لا أصدق أن عمارًا قد مات. كنت، حتى في منشوراته الأخيرة عن مرضه، لا أصدق ما يكتب عن تعرضه لحمى الضنك، وأعتبر ذلك أمرًا بين الجد والهزل كما هو أسلوبه في الحياة، وكما ظللت أتعامل مع شخصيته المحببة لي طيلة معرفتي به، منذ أن توليتُ تحرير الملف الثقافي لصحيفة الرأي العام في أوائل الألفية.
كثيرًا ما التقيته بدار الصحيفة وخارجها، وكثيرًا ما تابعت معاركه المثيرة للجدل، تمامًا مثل شخصيته. كان آخر الشخصيات التي أدلت لي بشهادتها عن الأستاذ محمود محمد طه في مادة الفيلم الذي ظللت أعمل عليه لسنوات، وتعرّض للسطو ضمن مقتنياتي الإلكترونية في هذه الحرب.
قضينا معًا نهارية غاية في المتعة بمنزلي، وسجلتُ له، مع المصور سيف الدين حسن آدم، شهادته عن يوم إعدام الأستاذ، حيث كان من المعروف حضوره في ذلك اليوم ومشاركته بالهتاف (سقط هبل)، والذي كان قد أخبرني به الصديق الراحل الصحفي هاشم كرار كأحد الصحفيين الشهود على الإعدام.
ما هو أشدُّ أهميةً هو أنَّ عمّاراً قد حرص كلَّ الحرص على توثيق كلِّ شيءٍ حول تجربته السياسية وفيها، حتى ولو تضمَّن ذلك إدانةً مباشرةً أو ضمنيةً لنفسه، فقد عاش شجاعا، وفيا لتكوينه السياسي والثقافي ، الذي قد تتفق، او تختلف الناس حوله. كانت كتابات عمّار توثيقًا لكلِّ شيءٍ؛ فقد كنتُ مندهشًا من طاقته الاستثنائية في الكتابة. كتب عن تجاربه مع السياسيين والمثقفين، ولم يُخفِ شيئًا مما دار بينه وبينهم. لم يكن يخشى في الحق لومةَ لائمٍ، وكان يُعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، ويجرِّد كلَّ مدّعٍ ومتفاخرٍ ممّا حاول أخذه دون وجه حقّ.
ذلك من خصال الفارس المغوار، وإنْ كان بعضهم يُرجع ذلك إلى اندفاعٍ طاغٍ في تركيب شخصية عمّار الذي تطوّر من كادرٍ عنف طلابيٍّ في جماعة الإخوان المسلمين إلى منبوذٍ منهم، ثم إلى مصادمٍ شرسٍ لهم أحيانًا، بعد أن وجّه إليهم أصابع الاتهام بالضلوع في حادث السير الذي أودى بحياة زوجته.
كان عمّار ساخرًا، يسخر من كلِّ شيءٍ — حتى من نفسه — وكان يشكِّل موضوعًا دائمًا للإثارة بين السياسيين من كافة الاتجاهات، والذين كانوا يخشونه بلسانه وقلمه.
إنّه السودانيّ القادر على قول ما تعجز الغالبية عن قوله، ولا يفعل ذلك من وراء ستار، بل في وجه من يختار منازلته.
منشور عمار قبل الأخير بصفحته بالفيس بوك جاء مبيناً حالته: ” الحزن الجاثم علي صدري يجعلني اصحو مذعورا رغم مرض حمي الضنك الذي جعلني هيكلا عظميا ولكنها الفاشر لا أقوى تحمل ما حدث”.
اللهم ارحم واغفر لعبدك عمار محمد ادم، واسكنه فسيح جناتك، فقد عاش شجاعَ الرأي، مصادمًا لا تلين له قناة، ودفع أثمانًا فادحة نتيجة ذلك.
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم