَهَّدَتْ
ضمّاهَا ذا النيل الشفوقْ
والطير عمَلْ في نخيلها سوقْ
والشمس طَلّتْ شُوفها فوقْ
فُسحتنا يا سِيِّدِي إِنقضتْ
لازمْ نعودْ عندَ الأصيلْ
- انطلاقاً من أدبيات المتلقي السوداني، يُروى أن الكاشف كان يغني قبل انتشار الميكروفونات ومكبرات الصوت في الحفلات العامة والخاصة بأم درمان، ومع ذلك كان لصوته الرخيم قدرة عجيبة على الوصول إلى أبعد الآذان. ففي ليالي أم درمان الهادئة، حين يشدو الكاشف دون استخدام مايكروفون، كان صوته قوياً ينساب عبر النيل، ليُسمع بوضوح في الضفة الأخرى، عند مقرن النيلين في الخرطوم. يا له من مشهد!
- وهذا ما يعكسه قول خالد أبو الروس في وصف عبقرية الكاشف: فرغم أمية الأخير وعدم تمكنه من القراءة والكتابة، إلا أنه امتلك قدرة استثنائية على سرعة الحفظ، وصوتاً صافياً ونطقاً واضحاً للكلمات، إضافة إلى تلحين سلس يمزج بين الكلمة واللحن بمهارة فريدة. فقد كان يدرك الكلمة الشعرية ويتذوقها منفصلة عن اللحن، ثم يجمع بينهما في انسجام عجيب، لا يبلغه إلا أصحاب الموهبة الفطرية الرفيعة.
- ولعل ما ظهر من موهبة ومقدرات استثنائية في الكاشف هو ما شجّع خالد أبو الروس، في عام 1950م، على إهدائه درّة أخرى من روائعه، وهي أغنية “صابِحني دايماً مبتسم.”
صابِحني دايماً وابتسم
أشوف جَمالك وفتنتَك
صابِحني دايماً وابتسم
صابِحني دايماً وابتسم
ألْقى الملاك بان مُترَسِم
والنور يلوح من وجنتَيك
والخُضرة زانت شفتَيك
موتي وحياتي بكفَّتيك
إنتَ الشرف، سار ليك اسم
والعفّة دايماً حفّتَك
صابِحني دايماً وابتسم
صابِحني ما بين الخَميل
واتغنّى في الروض يا جميل
تجد الأزاهر حفّتَك
ومالت طَرِب حين شافتَك
عِشقَت جمالَك وخِفّتك
وبنضارة بَسْمّت ولفَتك
إِتهادى، خلّي الناس تميل
يا الزّان جمالك عِفّتَك
صابِحني دايماً وابتسم
إِتجلى في وقت الضُّحى
تجد العليل نَعنش صِحى
والصاحِي دون خَمر، انتشى
يا فاضح البال، يا رَشَا
بقلبي افعل ما تشاء
والكون وراك طايع مشى
نور الشمس نورك مَحى
وسِعدتْ عيوني الشافتك
يا حبيب عيوني الشافتك
يا جميل عيوني الشافتك
وسِعدتْ عيوني الشافتك
يا حبيب عيوني الشافتك
- وخُتم هذا التعاون الفني بين الكاشف وأبو الروس بأغنية “حِيْرَة”، التي شاعت بين الناس بعنوان “حَيَّرْتَ أفكاري معَاك”، ليبلغ بذلك عدد الأعمال الخالدة التي سجلاها معاً ثلاث تحف فنية خلّدت في ذاكرة الإبداع السوداني إلى الأبد. وكما أن لكل بداية نهاية، فقد أُسدلت الستائر على هذه الشراكة الفنية المميزة، تاركة إرثاً لا يزول من الإبداع والجمال.
حَيَّرْتَ أفكاري معَاك إنت
إنت وين؟ وين يا سِيِّدِي؟
أخذَ الرياضْ لُطفَك يا سِيِّدِي
والنسمة من ظُرفَك يا روحي
أسكرني طِيب لُطفَك يا سِيِّدِي
يا فِتنة، يا مُغري
يا باسِم الثَّغرِ
يا طلعةَ الفجرِ
يا دُنيا من زهرِ
إنت وين؟ وين يا سِيِّدِي؟
يا الخمرْ في لونَك يا سِيِّدِي
ساحرني بعيونَك يا روحي
كلُّ شيءٍ جميل دونَك يا بدري
يا فِتنة، يا مُغري
يا باسِم الثَّغرِ
يا طلعةَ الفجرِ
يا دُنيا من زهرِ
إنت وين؟ وين يا سِيِّدِي؟
- وعلى الرغم من أن هذا التعاون لم يُثمر سوى ثلاثِ أعمالٍ مسجّلة، فقد كانت كافية لتُخلِّد أثراً لا يُمحى في ذاكرة الإبداع السوداني. إذ انطوت على قدرٍ من الأثيريّة يفيض، وعلى صفاءٍ فنيٍّ يلامس روح المتلقّي، ويستدعي أعمق طبقات التذوّق. لقد أزاح هذا التعاون كثيراً من “القيود الحريرية” التي كانت تُلقَى على كاهل الكاشف، والتي نسجها – عن قصدٍ أو بدونه – أولئك الأماجد: ملوك الرقة والبيان، وحُرّاس الجمال الفني المُذهل، من رموز مدرسته الأُولى، أمثال سيد عبد العزيز وعبيد عبد الرحمن، وغيرهما من شخوص عالمه الغنائي المبكر.
- وقد جاء هذا التحرّر بعد أن انحلّ الكاشف تدريجياً من أسر مدرسة عبقري الحقيبة المسّاح، التي وسمت مراحله التكوينية الأولى بمدينة ود مدني، حين كان يردّد بصوته، إلى جانب عوض الجاك، في دور “الكورَس”، خلف فنان المدينة الأول آنذاك، الشبلي، الذي كان مشبعاً بروح أدب المسّاح الشعري.
- وعليه، يبقى صدى تلك التجربة النادرة ملهِماً وعصيّاً على النسيان، في ذلك التناغم الإبداعي الفريد بين خالد أبو الروس والكاشف؛ حيث التقت الكلمة الملهمة بالنغمة الساحرة، فتفتّقت البساتين أزهاراً نضِرة، وارتفعت الأصوات صخباً جميلاً لا ينطفئ، وإيقاعاً مترعاً بالجمال الخالد.
- لقد كانت شراكةً تتجاوز حدود الزمن، متشبعةً بروح الاكتشاف والمغامرة الفنية، جمعت بين شاعر يكتب بنبض المسرح والغناء، وفنان يشدو بروحٍ متجاوزة لقوالب زمانه. وبينهما، انفتح أفق جديد في الغناء السوداني، أفق أكثر رحابة وجرأة وصدقاً، خطّ ملامحه أبو الروس بالحرف، ورسمه الكاشف بالصوت، فبقي الأثر شاهداً على لحظةٍ خاطفة في عمر الفن، لكنها خلّدت حضورها في ذاكرة الإبداع، كما يُخلَّد النجم في صفحة السماء.
النهاية
بروف/ مصطفى زهير الحسن
m.alhassen2018@gmail.com
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم